يوم ميلادي الجديد

يوم الثاني من شهر غشت 2017، ولدت من جديد. في الثاني من شهر غشت الماضي، رزقت بعائلة ثانية، بعد العائلة البيولوجية. أحس الآن أنني قضيت سنوات في أحضان هذه العائلة – المؤسسة. أحسست أنني ولأول مرة أمارس الصحافة بمهنية.
هنا لا توجد لغة الأوامر، ولا الإيمايلات الجافة، هنا أنت في بيتك تعمل لحسابك قبل أن تعمل للمؤسسة، لذلك لا تحسب الساعات التي تقضيها وأنت منهمك في العمل، لا تبالي بعقارب الساعة لتغادر القاعة وقتما تحين ساعة المغادرة، هكذا تحس.
هنا أنت لست آلة إنتاج، هنا أنت إنسان أولا وبكل مقوماته. لا مثالية ولا مجال لها، حين تسمع صوت الحسين الشعبي رئيس التحرير ينادي على اسم تعرف يقينيا أنه يريدك لتلقي نظرة على مقال حررته، وحين ينادي تأكد حتما أنك أغفلت شيئا. نداء رئيس التحرير، حين إعداد الجريدة للطبع، يعني شيئا واحدا: تعال أعد مراجعة المقال. ينفعل قليلا قبل أن يعود إلى هدوئه، ليخفي الانفعال الخفيف. إنه تذكير بضرورة التدقيق والصرامة أثناء تحرير المقالات.
ليس من باب المجاملة، أن يكون رئيس التحرير صديقا صاخبا خارج قاعة التحرير، ورئيسا صارما داخل قاعة التحرير، الشخص هو هو، لكنه يعرف كيف ومتى يفصل.
وليس من باب المجاملة أن تجد مدير النشر محتات الرقاص، وبكل لباقة، يلفت انتباهك إلى موضوع مهم في تقديس تام للمهنية. لن تحس بتلك التراتبية المزعومة، هنا إيمان بالمسؤولية أكثر من أي شيء آخر، هنا تعاون وفريق يشتغل دون تأفف.
ليست الصورة وردية في مجملها، طبيعة العمل تفرض أن تطفو لحظات تكسر صفو الأجواء، لكنها لحظات لن تكون أبدا قاعدة، إنها استثناء وفقط، شيء طبيعي جدا.
يوم قررت الالتحاق بجريدة بيان اليوم، أكثر من صديق وزميل عبر لي عن تخوفات تبقى “مشروعة” بالنسبة لهم، كان التخوف الأكبر، حجم الانتشار وبروز “اسم المحرر” بالمقارنة بين جريدة وأخرى. كانت قناعتي أن المهنية أكبر من أي شيء آخر، المهنية أكبر من بروز اسم أو انتشار جريدة أو انحسارها، وإن كان حجم الانتشار أمرا مطلوبا، لكن كيف؟
الزملاء والأصدقاء الذين أشاروا علي كل بما أشار به، لهم مني كل التحية، وبغض النظر عن خلفيات تخوفهم “المشروع”، يبقى قرار التحاقي بجريدة البيان من أهم القرارات في مساري المهني، لأن توقعاتي بأن تجربة بيان اليوم ستكون لها قيمة مضافة بالنسبة لي، كانت في محلها. وأن يقتنع رئيس تحرير مثل الحسين الشعبي بقدراتك وإمكاناتك، ليس بالشيء السهل. منذ الوهلة الأولى كان لدي إحساس أن هناك أشياء نتقاسهما، طبعا إنه الشغف، شغف الأدب وشغف الكتابة. هناك أيضا شخص كان يحدثني دائما عن الحسين الشعبي الإنسان المبدع والكاتب المسرحي، قبل الصحفي. كان لحديث الصديق والأخ نجيب عمراني رئيس تحرير جريدة البيان الفرنسية، عن الحسين الشعبي أثر كبير قوى رغبتي في لقاء هذا الرجل، قبل أن ألتحق وأشتغل إلى جانبه، لأكتشف شخصا آخر لن تمل من مجالسته.
صحيح أن جريدة بيان اليوم تابعة لحزب التقدم والاشتراكية، ومن الطبيعي أن تتناغم في خطها التحريري مع مواقف ومبادئ الحزب، لكنها في نفس الوقت متحررة مما سماه محمد البريني “الهيمنة السياسية”. والتأكيد هنا من كواليس قاعة هيئة التحرير، لا أحد يفرض عليك قيودا في معالجة الأخبار، القيد الوحيد الذي يمكن فكه، هو التقيد بالمهنية وأخذ نفس المسافة من جميع الأطراف.
لا يمكن أن تتحدث عن هذا الجو كله، دون أن تعرج عن حارس الخزينة، المدير المالي محمد بوراوي. لا تساهل في التحملات، فلس واحد يستوجب التبرير، منطق التدبير الصارم منطق الرجل. الإدارة خلية متكاملة، كل يعرف مهامه بالتمام والكمال، لا إفراط ولا تفريط. وبالرغم من التحديات المطروحة أمام الصحافة الورقية، فإن جريدة البيان استطاعت أن تنجح في تحقيق توازناتها، وبتعبير نور الدين مفتاح مدير نشر أسبوعية الأيام، إنها “إدارة حربية”.
مؤسسة البيان تحتفل اليوم بالذكرى 45، إنها تكبرني بأكثر من 10 سنوات، لم تكل ولم تمل من احتضان أبنائها الرواد، كم من واحد تربى وترعرع في أحضانها، رعته بكل حنان الأم ولم تفرط فيه يوما، حتى الذين غادروا يتذكرون ويحنون إلى أيامها، أبوابها مفتوحة ولن تغلق أبدا. إنه عنوان مؤسسة قاومت وما زالت وتتطلع إلى مستقبل أفضل رغم كل الإكراهات.

> بقلم: حسن أنفلوس

Related posts

Top