تعتبر الثقافة على الرغم من اختلاف وسائلها وتعدد أدواتها وتنوعها نتاجا اجتماعيا، لذلك فإن الثقافة التي نقدمها للأطفال تعد مسؤولية اجتماعية بالدرجة الأولى، ومع ذلك فإن الدراسات التي تتناول ثقافة الطفل بالمغرب مازالت قليلة بل نادرة، ومازال الباحثون يهتمون بثقافة الكبار ناسين أو متناسين الأهمية البالغة لثقافة الطفل على مستوى الإعداد والرعاية، وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن عملية التثقيف هي عملية دائمة ومستمرة ولا تتوقف عند حدود سن معينة، مع العلم أن الخطوة الأولى في بناء الإنسان ثقافيا تبدأ من الطفولة، لأن الطفولة تساهم بشكل فعال في بناء الشخصية من جميع جوانبها الاجتماعية والنفسية والعقلية والثقافية (1).
هناك مجموعة من الأسئلة التي يجب أن نبحث لها عن إجابات مقنعة، نذكر منها ما يلي:
هل يمثل الطفل المغربي مركز الأولوية في إنتاج الثقافة الموجهة إليه؟
هل يلبي أدب الأطفال حاجات الطفل المغربي ويجيب على انتظاراته؟
هل يقوم المجتمع المغربي ببرمجة عملية انتاج الثقافة الموجهة للطفل، أم أنها تخضع للعشوائية والارتجال؟
هل تعتبر الثقافة التي نقترحها للطفل المغربي قادرة على تزويده بالقيم
والمفاهيم التي يحتاجها المجتمع المغربي في مرحلته التنموية والانتقالية الراهنة؟
كيف ينظر المجتمع المغربي إلى الأطفال من خلال الانتاج الثقافي؟
هل يأخذ المجتمع المغربي بعين الاعتبار وهو ينتج ثقافة الأطفال أن لهم الحرية
و الحق في أن يشكلوا شخصيات مختلفة عن الكبار، وليس مجرد امتداد لهم؟
إن الطفل يحتك بثقافة مجتمعه وبشخصياته وتساعده في ذلك عوامل فعالة، هي التعلم والمحاكاة وغيرها من الآليات التي تولد في شخصيته وعيا ثقافيا متميزا من العلاقات الإنسانية والقيم العاطفية والعادات الاجتماعية.
ما هي الثقافة التي تقدم للطفل باعتبارها نتاجا مجتمعيا؟
ما هي الآليات التي تتحكم في إنتاج هذه الثقافة؟
و ما هو الجديد في هذه الثقافة فيما يتعلق بثقافة الطفل؟
يجمع العلماء على أن كلمة الثقافة تغطي مجمل العادات والتقاليد الإنسانية، وأنها حصيلة التجارب الإنسانية المتراكمة أو المكتسبة، هذا فضلا عن تلك التصرفات والسلوكات التي يتعلمها الإنسان الاجتماعي، لذلك يمكن القول إن الثقافة هي كل ما يفرزه المجتمع من أفكار وأخلاق وقيم ومعتقدات نقدمها لأفراد المجتمع، فيتعلمونها ويتكيفون معها، وإلى جانب ذلك يشير جورج نيللر (Georges Kneller) إلى أن الثقافة تشكلنا عقليا وانفعاليا و جسديا (2).
كيف ينتج المجتمع ثقافة الأطفال؟
هناك مؤسسات وقنوات قرها المجتمع وأوكل إليها مهمة تثقيف الطفل، مع العلم أن أشكال هذه المؤسسات ومضامينها تختلف من مجتمع إلى آخر، كما تختلف درجة فاعلية وأهمية كل منها، ومن هذه المؤسسات تجدر الإشارة إلى كل من الأسرة والمدرسة والتلفزيون والكتب والمجلات والأغاني والقصص والمسرحيات والأفلام وغيرها من المؤسسات والوسائل التثقيفية، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن مجال الابتكار والإكتشاف مازال مفتوحا لتطوير أدوات التثقيف للطفل، فالألعاب مثلا التي تتنافس المصانع الغربية في إنتاجها لا تهدف إلى تسلية الطفل تسلية فارغة، وإنما تضع في اعتبارها ضرورة مراعاة مسألة تثقيف الطفل.
من المؤسسات التي تساهم في تثقيف الطفل، تجدر الإشارة إلى الأسرة، باعتبارها مؤسسة اجتماعية تقوم فضلا عن وظيفتها البيولوجية بوظيفة تربوية تعمل على نقل ثقافة المجتمع وقيمه السلوكية والخلقية والفكرية والدينية إلى الطفل، ومن ثمة يمكن القول إن الثقافة التي تنقل عبر مؤسسة الأسرة لها الحظ الأوفر في الاستمرار والرسوخ وفي تشكيل شخصية الطفل، لذلك يقول نيللر “إن تثقيف الفرد خلال سنوات عمره المبكرة هي الوسيلة الأساسية المؤدية إلى الاستقرار الثقافي “(3).
ونظرا للدور الذي تقوم به الأسرة في توفير النماذج التي يتماهى معها الطفل أو يقلدها، و في حثه على اكتساب عادات وسلوكات معينة، نطرح الأسئلة التالية:
هل تنقل الأسرة المغربية بشكل آلي ثقافة المجتمع؟
هل تعيد الأسرة المغربية إنتاج أنماط بشرية محددة بشكل مسبق؟
هل يعتبر الأطفال المغاربة صورة مكررة عن ذويهم؟
هل يعتبر المجتمع المغربي محكوما بثبات ثقافي مستمر أم أن هناك إمكانية للتغيير والتطوير؟
هل تفسح الأسرة المغربية المجال لتثقيف الطفل من خلال توفير الأجواء والإمكانات والمواد الضرورية؟
بمعنى، هل تقيم هذه الأسرة علاقات مناسبة وصحية تحث الطفل على القيام بخطوات جادة نحو النمو والتقدم إلى الأمام؟
لابد من الاعتراف بأن هناك عوائق تحول دون قيام الأسرة المغربية بدورها المنوط بها، وهي عوائق نابعة من نمط تركيب الأسرة المغربية التي تعطي الأولوية لعامل السن والجنس، حيث يخضع الأصغر سنا للأكبر سنا، وتخضع المرأة للرجل، هذا إلى جانب عامل الأمية والفقر وغياب ثقافة نفسية ودراية بأحوال الطفل ومراحل نموه لدى العديد من الأسر المغربية، الشيء الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى أن معظم الأسر المغربية تقوم بدور مسيء للطفل ومعيق لطاقاته وقدراته الخلاقة والمبدعة، والمشوشة لمسار نموه، يقول فيليب أديب سالم مشيرا إلى دور كل من الأسرة والمدرسة في العالم العربي: ” تكمل المدرسة الدور الذي تعلبه الأسرة في معاقبة الطفل، إنهما يعلمان أولادنا الرضوخ للسلطة والاقتداء بالآخرين، والامتثال لقيم المجتمع، كما أنهما يمارسان عملية الإرهاب الفكري المباشر” (4).
تعتبر المدرسة من المؤسسات التثقيفية التي لها دور مكمل للأسرة، غير أنها تختلف عنها في كونها تقدم للطفل ثقافة موجهة ومنظمة، فالمدرسة هي القيمة على التراث الثقافي للمجتمع، تصونه وتجدده، مع العلم أنها ليست المؤسسة الوحيدة التي تقوم بذلك، لأن هناك مؤسسات أخرى تقدم للطفل هذه الثقافة المنظمة، مثل المنظمات العلمية والمهنية والجمعيات الثقافية والهيئات الرياضية ووسائل الاتصال السمعية البصرية كالإذاعة و التلفزيون والسينما.
إن المدرسة تتميز عن الأسرة بكونها تؤمن للطفل بيئة صالحة للنمو النفسي والاجتماعي، حيث يندمج الطفل مع الآخرين ويقيم علاقات اجتماعية أوسع بكثير مما تتيحه الأسرة، هذا فضلا عن كون المدرسة تفسح المجال للطفل في عملية التواصل والتشابه الثقافي، وفي سياق الحديث عن دور المدرسة وما تعرفه برامجها التثقيفية في ظل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية الرقمية، نتساءل: هل يمكن القول إن دور الطفل يتحدد فقط في عملية التلقي، وأن الثقافة تنتقل دائما من الكبار إلى الصغار و ليس العكس؟ إن بإمكان الأطفال في عصر الثورة العلمية والتكنولوجية الوافدة إلينا، نقل معارفهم ومعلوماتهم إلى الكبار، وبمقدورهم أن يشرحوا مشاكل تتعلق ببعض المنجزات العلمية الحديثة بحيوية وقدرة أكبر ممن هم أكبر سنا في بعض الأحيان (ألعاب الانترنيت مثلا).
لقد أصبح الأدب المخصص للأطفال يشكل هاجسا أساسيا لدى المجتمعات المتقدمة أو السائرة في طريق النمو، نظرا لوعيها بأهميته ومدى إسهامه في تثقيف الطفل وتربيته فكريا وفنيا ولغويا واجتماعيا ونفسيا وأخلاقيا، ولأنه يتوافق مع مفاهيم التربية الحديثة في إعطاء المعلومات العلمية أو الفنية من خلال ما يتوافق مع ميولات الأطفال نحو اللعب والاكتشاف (5)، إن أدب الأطفال يقوم على التنسيق الفني بين الصورة و الكلمة، فهو على الرغم من حداثته غني ومتنوع، لأنه يشمل الكتب المطبوعة من قصص ومسرحيات وأناشيد، هذا فضلا عن المجلات والأغاني والأفلام السينمائية والتلفزيونية، كما أن وسائل الإعلام السمعية البصرية أصبحت تسهم اليوم في نقل مضامين أدب الأطفال وأنواعه من خلال البرامج الإذاعية والتلفزيونية مثلا (6).
وبناءا عليه، يمكن القول إن الكتاب الموجه للطفل أصبح يواجه اليوم منافسة قوية من الوسائل الإعلامية الحديثة كالإذاعة والتلفزيون والانترنيت، فالتلفزيون مثلا يعتبر أهم هذه الوسائل، لأنه غزا كل البيوت، ويتمتع بخصائص فنية وتقنية جذابة، تتداخل فيها الأصوات والصور والألوان، لذلك فإنه يمتلك القدرة، أكثر من غيره، على جذب اهتمام الطفل والتأثير فيه، ومن ثمة فإن السؤال المطروح هو: هل بقي هناك دور للكتاب في تشكيل ثقافة الطفل إذا ما قارناه بالتلفزيون؟
إن خطر التلفزيون لا يكمن في كونه وسيلة من وسائل تثقيف الطفل، ولكنه يكمن في البرامج التي تشوه ثقافة الطفل، وتبعده عن واقعه ومجتمعه، إننا لا نجادل في اعتبار التلفزيون وسيلة تثقيفية موجهة ومنظمة، لكن لا بد من امتلاك الوعي والمعرفة على مستوى توجيه هذه الوسيلة الإعلامية وتوظيفها في تثقيف الأطفال، ويعني هذا أنه بإمكان هذه الوسيلة المهيمنة أن تكون وسيلة مجدية ثقافيا إذا ما أحسن توجيهها وتنظيمها (7)، وعلى الرغم من ذلك فإنه لا ينبغي اعتبار التلفزيون النواة الوحيدة للثقافة، لأنه يجب الاهتمام بالوسائل التثقيفية الأخرى، لذلك فإن هذه المسألة تتطلب نوعا من التنسيق والتوافق بين سائل الوسائل التثقيفية من خلال وضع مخططات عامة تحدد لكل وسيلة ميدانها ودورها وحجمها، وبغض النظر من هذه الحساسية تجاه التلفزيون لابد من الإشارة إلى أهمية الحكايات والقصص و المسرحيات الموجهة للأطفال، نظرا لموقعها المتميز في مجال أدب الطفل، ولأنها هي الأقرب والألصق بفطرة الطفل ورغباته، حيث تؤمن له إشباع استعداداته العاطفية والوجدانية والخيالية، وفي هذا السياق يقول هشام شرابي: ” والواقع أنه يمكن أن يكون لحب الكتب أثر جذري في النمو العقلي للطفل، حيث تصبح عادة القراءة مكسبا يدوم مدى الحياة، إذا عرفنا كيف نقدم التشجيع اللازم بصورة مستمرة و منظمة “(8).
وفي السياق ذاته يرى هادي نعمان الهيتي أن عزوف الكبار عن القراءة في مجتمعنا العربي مرده بالدرجة الأولى إلى أن عملية تنمية الميول القرائية لم تتم بالشكل المطلوب أثناء الطفولة (9).
بناء على ما تقدم نطرح السؤالين التاليين:
هل يقوم المجتمع المغربي بمسؤولياته تجاه الأطفال باعتبارهم ثروة بشرية تحتاج إلى إعداد ورعاية؟
هل يقوم هذا المجتمع بدوره على مستوى إنتاج ثقافة الأطفال، من خلال القيام بالدراسات والأبحاث ووضع المخططات والبرامج؟
لابد من الاعتراف أنه ليست هناك أبحاث ودراسات تتناول كيفية مواجهة المجتمع المغربي لمسؤولياته التثقيفية تجاه الأطفال، وحتى إن وجدت بعض هذه الدراسات فهي قليلة ونادرة، ومن ثمة نتساءل:
هل ما ينتج ويقدم للطفل المغربي من أنواع وأشكال تثقيفية، يتم الإشراف عليه ومراقبته، ويسمح له بالتداول بعد التأكد من صلاحيته وفعاليته؟
إن المجتمع المغربي لا يراعي الاحتياجات التنموية للطفل، وخصوصا الجوانب الثقافية، هذه الأخيرة التي تتواجد في حالة تسيب وفوضى، لأنه ليست هناك استراتيجية متكاملة فيما يتعلق بكيفية إنتاج ثقافة الطفل بالمغرب.
وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن وضع هذه الاستراتيجية يجب أن يساهم فيها الكبار
والصغار على حد سواء، الكبار بحكم معارفهم وثقافاتهم وعلومهم وخبراتهم باحتياجات الطفل وبخصائص شخصية، وبحاجات المجتمع حاضرا ومستقبلا، والصغار من زاوية ما تكشفه لديهم الدراسات والأبحاث الاستقصائية بالوقوف على استعداداتهم وميولاتهم، ونوعية المواضيع والأفكار التي يتجاوبون معها، والأساليب الفنية التي ترضي أذواقهم الجمالية (10).
إن أهم توصية يمكن الخروج بها هي أنه في وقتنا الراهن، تلقى على كاهل المجتمع المغربي مسؤولية إثراء ثقافة الطفل، باستخدام كل ما يساهم في تنميته ثقافيا، وذلك من خلال الاعتماد على الابتكارات الحديثة في الوسائل اللازمة والطرق الضرورية في العملية التثقيفية الهادفة إلى إيصال المعلومات والأفكار والسلوكات وغيرها، وذلك حتى يشب هذا الطفل عنصرا فاعلا ونشيطا في المجتمع، لذلك يجب على القائمين على الشأن الثقافي والتعليمي و التربوي بالمغرب أن يدركوا تمام الإدراك أن الأطفال هم الدعامة الأساسية في صياغة المستقبل، وأن كل الخطوات التطويرية المستقبلية ينبغي أن تضع في اعتبارها الأطفال وحاجاتهم، لأن توفير هذه الحاجات الإنمائية للطفل ينعكس على تقدم المجتمع وتطوره، ولأن رسم المستقبل بمظاهره المختلفة يبدأ من الاهتمام بالأطفال.
> بقلم: خديجة سوكدالي
****
هوامش:
(1)- ذكاء الحـر: الطفل العربي و ثقافة المجتمع- دار الحداثة- بيروت – لبنان- 1984 ص : 5
(2)- جـورج نيللر: الأصول الثقافية للتربية – ترجمة: محمد منير مرسي، محمد عزة عبد الموجود، يوسف ميخائيل أسعد، منشورات عالم الكتب- القاهرة -1972 ص 58
(3)- جورج نــيللر: مرجع سابق ص : 57
(4)- فيليب أديب سالم: الحواجز الحضارية أمام التقدم العلمي العربي – مجلة المستقبل العربي – العدد : 3 -1979-ص: 79-80
(5)- ذكـــــاء الحــــــــــر: مرجع سابق – ص33
(6) هادي نعمان الهيتي: أدب الأطفال: فلسفته، فنونه، وسائله، مجلة البحوث، العدد:2 (1979) ص: 155
(7)- نواف عـدوان: الأطفال و التلفزيون : الواقع و الآفاق مجلة البحوث- العدد:2- (1979) ص 10.
(8)- هشـام شرابي: مقدمة لدراسة المجتمع العربي- الأهلية للنشر و التوزيع -1977- ص: 144
(9)- هادي نعمان الهيتي: مرجع سابق-ص-155
(10)- ذكاء الحر: مرجع سابق –ص:134