وظيفة المجتمع المدني في التقاضي

وظيفة المجتمع المدني في التقاضي

بعد مرور أزيد من ستين عاما على تبني المغرب لظهير الحريات العامة سنة 1958 الذي يعد مكسبا مهما في تاريخ المغرب، حيث تضمن مقتضيات في غاية الأهمية بالنظر إلى الظرفية التي صدر فيها، كونه أكد على حق تأسيس الجمعيات بناء على نظام التصريح المعتمد في أغلب الدول الديمقراطية، بدل الترخيص الذي يعتبر مقيدا لحرية الجمعيات.
وفي هذا السياق، وبالنظر إلى الأهمية التي أصبحت تكتسيها منظمات المجتمع المدني في وقتنا الراهن، إذ أضحت شريكا لا محيد عنه في تكريس دولة القانون والمؤسسات، الأمر الذي أكدت عليه الوثيقة الدستورية لسنة 2011، حيث مكنت الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام والمنظمات غير الحكومية في إطار الديمقراطية التشاركية من المداخل المؤسساتية للمساهمة في تدبير الشأن العام وصناعة القرار. كما وضعت الضمانات الأساسية لحرية العمل المدني من خلال التنصيص على عدم إمكانية حل الجمعيات والمنظمات أو توقيفها إلا بمقتضى مقرر قضائي، وهو ما يشكل في حد ذاته مكسبا مهما في سبيل تحقيق دولة الحق والقانون ومن شأنه أن يضفي المزيد من الفعالية على العمل الجمعوي وتدعيم أدواره.
حيث يعتبر المغرب من البلدان الرائدة في مجال الانفتاح على جمعيات المجتمع المدني، سواء من حيث إشراكها في بلورة وصياغة السياسات العمومية التي تشرف عليها مختلف مؤسسات الدولة، أو من حيث تمكينها من المساهمة الفعلية في ترجمة هذه السياسات والمخططات إلى برامج ومشاريع لفائدة مختلف شرائح المجتمع من نساء وأطفال في أوضاع صعبة وأشخاص مسنين وأشخاص في وضعية إعاقة..
غير أن هذه الأهمية والمكانة التي حازتها منظمات المجتمع المدني، قد تصير بدون جدوى إذا لم يقابلها إعادة النظر في الترسانة القانونية المؤطرة لحق الجمعيات في التقاضي. بالرغم من أهميتها، إلا أنها تضمنت في فصولها العديد من المقتضيات القابلة للتأويل في اتجاهات تقيد أكثر مما تكرس حقوق الجمعيات، وبالتالي أفرزت في الممارسة العديد من القيود نتيجة للنظرة الغير سليمة والغير إيجابية لمنظمات المجتمع المدني.
من جهة أخرى، اعترف القانون لبعض الجمعيات المتخصصة أن تنتصب طرفا مدنيا في الدعاوى القضائية.

أولا: الإطار القانوني الضامن لتقاضي الجمعيات

1 – المادة 07 من قانون المسطرة الجنائية
يرجع الحق في إقامة الدعوى المدنية للتعويض عن الضرر الناتج عن جناية أو جنحة أو مخالفة، لكل من تعرض شخصيا لضرر جسماني أو مادي أو معنوي تسببت فيه الجريمة مباشرة.
يمكن للجمعيات المعلن أنها ذات منفعة عامة أن تنتصب طرفا مدنيا، إذا كانت قد تأسست بصفة قانونية مند أربع سنوات على الأقل قبل ارتكاب الفعل الجرمي، وذلك في حالة إقامة الدعوى العمومية من قبل النيابة العامة أو الطرف المدني بشأن جريمة تمس مجال اهتمامها المنصوص عليه في قانونها الأساسي..
من جهة أخرى نص قانون المسطرة الجنائية الجديد على أهمية الجمعيات في تمثيل الفئات التي تمثلها أمام القضاء وذلك بموجب المادة 7 من نفس القانون والتي جاء فيها “أن يرجع الحق في إقامة الدعوى المدنية للتعويض عن الضرر الناتج عن جناية أو جنحة أو مخالفة لكل من تعرض شخصيا لضرر جماعي أو مادي أو معنوي تسبب فيه الجريمة مباشرة”، وعليه فإن الجمعيات لا يحق لها تحريك الدعوى بكيفية مباشرة أمام المحكمة وانتصابها كمطالب بالحق المدني إلا بعد تحريك الدعوى العمومية من طرف النيابة العامة أو من قبل الطرف المدني، وذلك شريطة أن تكون هذه الجمعية قد تأسست بصفة قانونية منذ 4 سنوات على الأقل قبل ارتكاب الفعل الجرمي وأن تكون متوفرة على صفة المنفعة العامة.
فإن للجمعيات المعترف لها بصفة المنفعة العامة حق التنصيب كطرف مدني في القضايا المعروضة على المحاكم من قبل الضحايا المعروضة على المحاكم من قبل الضحايا أو من قبل النيابة العامة والتي تخص كليا أو جزئيا مجالات اشتغالها كما هو منصوص عليها في قوانينها الأساسية. بل إن القانون المتعلق بإعادة تنظيم الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري الصادر سنة 2016 فتح حق التقدم بالشكاوى أمام “جمعيات المجتمع المدني المهتمة بالشأن العام”.
وعليه، فالمشرع وإن منح الجمعيات حق تمثيل الفئات المعنية أمام القضاء والدفاع عن مصالحهم، فإنه قيد هذا الحق وجعله معلقا على شرط واقف، إذ اشترط ضرورة توفر هذه الجمعيات على صفة المنفعة العامة، والهدف من وراء ذلك هو تفادي المشاكل التي يمكن أن تقع بسبب عدم نجاح الجمعية في تحقيق أهدافها أو نتيجة سوء تصرف أحد مسيريها، مما قد يلحق ضررا بالفئات الممثلة
وقد يشكل شرط المنفعة العامة عائقا أمام العديد من الجمعيات لا سيما وأن شروط اكتساب هذه الصفة من طرف هذه الجمعيات وفقا لأحكام المرسوم رقم 2.04.969 الصادر بتاريخ 10/01/2005 والمنشور بالجريدة الرسمية عدد 5339 بتاريخ 01/08/2005، قد يجعل هذه الجمعيات تغظ الطرف عن اكتساب هذه الصفة، نظرا للتعقيدات الكثيرة التي تعرفها مسطرة منح صفة المنفعة العامة.

2 – الفصل 06 من ظهير 1958
ينص الفصل السادس من الظهير المتعلق بالحق في تأسيس الجمعيات بأن كل جمعية استوفت إجراءات التصريح “بصفة قانونية”، أي وفق مقتضيات الفصل الخامس، يمكن لها أن تترافع أمام المحاكم..

ثانيا: حق الجمعيات والجمعيات بحكم الواقع في التقاضي

يشكل هذا الحق نتيجة طبيعية لكون الجمعية أصبحت تتمتع بالشخصية المعنوية، وهو ما لا يمكن أن يتم في غياب هذه الصفة القانونية. فالفصل السادس من الظهير كان واضحا حين قصر الحق في الترافع أمام المحاكم في “كل جمعية صرح بتأسيسها بصفة قانونية”.
وقد أكدت المحكمة الإدارية بالرباط هذا الترابط من خلال حكم صادر عنها بتاريخ 22 يوليوز 2014، وقضى بعدم قبول الطعن الذي تقدمت به إحدى جمعيات المجتمع المدني والرامي إلى إلغاء القرار الإداري الصادر عن عامل الرباط، بتاريخ 9 ماي 2014، والذي تم بموجبه رفض تسلم ملف التصريح بتأسيس الجمعية المعنية. وقد استندت المحكمة في رفض الدعوى بكون الطاعن أي الجمعية لا يملك الأهلية القانونية للتقاضي، على اعتبار أن الدعوى موضوع الحكم تم رفعها قبل اكتساب الجمعية الطاعنة للشخصية المعنوية بما أن شكليات التصريح بتأسيسها لم تكتمل بعد.
إن لجوء الجمعية إلى القضاء جاء من باب تشبثها بتفسير واسع للقانون يقضي بكونها صارت تتمتع بالشخصية المعنوية مباشرة بعد اتفاق المؤسسين والتئامهم في لقاء تأسيسي، وأن التصريح ما هو إلا تحصيل حاصل ومجرد شكلية للإشعار لا تغير من واقع الحال شيئا، إلا أن المحكمة الإدارية نحت غير هذا النحو معتبرة أنه طبقا لمنطوق القانون، فالجمعية الطاعنة لا تتوفر على الأهلية للتقاضي. على هذا الأساس، فإنه لا يبقى أمام المؤسسين سوى التقاضي كأفراد وليس كهيئة.
وحسب قرار المجلس الدستوري رقم 921 بتاريخ 13 غشت 2013، فإن “حق الدفاع ينطوي على حقوق أخرى تتفرع عنه، من ضمنها حق الاطلاع والحصول على الوثائق المدرجة في ملف الاتهام المتوفرة لدى النيابة العامة، مراعاة لمبدأ التكافؤ بين سلطتي الاتهام والدفاع.
الملاحظ أن إشكالية توفر الجمعية على أهلية التقاضي من عدمه يحيل على نقاش يتعلق بمفهومين الحق والدعوى، فالحق يعرف على أنه رابطة قانونية بين الشخص وبين شيء أو مال أو فعل، وتتميز هذه الرابطة بقدرة مخولة بقوة القانون خاصة القواعد الجوهرية منها لفائدة الشخص، تمكنه من ممارسة سلطات في نطاق هذه العلاقة بغاية تحقيق مصلحة مشروعة. وتعرف الدعوى بكونها آلية قانونية مسطرية تمكن صاحب الحق من التقاضي بغاية إضفاء صبغة الإلزام على حق قائم قبل مباشرة التقاضي.

ثالثا: نشأة الشخصية المعنوية للجمعيات والحق في التقاضي

إن الاعتراف القانوني للجمعيات بالشخصية المعنوية، يعني تمتعها بمجموعة من الحقوق والالتزامات. وفي هذه الوضعية يمكن للجمعيات القيام ببعض التصرفات القانونية كالحق في التقاضي أمام الهيئات القضائية. وللإشارة فإن هذه الأهلية تختلف عن أهلية الشخص الطبيعي من حيث المجال، إذ أن أهلية الشخص المعنوي لا تمارس إلا في حدود أقرها المشرع.
بعد تأسيس الجمعية وفق الشروط المنصوص عليها في القانون، وتقدم تصريحا للسلطة الإدارية المحلية، فإن أول ما يترتب عن ذلك هو ميلاد الشخصية المعنوية للجمعية. هذه الشخصية تميزها عن شخصية الأعضاء الذين يؤلفانها، وتصبح الذمة المالية العائدة للجمعية منفصلة عن ذمة الأعضاء المالية.
فالتنصيص الصريح في الفصل السادس الذي أكد على أن كل جمعية صرح بتأسيسها بصفة قانونية يحق لها أن تترافع أمام المحاكم، لكن بعد القراءة المتأنية للفصل الخامس من القانون 75.00، خاصة الفقرة الثالثة منه تؤكد على “..إذا لم تتسلم الجمعية للوصل النهائي داخل أجل أقصاه 60 يوما، جاز لها أن تمارس نشاطها وفق الأهداف المسطرة في قوانينها”، فعبارة (جاز) معناه أن الجمعية تكون في حالة انتظار صدور الوصل النهائي حتى تمارس حقوقها. ما يعني أن الجمعية لا تكتسب هذه الشخصية القانونية إلا بعد صدور التصريح النهائي حسب مضمون هذا الفصل.
فبعد أن تؤسس الجمعية وفق الشروط القانونية المنصوص عليها بالنسبة للأشخاص والأهداف، وأن تقدم تصريحا إلى السلطة الإدارية المحلية، فإنه يترتب عن ذلك مجموعة من النتائج، أهمها تمتع الجمعية بالأهلية الكاملة التي تكتسب بواسطتها حقوق التصرف حسب إرادتها.
حيث يصبح للجمعية وجودا ذاتيا ومستقلا، فبمجرد حصولها على الوصل النهائي بشكل صريح أو ضمني في حالة عدم رد الإدارة داخل أجل 60 يوما كما هو وارد في الفصل الخامس، تصبح للجمعية أهلية كاملة تتمتع بموجبها بحق التصرف والملكية وأهلية التقاضي والمرافعة أمام المحاكم.
فالقانون يشترط على الشخص لكي يمتلك حق التقاضي مدعيا أو مدعى عليه، أن يتمتع بأهلية الأداء التي تعني القدرة على مباشرة التصرفات القانونية كالتقاضي أمام المحاكم وهذه الأهلية لا تتأتى للجمعية بمجرد اتفاق الأعضاء المؤسسين في محضر قانوني، بل لابد لها من الوجود الخارجي الحقيقي الذي يتحقق باعتراف السلطة لها بذلك صراحة أو ضمنيا أو باستصدار حكم قضائي يقر حقها. وما يؤكد ذلك تنصيص الفصل 6 من قانون الجمعيات على التالي: “كل جمعية صرح بتأسيسها بصفة قانونية يحق لها أن تترافع أمام المحاكم”.
بمفهوم المخالفة لهذا المقتضى، فكل جمعية لم يصرح بتأسيسها لا يحق لها الترافع أمام المحاكم لأن قيام الشخصية المعنوية، اللازمة للترافع، يدور وجودا وعدما على استيفاء شكلية التصريح والحصول على وصل بذلك من لدن السلطة الإدارية المختصة.

بقلم: هشام عميد دكتور في القانون العام والعلوم السياسية
متخصص في قضايا الشباب والمجتمع المدني

Top