واقعنا المغربي..مسخ للحداثة

ما نحاول رصده هو تشخيص الواقع العربي وتأخره التاريخي وتأكيد أن من بين العوائق التي تعيق تقدم الثقافة العربية الإسلامية، هو البقاء رهن التقليد، وهو العائق الأكبر في تحصيل التنوير والتقدم.. مما يعني أن المفهوم المركزي في نظرية الحداثة والتي وجب التسطير عليها بخط أحمر هو القطيعة المعرفية مع التقليد المحافظ ومع الفكر السلفي والوهابي، وربط علاقة إيجابية مع مجال التحديث في ظل استمرارية تاريخية من تحديث وتأصيل أو إصلاح… ونحن اليوم مطالبون بنشدان العقل، ذلك العقل الفعلي المخالف تماما للعقل السلفي، مما يعني فسح المجال للطابع العلمي في بعده التجريبي، لأنه وجب علينا ومفروض أيضا تأصيل عقل الفعل، ومن خلال نقض عقل الاسم ولا يكون الإصلاح إصلاحا إنشائيا إلا في إطار الأول وخارج الإطار الثاني، ومن هنا لا مناص من القطيعة مع التقليد المحافظ والتسليم بمفهوم العقل الحديث، باعتباره عقل الفعل الذي هو في حاجة للتراث العربي الإسلامي والذي يفتقده في نفس الوقت، وبالتالي فالأطروحة التي وجب اقتراحها هي نفي الأصالة والقطيعة المعرفية والاستقلال التاريخي من أجل تسهيل عبورنا لثقافة الحداثة.

ما السبيل إلى تحديث العالم العربي؟ وما هي مقومات الحداثة من أجل النهوض بالعالم العربي ومواكبة التطور المتأخر؟

مبادئ الحداثة

يمكننا التركيز على مبادئ ثلاثة: العقلانية، والفردانية، ومبدأ الحرية. وهاته المفاهيم هي ضرورة لإحداث حداثة واقعية وفعلية، وهي بهذا الصدد لا حداثة من غير الحديث عن المجتمع حيث لا حداثة إلا بتحققها في الحياة الاجتماعية، ولا فكر حديث في مجتمع غير حديث، والسبب في ذلك أن انحصار هذه المفاهيم في الذهن، ما كان لأن يكسبها معنى الحداثة. ثم لا سبيل للحديث عن هذه المفاهيم إلا ضمن مفهوم الكونية، وهي مفاهيم ومعارف كونية ولا معنى لها إلا في دلالتها وما يناسب بعدها الشمولي والكوني والمشترك الإنساني، من مفاهيم التراث المحلي العربي.

مفهوم العقل

نقف بهذا الصدد مع أول مبدأ من مبادئ الحداثة وهو مفهوم العقل وهنا يطرح إشكالاً، هل نظر الفكر العربي الإسلامي التقليدي في غير منطق الفكر؟ هل تجاوز النظر في منطق الفعل؟

فأسئلة كهذه تدفعنا أن نتجاوز البحث في مفهوم العقل كمصطلح إلى النظر في حدود العقل العربي القديم، يعني حصر العقل العربي، أي بيان محدودية تصور الفكر الإسلامي للعقل ومنهج بيان هذا الحصر هو النظر إلى مفهوم العقل القديم الذي يتبين أنه مفهوم غير مكتمل، لذلك ما يجب أن يهمنا هو البحث في قضية حصر هذا العقل، وهذا ما سبق أن انتبه له الأستاذ العروي، حينما لاحظ أن ثقافتنا العربية الإسلامية تظل تكرر وتقول منذ عقود “إن الفكر الذي ورثناه عن السلف يدور كله حول العقل، فنؤمن ونقول إن موروثنا الثقافي مبني على العقل إطلاقا” لكن عن أي عقل نتحدث؟

يخبرنا العروي لو حقيقة أنه عقل فلماذا تخلفنا؟

لماذا ندعي العقل والمعقولية وحياتنا اليوم تشهد على دروب من اللامعقول؟ أليس هذا العقل هو أصل الإحباط والذي لطالما اعتززنا به؟

إن هذا العقل الذي تتحدث عنه الثقافة العربية الإسلامية وتحتفي به هو عقل ملتصق ومفارق عن المجتمع المعاصر.

بمعنى الحدود التي وقف عندها العقل العربي، كونه يظل مرتبطا بما هو نظري أي أنه ظل عقلا تأمليا فرديا، وبالتالي هذه هي قمة مفارقة العقل في الثقافة العربية الإسلامية، حيث تم حصر التأويل الإسلامي لمفهوم العقل في المطلق وبالنظر التأملي، وهذا ما أعاقه على التطور.

 مبدأ الفرد

سأختصر القول لأقول إن النقص الذي عانت منه الفردية العربية، هو كونها كانت تطمح إلى أن تكون فردية ليبرالية ما دامت حققت استقلالها وحريتها عن العشيرة التقليدية وسلطة الحاكم، والحال أن هذه المميزات التي تميزت بها الفردية لم تكن كافية لتأهيلها بشكل فعلي، لتتمثل معنى جيدا للفردية في بعدها الاجتماعي والسياسي الحر والمسؤول، وهي بذلك اقتصرت على التقليد الفردي الليبرالي، ولم تتمثل الفردية الفاعلة التاريخية.. وهذا ما كان ينقصها ولا زال.

مبدأ الحرية

 ما هو معروف أنه كلما اتسع مفهوم الدولة، ضاق مجال الحرية الفردية حيث تكون الدولة مستبدة ومناهضة للحرية الفردية، لكن في نفس الوقت ضعيفة ومجالها محدودا، وذلك بخلاف الدولة الليبرالية الحديثة التي كانت وطأتها حقيقية على الفرد الأوروبي لكنها مست تقريبا كل مجالات الحياة.

لطالما كان واضحا تعطش العرب للحرية، وذلك لما يسري عليه من عبودية مطلقة إذ السلطة دولة القهر والاستبداد والديكتاتورية والسطو والاستغلال، “فمن ثمة لا حرية في السلطة”

 تجليات الحداثة

لننشد حداثة لابد لنا من التركيز على تلاث مستويات: الأسرة والمجتمع والدولة، وهي من تجليات الحداثة، وحينما تتكلم عن الأسرة فغالبا ما يكون ذلك مقترنا بقضية المرأة والحياة الزوجية والعائلية التي هي أساس المجتمعات الحداثية والديمقراطية، إذ لا يمكن أن ننشد حداثة دون نشدان أسرة نواتية تنهض على المساواة في الحقوق والواجبات والحميمية..

فيما يخص المجتمع الحداثي، وهو المجتمع الذي يبجل فيه تنظيم السلوك والأفعال ونوع من العقلانية وصار ينظم مبادئه وفقها.

فيما يتعلق بالدولة الحداثية فهي التي تشهد على عملية عقلنة المجالات الاقتصادية والاجتماعية… والدولة بلا حرية ضعيفة متداعية لذلك على الدولة أن تستند إلى الحرية المرهونة بالعقلانية وتحقيق الفردانية الحرة داخلها.

لذلك حينما نتكلم عن حداثة نتكلم عن حضور المجتمع المدني حضورا قويا وفاعلا والعمل بمبادئ حقوق الإنسان مع تماشيها واقعيا لا الاكتفاء بمعاملتها على أنها واقع افتراضي لا حقيقي والاهتمام بشأن العمل الجمعوي والحياة المشتركة.

بمعنى الحداثة الفعلية التي نطمح تحقيقها داخل المجتمع هو أن نترك أكبر حظ لنشاط المجتمع المدني بداخله، لذلك لو سألنا الخطيبي عن ما معنى أن تكون أسرة حداثية، لرد ألا تكون بطريركية، أي “لا يمتهن الرجل فيها ولا المرأة، بمعنى حياة مشتركة متساوية الحقوق”.

لماذا الحاجة للحرية؟

صراحة يصعب الحديث عن حرية في ظل هذا الواقع، في ظل آثار التقنية على الإنسان الحديثّ، ذلك أن عصر التقنية، والذي هو عصرنا الحالي، صار عصر انمحاء الشخصية واندثار الفرادة وانمحاء الحميمية بامتياز، أي أنه صار عصر فرد بلا قسمات وبلا ملامح وهو انتصار لنزعة ماحية للشخصية، من شأنها أن تذيب كل حميمية، وإن لمن شأن هذه الشخصية التي ينغمر فيها إنسان الحداثة انغمارا أن تمحو كل حساسياته الحميمية، لذلك نطرح السؤال: أين الحرية مع هذا الذي صرنا إليه؟

إن عصر التقنية هو عصر فقدان الحرية، وذلك لأن هذا العصر أنشأ طبقة عديمة الشكل همها الأساسي أن تستهلك السخرية والتفاهة والمحافظة على البقاء دون إنتاج. بمعنى أن مفهوم الفردية والخصوصية انمحى هنا بشكل كبير، فأصبح الإنسان منغمسا فيما هو عام، فأي حرية تبقى حيث تسيطر العمومية والجماهيرية على الفرد حد النخاع؟

أريد التركيز على نقطة أخرى مهمة، وهي إذا أراد المرء أن يكون حداثيا معناه ألا يقلد الحداثي في شيء من أمره، وإلا انقلب هو إلى مقلد، فمن شأن الحداثة أنها لا تقبل التقليد، فكل مبدع حداثي وكل مقلد غير حداثي حتى ولو هو قلد الحداثة، فقد تحقق أن الحداثة لا يمكن أن تكون إلا إبداعا، وأن ما من تقليد لها إلا وهو نسخ وما من نسخ لها إلا وهو مسخ، أتذكر هنا طه عبد الرحمن بهذه المناسبة حينما قال: “إن ما يدعيه المثقف العربي من انخراط في الحداثة، إن هو إلا آية في التقليد والقدامة”.

الإشكال عند الأستاذ طه عبد الرحمن، أنه لئن نحن سلمنا أن للحداثة شرطين: التطبيق الداخلي لا الاستيراد، والتجديد لا الاتباع، فإن المشكل أن واقعنا لا يستوفي هذين الشرطين، فلا هو تطبيق داخلي لروح الحداثة، ولا هو تطبيق مبدع فيها، واقعنا الحالي ليس تطبيقا لروح الحداثة، وإنما تطبيق آخر لروح الحداثة، أي نسخ لتطبيق غربي لها، ولا يمكن أن نسمي ذلك واقعا حداثيا، أو حداثة وإنما يمكن أن يوصف بشبه الحداثة أو مسخ الحداثة.

إذن لا وجود لحداثة دون عقل، ولا إبداع دون عقل، وأهمية طرح العقل هنا هو الإشارة إلى مصير العلم التجريبي القابل للاستثمار والمؤدي إلى تطوير المجتمع عن طريق تعميم النشاط الصناعي وما يترتب عن ذلك من تحولات في مختلف الميادين، (التربية، التعليم، التنظيم) معطيا الأولوية للعقل المجتمعي المجسد في سلوك جماعي قار ومنتظم.

هنا يطرح سؤال هل نظر المفكر العربي الإسلامي التقليدي في غير منطق الفكر؟ هل تجاوزه لينظر في منطق الفعل؟

وكإجابة عن ذلك، لابد من الإقرار على أن العقل الفعلي يتأمل في نقض العقل الإسمي ولا يكون التحديث فعليا إلا في إطار الأول وخارج الإطار الثاني.

إذن الحسم الذي نتكلم عنه قد وقع بالفعل في جميع الثقافات المعروفة لدينا ابتداء من القرن 16م إلى يومنا هذا، أكيد لم تتقبله جماعات محدودة هنا وهناك لكنها بقيت معارضة ورافضة لكل تقليد طموحا في التقدم والتطور الحضاري.

إن الجانب السلبي ظهر فقط في أنها لم تؤثر أبدا في اتخاذ القرارات وما حكمها هو التردد وعدم الحسم بدعوى التوسط الملاحظ في الثقافة الإسلامية، وهنا أنا أنفي أن يكون سبب ذلك هو الأمية، لأن الحسم حصل في مجتمعات كانت تعاني من معدلات كبيرة من الأمية مقارنة معنا، وأصبحنا نعاني أكثر من قبل بسبب ضعف اتخاذ قراراتنا على كل المستويات، والأمر يحتاج في مقابل التخلف إلى الإبداع، فالواقع لا يتعلق في هذه الحال بإحياء بقدر ما يتعلق بخلق وإبداع.

بقلم: جهان نجيب

أستاذة باحثة

Related posts

Top