من انفلات المضمون إلى ائتلاف السرد

أسئلة لا بد منها :
هل لا نزال نجتر سؤال الرواية العربية في رحلة العذاب، كما عنون بها الدكتور غالي شكري مؤلفه النقدي عن الرواية العربية؟
سؤال يستهدف تحديد رهان دراستنا حول رواية “قرية ابن السيد” لحسن إمامي. نجمله بدءاً في استلهام عناصره من رهانات الرواية نفسها، والتي تتلخص في ما يلي :
لماذا العودة إلى تاريخ المقاومة موضوعا؟
كيف استطاع الروائي حسن إمامي أن يجعل من روايته ملتقىً للمواجد والأفكار، أو بعبارة أخرى، كيف استحضر علاقة الروح في شكله الديني بالمادي في شكله النضالي؟
 ما الذي يميز ” قرية ابن السيد ” عن باقي الروايات المغربية التي تناولت موضوع المقاومة بعيد الاستقلال؟ وهل أسهم البعد الزمني في التجاوز وخلق رؤية جديدة لتاريخ المقاومة المغربية، حين جعل من فكرة التسامح بؤرة الحكي؟
كيف بنى الكاتب علاقة القصة بالخطاب كمضمون اجتماعي؟
أليس الرهان معطىً تاريخيا يستوجب النظر وإعادة النظر، ما دامت حيثيات القول تتجدد وتتغير، بل إن طبيعة الموضوع تنفتح على التجدد المستمر، باعتباره بنية مكونة من الوجدان والثقافة لمرحلة شهدت تحولاتٍ وهزاتٍ طبعتها خيبة الآمال في الاستقلال رغم ما كتبته روايات المصالحة في وقتها، والتي كتبت تمجيدا لانتصارات وهمية حين توقفت عند اللحظات السعيدة؟
كيف إذن، بنى الروائي حسن إمامي من الموروث الثقافي الخام عالمه الروائي؟

إنه لمن الوهم أن نحاكم العمل الروائي إلا بالقدر الذي تمنحه الرواية نفسُها من إمكانات البحث في تمفصلاتها وفق أجزائها وفصولها التي ارتضى لها صاحبها أن تضاهي الكتب الفكرية من حيث عنونتها. ومن الوهم أيضا، أن نحاكم في الرواية كيفية إعادةِ قراءةٍ للتاريخ المغربي من خلال المقاومة التي تأسست على الأحداث والوقائع رغم ما تحيل عليه كثير من الأسماء والأعلام و الأحداث، والتي توهم بأننا أمام رواية تستلهم أحداثها من واقع مرحلة تاريخية محددة .
رهان صعب. يركبه الروائي إذن. إذ كيف سيجعل من المعلوم شيئا غير معلوم. أي كيف استطاع أن يركب التاريخ ليكتب رواية؟
 مهمة صعبة. الرواية صناعة للشخوص والأحداث. خطاب الرواية إبداع يتعالى على الواقع والمألوف. هو اختراق للجاهز والمعطى، تحقيقا للذة والمتعة بتعبير رولان بارط .
 إن ما يستوقفنا في العمل الروائي لحسن إمامي أمران: الأول هو رهان المحكي كمضمون قيمي أساس، والثاني الإشكالية السردية كخطاب استفزازي هام. وعليه سنلج عالم الرواية من مداخل كالتالي:
ـ خطوة أولى في فهم الرهان .
 – انفلات المضمون وائتلاف السرد .
 – سؤال في انحصار القيم .
ـ خطوة أولى في فهم الرهان
 ونستهدف في هذه المرحلة عملية الفهم كما تقدمه الدراسات السيميائية التي تعتمد على التأويل، حيث تجعل من العلاقة الأولى بالنص خطوة أساسية، خطوة التقاء الذات مع النص، اعتمادا على الحدس والافتراض في أفق خلق دلالة محورية، تستمد قوتها البؤرية من رهانات افتراضية .
 وعليه نستأنس برد صاحب الرواية على تعليق للناقد مهدي نقوس الذي ركز على خطاب الأجيال، حيث يقول حسن إمامي :
“..فعلا هو حوار أجيال وتتبع لمنحى التاريخ والتحولات الثقافية والسياسية والاجتماعية، يستلهم العملُ شخوصَه من ربوع الوطن الممتد بين السهول والجبال ومن التجارب الإنسانية واختبار القيم في علاقاتها الحضارية عموما. بالنسبة للمكان فربما يكون مولاي إدريس أو أية مدينة أخرى، إنما جعلته فوق أعلى قمم الاطلس الصغير، حيث الرمز للامتداد العميق للتاريخ المغربي،  كما جعلت الاشتغال على شخصية مشتركة في المرجو تحقيقه وتجسده عند كل واحد منا متجليا في التسامح والعلم والتخلق الرفيع في المعاملة”  .
 من هذا المنطلق تعلن الرواية مشروعها كرهان. هو مشروعٌ ذو طابع موسوم بالتعدد والتنوع. يتوزعه الموضوعي والذاتي في تعالق مع الثقافي والسياسي والديني القدسي والحضاري. هو صراع لأبنية فكرية يغالبها السارد، فيتبادلان أدوار الغلبة، تارة له وتارة عليه، ليسمح للشخصيات بالتكلم عن نفسها، ولتعبر عن رغبة مقموعة سرعان ما عانقها الخطاب الوجداني في صيغ متعددة، تطورت مع تنامي الحلقات السردية الكبرى، منها الدين والجهاد والموت والتسامح والعاطفة والحوار.
 هكذا ينتصر خطاب الدين لرؤية اجتماعية جديدة، تنطلق من الشعور الدفين عند سكان القرية بالغبن كما تؤكده بساطة الحياة التي ساعدت على ترسيخ التواصل بشكل سريع مع الشيخ في البداية، والتي ستفتح باب السؤال عن الوجود الإنساني الذي ظل مرهونا للقدر. وكأن بنية المجتمع المغربي في الثغور والجبال لا تقوم إلا بتحريك الساكن البسيط فيها. تلك البساطة التي تنسجم مع خطاب الدين كمرجع لا يستقيم إلا بالجهاد. بل إن الإنسان المغربي هو تلك الشخصية التي تحمل تمزقها الوجداني في زمان ومكان يخترقان الذاكرة الثقافية، كما يوحي بذلك علاقة شخصية محمد بزوجته سارة التركية التي تحيل ابتداء على الفرح والسرور، وباسم ابنته سماح الذي يدل على التسامح، وابنه سليم المشتق من السلم. تلك هي شخصية محمد الذي بنى مشروع حياته على قرية ابن السيد، سواء في حواراته مع زوجته بالمهجر أو مع المؤتمرين لحظة العودة للمشاركة في مؤتمر التسامح، أو في حديثه مع شخصية سعيد لما التمس منه زيارة القرية من حين لآخر، حتى لا تتقطع الأواصر مع بركة الجد .
 ولذلك سنجد الشيخ كرمز لجماع القيم النبيلة في عرف الإنسان المغربي والعربي عموما، ينتصر في تحويل الشاعر إلى شخصية فاعلة، تقف ضد قيم المجتمع البسيطة، وتسهم في أشكال التحول والمقاومة في المغرب العميق. هذا التاريخ الذي تحدد بشخوصه التاريخية كمادة حكائية تنطق بنفسها ليتأكد مفعول الفكر الديني الأخلاقي كخلفية سنجد امتداداتِها في الخطاب الشمولي للرواية، متخطيا الأمكنة والأزمنة ـ من القرية إلى فرانكفورت بألمانيا مرورا بمناطق المغرب العميق فكندا عبر التواصل الافتراضي مع كيلر .
وسيتحقق هذا التواصل حين ينتصر المؤتمرون بنصرة التسامح بمؤتمر مراكش كقيمة روحية في شكلها الظاهر على الأقل، كما يوحي به قول علي بلقاسم : “هل سيكون التسامح هو أن يتبنى الآخر مواقفي وصورتي واختياري، وإذا ما رفضتها فهو غير متسامح؟ يستفزني هذا الرأي لأنه واقع الحال. واقع العلاقات الدولية وعمليات التأثير والتأثر القائمة بين القوي والضعيف”. ومن جهة أخرى تنتصر القبيلة والقرية بالموت من خلال قبر ابن السيد. وتنتصر الحياة على الموت من خلال ترسيخ فكرة المقاومة بإعادة هيكلة العلاقة مع المحيط البسيط والحياة القروية البسيطة لرجال ونساء القرية، حين توجهن لغزل الصوف والألبسة كتجارة ومعاش .
 هكذا تنطلق الرواية من قرية ابن السيد التي أحياها الموت، وتنطلق الأحداث في شكل حلقات، يطبعها خطاب الروح في شكل رسائل ووصايا ودروس وحوارات وأشعار، ساهم فيها شخوص الرواية التي منحها الراوي مهمة الحديث عن نفسها، حتى ليخيل لنا أن الأحاديث يتوزعها أنواع من الخطابات، منها الدينية المستقلة والذاتية الحالمة، لولا مراجعة النول الرفيع الذي يربط بين الأجزاء، ولن يكون هذا النول الرابط إلا ما يمنحه كل من الدين والحب من سمو صوفي وروحي يرتفع عن الموضوع قبل أن يعود إليه. وهي عملية شاقة، جعلت من سيرورة الحكي أمرا يتعالى على السرد ويحتويه في آن، ليمنح للوصف والحوار دورا هاما في ثأثيث أفضية الرواية .
 إن الرواية تسطر رهانها على التذكر ومراجعة ما تم إغفاله في المقاومة المغربية للاستعمار، على غرار الروايات التي اهتمت بالحواضر دون القبائل الأطلسية التي أسهمت بحرارة في نشر فكرة الجهاد والنضال. الأمر الذي يقتضي من السارد بناء مشروع مشترك عام كشرط تاريخي يقتضي الجماعة، وهو ما نلحظه في الجزء الأول على امتداد 51 صفحة، كإطار للعمل الجماعي بين الشيخ والمريد. الأمر الذي سيجعل الحكاية في الرواية، تعلن ظاهريا توقفها، أو أنها ستتشظى لبنيات حكائية صغرى سيحضنها الجزء الثاني من الرواية، حيث يتقاطع الفني الخيالي بالموضوعي. إنه ذلك الصراع الذي يشكل استحضار تيمات متنوعة ومتراكبة، سيكشف عنها شخصية محمد بن المصطفى – وهو المقيم في ألمانيا – عبر استبطان دواخله بلغة ذاتية، محاولا القبض على الجسور التي تربطه بالقرية كنوستالجيا لا يكف عن التعبير عنها في محاوراته مع زوجته سارة، وبلغة شعرية أسعفت السارد أن يمرر لغته القلقة بموضوعات الحب والتسامح الإنسانيين كحلم غير مؤكد التحقق. وكأن الرواية هي سيرة لشخصية تؤمن بقيم فكرية جديدة تبحث عن تحققها عبر أسئلة وجودية في الجهاد والتسامح والحب والانخراط، في زمن العولمة والافتراض.
 تلكم هي قرية ابن السيد، نقطةُ دمٍ سائحةٍ تخترق الأمكنة والأزمنة والقيم الثقافية العامة. تستهدف نسج تاريخ للتحولات الاجتماعية التي لم تعلن عنها كتب التاريخ، لكن حفظتها الثقافة الشعبية، دون إهمال للحالة الخفية من خلال التعبير عن وعي الراوي بالصعوبات التي تعترض إعادة كتابة التاريخ، تاريخ المقاومة المغربية. وينتهي به الأمر أن يُقِرَّ في السطور الأخيرة من الرواية بهذه الصعوبة، حيث يقول: ” تلك خفايا حيوية لجيوب المقاومة المدفونة في قعر البئر وخلف القمر وبين أغصان فروع الأشجار.. بين هذه المخطوطات المتنوعة… ذلك تاريخ لم يُكتبْ بعد ! “ص203 .
هكذا ينفلت الرهان في الرواية تصريحا.

*إشارة:جزء من دراسة طويلة
بقلم: إدريس زايدي

Related posts

Top