إفتاء من غير سماسرة

أقدم المجلس العلمي الأعلى قبل أيام على تنظيم ندوة هامة حول: “الفتوى بين الضوابط الشرعية والتحديات المعاصرة”، مثلت توصياتها دعوة صارمة للانتباه إلى الإصرار المتكرر لعدد من الأصوليين على جر بلادنا إلى ما تعانيه بلدان مشرقية عديدة مع تجار الفتاوى، التي هي أقرب إلى الجهل والتخلف منها إلى الإفتاء باعتباره “ضربا من الاجتهاد، وعقدا بين العالم والأمة في إطار النصح والتوجيه والإرشاد”. أصوليونا “نزلوا” في الشهور الأخيرة على المغاربة بفتاوى تكاد كلها تلتصق بأمور شخصية للناس، وهي في معظمها تمتح من بيئة بعيدة عن بلادنا، وتهجم بذلك على  تميزنا الديني والحضاري الذي تمسك به المغاربة طيلة قرون، ومثل مرتكز أمنهم الروحي.
فتاوى أصحابنا، جرى تعميمها عبر صحفهم ومن خلال مواقع الكترونية وفي محافل متعددة، وكانت الكلمة الأولى في كل هذا الجنون للجهل وللتبسيطية ولاحتقار ذكاء المغاربة، وهنا مثلت ندوة المجلس العلمي الأعلى وقفة الحسم لتقول للكل، إن الفتوى والإفتاء من أركان الإصلاح الديني في المغرب، ومن شأن تنظيمها “ضبط الأحكام ودرء المفاسد”…
توصيات علماء المغرب، الصادرة في ختام الندوة المذكورة، تقطع الطريق إذن على من يريدون احتراف مهنة الإفتاء وتوظيف الدين لصالح منظومات فكرية وإيديولوجية غريبة عنا، وبدل ذلك تشدد على  ضرورة التحيين المواكب والاجتهاد المضطرد في فقه تنزيل الأحكام الشرعية، بما يضمن توجيه حياة المجتمع وتأطير حركته ضمن ثوابت الشرع.
وفي الإطار ذاته، حثت توصيات الندوة على “ضرورة استيعاب الفتوى للأولويات واعتبارها للمآلات، في علاقتها بالواقع والمتغيرات أثناء التنزيل وبعده”.
ويعني هذا أن الإفتاء ينبغي أن يستحضر طبيعة عالم اليوم بكل ما يشهده من تطور في التعليم والمعارف وتحولات أخرى متعددة  وثورة في وسائل الاتصال، وما يحدثه ذلك من أثر على الفرد والمجتمع، وبالتالي ما يقتضيه الواقع المعاصر من فهم عميق لمتطلبات الجماعة، وإسعافها بالتوجيه وفق ما يمليه الشأن العام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للبلاد.
إن التحولات المؤسسية التي شهدتها المجالس العلمية في السنوات الأخيرة، واختيار المغرب “الفتوى الجماعية” لكل ما تتيحه من تنظيم وأيضا تشاور واستحضار لتخصصات علمية مختلفة وتبادل الاجتهادات والحجج، كل هذا يسند الدينامية المطلوبة من أجل تنظيم وتأطير الفتوى، وبالتالي تحصين حقلنا الديني والمجتمعي من كل انحراف  في هذا الميدان الحساس جدا.
المهمة اليوم، تتركز حول إعطاء الحياة والمعنى لتوصيات الندوة، والحضور المستمر في الميدان لرفض تخلف سماسرة الفتاوى، ورفض كل من يسعى، عبر الفتاوى إلى جعل المغاربة ينقطعون عن الحياة وعن متعة البهاء والفرح…

Top