لا شك أن النيابة العامة باعتبارها جزء لا يتجزأ من المنظومة القضائية، أصبحت ملزمة أكثر من أي وقت آخربحماية النظام العام الاقتصادي والعمل على صيانته في إطار سيادة القانون وحماية حقوق الأفراد والجماعات.
فمع التطور الذي عرفه المجتمع والذي ترتب عنه ظهور أصناف جديدة من الجرائم، أصبحت وظيفة القانون الجنائي الذي تتدخل بموجبه النيابة العامة في تسطير المتابعة، قاصرة عن مواكبة هذه التحولات، الشيء الذي حتم البحث عن حلول ناجعة لذلك.
ولعل من أهم هذه التحولات تلك التي طرأت على مجال الأعمال الذي عرف بروز جرائم جديدة ومتعددة ذات صبغة اقتصادية، انضافت إلى الجرائم التقليدية المنصوص عليها في القوانين الجنائية الكلاسيكية، والتي استحقت إضفاء الحماية الجنائية بشأنها، نظرا لكونها تدخل في مصاف المصالح الأساسية للمجتمع. وهي نصوص يمكن اختزالها فيما يعرف «بقانون الأعمال»، والذي انبثق عنه القانون الجنائي للأعمال كفرع من فروع القانون الجنائي بمفهومه الواسع، وكقانون لا يهدف فقط إلى الزجر والعقاب وإنما غايته تنفيذ السياسة الاقتصادية للدولة وتحقيق الأمن والاستقرار الاقتصادي وحماية مصلحة الاقتصاد من أي اعتداء يطاله، الشيء الذي أدى إلى نشوء كم هائل من النصوص القانونية التي تستهدف تنظيم هذا المجال حسب توصيات ومتطلبات السياسة الاقتصادية للدولة، من قبيل مدونة التجارة وقوانين الشركات التجارية ومدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة ومدونة الضرائب والقانون البنكي وقانون الصرف وقانون بورصة القيم… إلخ. والتي تضمنت في مقتضياتها جوانب زجرية هدفها مكافحة جرائم الأعمال المرتبطة بالمجالات التي تنظمها هذه القوانين والمتمحورة أساسا حول أشخاص معينين ذوي صفات ومميزات خاصة يطلق عليهم «ذوي الياقات البيضاء».
وإن كانت التجربة العملية بهذه النصوص قد أبانت أن المقاربة الزجرية في هذا المجال هي مقاربة غير ناجعة، إذ يستلزم الأمر أحكاما ومقتضيات خاصة بهذا النوع من الإجرام لكونه إجرام مختلف وذو منطق خاص يستلزم تبعا لذلك نصوصا مواكبة له تعتمد أساسا المقاربة الوقائية عوض الزجرية، على اعتبار أن فلسفة جرائم الأعمال مختلفة تماما عن فلسفة الجرائم التقليدية لا من حيث الطريقة ولا من حيث الأسباب والبواعث ولا حتى على مستوى النتيجة. فما أحوجنا، خاصة في ظل الظرفية الراهنة، إلى إعادة صياغة قواعد القانون الجنائي العام بما يتلاءم ومنطق القانون الجنائي للأعمال، لأن جرائم الأعمال حتى وإن تعددت واختلفت طرق ووسائل ارتكابها، فإنها تبقى ذات خصوصيات تميزها عن الجرائم العادية الأخرى. وهو ما يلاحظ من خلال إلقاء نظرة على القواعد القانونية التي تشكل القانون الجنائي للأعمال. ذلك أنه حتى الجرائم التي تعتبر عادية في القانون الجنائي كالنصب وخيانة الأمانة والتزييف والتزوير مثلا، حينما ينظر إليها من زاوية القانون الجنائي للأعمال تصبح غير ذلك تماما، وذلك راجع للسياسة التي تهدف إليها الدولة في كل مجال على حدة.
حيث أنه إذا كان مجال القانون الجنائي العام تحكمه ضوابط السياسة الجنائية بما تحمله من معنى، فإن القانون الجنائي للأعمال بالإضافة إلى خضوعه لهذه الضوابط، فهو يخضع أيضا لسياسة أخرى هي السياسة الاقتصادية للدولة، مما يجعله يشكل تأثيرا على النظرية التقليدية للقانون الجنائي من عدة جوانب، خاصة على مستوى تحوير عدد من القواعد الموضوعية المرتبطة بالتجريم والعقاب. كما أن هذا التحوير لحق أيضا القواعد الشكلية أو المسطرية المطبقة على جرائم الأعمال، سواء من حيث إثباتها أو تقادمها أو الجهة القضائية المكلفة بسير إجراءاتها.
ونتيجة لذلك برز مفهوم آخر للنظام العام أطلق عليه النظام العام الاقتصادي الذي يهدف من خلاله المشرع إلى حماية المصلحة الاقتصادية والمالية من خلال تحفيز الاستثمارات وتوفير المناخ الملائم لها وتشجيع المبادرة الحرة وخلق مزيد من فرص الشغل وحماية المقاولة والنهوض بالقطاع الصناعي في أفق تحقيق التنمية الشاملة.
بقلم: د.أنس الشتيوي دكتور في الحقوق