إن أكثر ما يميز تجربة التشكيلية الإماراتية نجاة مكي ــ حاصلة على درجة الدكتوراه في الفنون ـ هو (التقصّي) تقصي علاقة مكونات اللوحة وبنيتها في حراكها نحو تحقيق تعبيراتها ومدلولاتها الحسية واللونية والمعرفية.
الشخوص وتحولاتها
الشخوص في لوحات مكي يتقصّون معها حقائق الأشياء، ويقاسمونها التطلعات والتأملات ويأس الانتظار أيضا. ويتداخلون مع الأمكنة والطبيعة ويتشكلون في اللوحة ويشكلون الأسئلة وتموجات التأويل، ومع كل هذا لا يمكن أن نعتبر شخوص مكي مركز الدائرة، ففي لوحات عدة تشتغل على الشخوص ذاتها، تجعل دواخلها المركز أو تفرغها تماما من محتواها لتصير من ورق أو تندرج في تجريدها ليصير الصخر مركز التداعي والذات البشرية صخرة بين العشب أو جذع شجرة، والنسغ يصير زرقة نهر وضفافا من قشور ولحاء، تتداخل المرأة الخصوبة مع الأرض، وتتفرع جذوع عطاء أو خيزران ستائر، وتتحول السماء إلى خيوط طباشير وجدران، وتصير المرأة غروبا برتقاليا في بحث مثير عن تبادل الأدوار والظلال والأحاسيس والتصورات. إن هذا التجريد شديد التنوع، يعتمد فعل التقصي، الذي لا يقدم أبدا أفكارا جاهزة، لأنه يقوم في الأساس على إثارة الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها.
المفردة البيئية
يستطيع المشاهد لأعمال نجاة مكي أن يدرك أنها تنتمي إلى بلدها، وإنها امرأة النخيل والبحر، ولكن بميسم خاص بها، فالمفردة البيئية لا تربطها بالواقعية الفجة أو «الفوتوغرافية» إن صح التعبير، بل تتقصى حقيقة المفردة في تشكيلاتها الصورية، وتجلياتها في علاقة الإنسان بالمكان والزمان، وتحولات هذه العلاقة في تجريدات وتخيلات بصرية، وتعبيرات ودلالات مقنعة، رغم غرابتها أحيانا، ففي تعاملها مع شخوصها، يتلمس المشاهد الزي الخليجي والزخارف والنقوش، إضافة إلى فعل تلك الشخوص وعلاقتهم بالبحر والصحراء والطبيعة ككل، وعلاقتهم مع ذواتهم والآخرين في اختزال ليومياتهم وتصوراتهم الدينية والفلسفية، وتغدو لكل لوحة حكايتها ولكل مُشاهد تأويلاته.
أما في تعاملها مع المفردة في الطبيعة، فيتجلى الأمر في سبر بنية الأشياء، وليس شكلها فقط، نلحظ ذلك مثلا في تعاملها مع قشور السمك، إذ لم تأخذ لونها أو شكلها العام، بل أخذت حركتها وتداخلاتها وتموجاتها بين الأزرق والأحمر والأسود الخارج من خضرته، أو العائد إليها، وتموضع ذلك الحراك، أو تشكيله لمرجع آخر أو إلى ما كانته الزخارف والنقوش والتصورات، التي أدت إلى تشكيلاتها الحالية، فالمرأة النخلة بلونها الأحمر ينبض قلبها خضرة، وتتطاول إلى سمائها البعيدة الموغلة في الماضي، وهنا تتجلى الرؤية في بعدها الفلسفي التاريخي والتراثي أيضا.
التقصي اللوني
ما يحقق للوحة تكاملها ومتانة بنيتها، هو أن التقصي لا يتوقف عند حقائق الأشياء التي تود الفنانة تناولها، أو دواخل الشخوص أو علاقتهم بما حولهم، بل أيضا يطال التقصي كل مكونات اللوحة، واللون لا يخرج عن ذلك، عبر تصورات عما ستكونه الأشياء لو كانت بألوان مغايرة؟ أو تلك الألوان ماذا تفعل في الأشياء لتكون هكذا؟ وهكذا في تعامل مكي مع الصحراء النقية والسماء الصافية بنجومها المتلألئة، أخذت التوازن الطبيعي لهما، لكنها جردتهما تماما من اللون الحقيقي، في تقص عما ستكونه اللوحة ـ الحياة، باللونين الأسود والأحمر مثلا؟
وتظهر هذه التجربة بوضوح في تعامل مكي مع الأخضر والأبيض، فرغم أنهما يظلان في تدرجين ثابتين لا يتغيران، تستطيع الفنانة أن توزعهما على سطح اللوحة، ليشكلا حراكا بصريا يفتح آفاق التأويل ومناجم التصورات والأحلام أيضا.. أحلام اليقظة. أيضا في تعامل الفنانة مع موادها المشكلة لجسد اللوحة، ففي اللوحات «الكولاج» يظهر الجانب الآخر من شخصية مكي الفنية، وهو مكي النحاتة، ومع تنوع المواد المستخدمة في تشكيل تلك اللوحات، فإن دقة استخدام اللون وتقصي حقيقته الكائنة والتي يجب أن تكون، جعلته في بنية اللوحة الأساسية وأدخلته في علاقات جديدة مع سطوح غير سطح اللوحة، التي اعتاد عليها. ومع هذا لعب اللون دورا مهما في تقريب ملمس السطوح وانسجام الكتل. ولم يتوقف «الريليف» عند مكي على «الكولاج» بل ثمة لعبة لونية بين الظل والضوء، جعلت للكتل بعدا ثالثا فتداخلت السطوح النافرة ـ أو التي تبدو نافرة ـ مع السطوح الأصل في حراك لم يتسارع فقط مع الحراك المدفوع بفكرة ما، أو الباحث عن حقيقة ما، بل في تداعٍ لوني متجدد ظهر بوضوح في تعاملها مع الأزرق تارة والأخضر تارة أخرى، ومع الأحمر السائد المتطاول نحو السماء والأخضر الوشم.
> محمود أبوحامد