الجوانب بالذات كاشفة للأحزاب الحقيقية والجدية عن سواها.
بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة مثلا، وفِي غمرة الانشغال بتفاصيل تشكيل الأغلبية، هناك حزب مثل التقدم والاشتراكية بقي محافظا على دينامية لقاءاته الإقليمية والمحلية والجهوية، حيث مئات المناضلات والمناضلين ومنتخبي الحزب يجتمعون مع منتدبين من القيادة الوطنية للحزب لتدارس الأوضاع التنظيمية والانتخابية لحزبهم، والتداول في قضايا البلاد، وعشرات اللقاءات أقيمت في هذا الإطار، وهي متواصلة إلى اليوم في أفق تجميع خلاصاتها لعرضها خلال دورة اللجنة المركزية المرتقبة بداية الشهر المقبل.
يعني هذا أن الحزب الحقيقي يستمر في عمله طوال العام، وليست الانتخابات بحسبه سوى واجهة نضال ومنصة ضمن أخريات لإعلان مواقفه وتجريب برامجه وخدمة بلادنا وشعبنا.
كم عدد أحزابنا التي تمتلك إذن هذه الحياة الإشعاعية والتواصلية على مدار السنة بغض النظر عن مواعيد الاستحقاقات الانتخابية؟
التقدم والاشتراكية بقي كذلك من ضمن قوى سياسية قليلة واظبت على عقد اجتماعات أسبوعية لقيادتها التنفيذية، وتصدر عقبها بلاغات إخبارية وسياسية للرأي العام الوطني..
وكل ما ذكر، كان يجري ضمن أجواء هادئة بلا توترات مفتعلة أو صراعات بلا قيمة، وهذا سلوك يُبين أن المشاركة الجماعية في دراسة المواقف والقرارات والإسهام في صياغتها يكسب الحزب متانة ووحدة في جسمه التنظيمي، ويجعل التنظيم الحزبي واقفا ومدافعا عن مواقفه وقراراته.
من جهة أخرى، حمل تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول تمويل الأحزاب ونفقاتها الصادر منذ أيام بعض مؤشرات تندرج، هي كذلك، ضمن الأفق المومأ إليه أعلاه.
وبغض النظر عن كون الحكامة المالية للأحزاب لا زالت في السنوات الأولى لتأطيرها القانوني والرقابي، وهي تحتاج لمراكمة الخبرة التدبيرية والمحاسباتية والتناسق مع الواقع المعاش، فمع ذلك يمكن القول بأن الحزب الذي يحرص على التواصل المستمر مع الرأي العام، وعلى وضوح مواقفه وأفكاره، وعلى المشاركة الواسعة لهياكله التنظيمية في صنع قراراته، لا يمكنه إلا أن يكون شفافا في تدبيره المالي والإداري، وممتلكا لكل شروط الحكامة الجيدة.
هذه الجوانب، ومع ما قد يكون لها من طبيعة ثانوية في نظر البعض، فهي تكشف في عمقها الفرق بين الأحزاب الحقيقية وسواها، وتؤكد أن بلادنا تحتاج فعلا إلى هكذا أحزاب تمتلك شرعية وعمقا ومصداقية، ولها أيضا آليات تدبير وتواصل تقوم على الوضوح والشفافية والمأسسة.
مثل هذه الأحزاب لا تقاس قيمتها فقط بالنتائج الانتخابية أو بعدد المقاعد، برغم أهمية ذلك ومنطقيته، ولكنها تقاس أساسا بوزنها السياسي، وبقدرتها على إبداع الحلول والمخارج أمام البلاد، وبأدوارها السياسية والميدانية والتأطيرية وسط الناس، وبوضوح نظرها السياسي والقيمي والثقافي.
هناك أحزاب وأحزاب….
أحيانا لا يتوقف المراقبون لتطور مشهدنا الحزبي والسياسي كثيرا عند بعض الجوانب المندرجة في الممارسة اليومية بعيدا عن التصريحات الرسمية والمواقف المعلنة والصراعات ونتائج الانتخابات، ورغم ذلك تكون هذه