لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المَوْلى جلّ وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المُهمة الجليلة، رجال تغلّغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم همّة ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا خدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المُسلمين المُضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضات الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام على متاع الحياة الدنيا، ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل : “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ….”
طارق بن زياد.. ومعركة وادي لكة
المعركة التي مهدت لاستكمال الفتح الإسلامي للأندلس
الحلقة 17
صور تخيلية لطارق بن زياد ومعركة وادي لكّة
لم تتناول الكثير من الكتب والمصادر التاريخية (الغربية على وجه التحديد) الحديث مُطولاً عن المعركة التاريخية التي مَهدت للفتح الإسلامي في بلاد الأندلس وعرفت بمعركة وادي لكّة (وقعت معركة وادي لكّة أو معركة شذونه أو معركة سهل البرباط كما تعرف أيضاً، يوم الثامن والعشرين من رمضان سنة 92 للهجرة/19 يوليو 711 للميلاد بين قوات الدولة الأموية المسلمة بقيادة طارق بن زياد وجيش القوط الغربييين بقيادة الملك رودريك الذي يعرف في المصادر الإسلامية باسم لذريق، وهي المعركة التي انتصر الأمويون انتصارًا ساحقًا أدى لسقوط دولة القوط الغربيين، وبالتالي سقوط معظم أراضي شبه الجزيرة الأيبيرية تحت سيطرة الدولة الأموية) رغم كونها اتفقت في التأريخ لسنة وقوعها عام 741 للميلاد، على غرار المراجع والمصادر الإسلامية التي وجد الكثير منها وتناولت بالحديث عن شخصية القائد الإسلامي طارق بن زياد وفتحه المبارك (ولد القائد العسكري الأبرز في فترة الدولة الأموية، والأكثر شهرة وفتوحات بعد خالد بن الوليد، في بلاد المغرب العربي الأوسط في العام السابع والخمسين للهجرة/عام خمسين للميلاد) وكان من أشهرها كتاب ابن عبد الحكم الذي كتبه في مصر في القرن التاسع عشر الميلادي (فتوحات مصر والمغرب)، والذي تحدث فيه بشكل عميق عن الفتح الإسلامي في الأندلس ورواده المسلمين ومعاركهم التي منها معركة وادي لكة التي قادها طارق بن زياد ضد حكم القوط الغربيين ممن حكموا إسبانيا آنذاك، فمن يكون هذا القائد؟ وما هي خبايا وأسرار معركة لكّة؟.
الفارس.. وقائد الجند
يروي لنا حسين شعيب (شخصيات من التاريخ الإسلامي) الفترات الأولى لقادة طارق بن زياد للجيوش الإسلامية وتوليه قيادة الفتح الإسلامي في الأندلس بالقول: “…. بعد مقتل الصحابي زهير بن قيس في والي برقة عام 76 للهجرة، جاء الأمر المولوي موقعا من والي إفريقيا موسى بن نصير ليقضي بتعيين طارق بن زياد واليا على إمارة برقة خلفا لزهير بن قيس، وينهي مع هذا التعيين دوره السياسي ويعود بعد حين إلى دوره العسكري كقائد للجند قبل ان تختاره القيادة الإسلامية مرة أخرى ليكون فارسا مقداما يقود الجند الإسلامي إلى بلاد الأندلس، وبات يشعر بأنه قادر على تحمل المسؤولية الكبرى لقيادة المعركة وإدارتها جيدا، وانطلق بداية إلى إرساء الأمن في البلاد ليستتب الأمر في الجبهة الداخلية سريعا ويتوجه للتفرغ للجبهة الخارجية ويبدأ معاركه حتى وصل بها نهاية المغرب العربي، ففتح شمال إفريقيا بالكامل حتى عين واليا على مدينة طنجة واستكمل بهذا التعيين سيطرة المسلمين على المغرب العربي باستثناء مدينة سبتة المحتلة التي كان يحكمها الحاكم القوطي (يوليان) الذي لا يدين للمسلمين حتى بدأ التفكير في إسقاطه وإخضاع بلاده للحكم الإسلامي..”.
احتلال الجزيرة الخضراء
بعد أن قضى موسى بن نصير على الفتن المنتشرة ودانت له جميع أراضي المغرب، لم يبقى له سوى مدينة سبته التي كان يحكمها (الكونت يوليان) التي تقول المصادر بأنه كان مواليا لحكام إيبيريا القوطيين وحاكم تيرزا الذي يعرف في التاريخ العربي بإسم غيشطة وابنه أخيلا الثاني، وكان حينها (لذريق) قد قام بانقلاب على (غطيشة) ممّا أثار حنق (يوليان) وأراد الانتقام، وبالتالي استعان بالقوة الإسلامية المتنامية لدحر لذريق (تذكر بعض المصادر الأخرى بأنه كانت ليوليان أبنه أرسلها لبلاط لذريق كما يفعل جميع النبلاء لتخدم عنده، فأعجب بها لذريق وراودها عن نفسها وفضّ بكارتها مما أثار غضب يوليان وعزم على الأخذ بالثأر)، وفي هذا يضيف الكاتب حسين شعيب: “… سارع يوليان بأخبار موسى بن نصير برغبته في مساعدته لهزم لذريق على أن يساعده يوليان نفسه إذا ما أراد احتلال إسبانيا، خاصة وأن ابن نصير كان يرنو إلى ذلك ويطمع إليه منذ وقت طويل، وتم الاتفاق مبدئيا بينهما على أن تسلم مدينة سبتة للمسلمين مقابل معاونتهم ليوليان ضد لذريق قبل أن يعمد موسى بن نصير إلى استشارة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك الذي أجابه قائلا: خضّها بالسرايا حتى تختبرها ولا تَغرُر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال!!، فأرسل موسى بن نصير سرّية للاستطلاع قوامها 100 فارس و400 من المشاة تحت قيادة طريف بن مالك الذي قام بالتوغل في الأندلس حتى وصل الجزيرة الخضراء، فاستهوى الأمر موسى بن نصير، فأخذ بتجهيز قوات المُسلمين تحت قيادة طارق بن زياد للانضمام إلى سفن يوليان حاكم سبتة حتى وصلت الجيوش للمنطقة الصخرية الساحلية التي تعرف اليوم باسم (جيل طارق)، ليسارع الجيش إلى التقدم (تاركاً السفن بعد أن ضمّ في صفوفه 7000 مقاتل من العرب والبربر) نحو قادس التي احتلها وسار منها لاحتلال الجزيرة الخضراء التي بقي حاكمها (سانتشو) يقاوم فيها حتى آخر رمق له..”.
خطبة القتال
أخذ طارق في الاستعداد للمعركة الحاسمة، فاختار موقعًا مناسبًا في وادي لكّة، يستند في أجنحته على موانع طبيعية تحميه، ونظم قواته (قيل إنه أصدر أوامره بإحراق السفن ولكن ذلك محل خلاف لدى المؤرخين) وقام في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم حثّ المُسلمين على الجهاد، ورغَّبهم فيه واستثار حماستهم وخطب فيهم قائلا: “….أيها الناس، أين المَفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرًا ذهبت ريحكم، وتعوَّضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم، فدافعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية (يقصد لذريق)، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن، إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة، ولا حَمَلْتُكُمْ على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقِّ قليلاً، استمتعتم بالأرفَهِ الألذِّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي، فقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عُربانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا، وأختانًا، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان؛ ليكون حظُّه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمًا خالصة لكم من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم، والله ولَّى أنجادكم على ما يكون لكم ذِكرًا في الدارين، واعلموا أنني أول مُجيب لما دعوتكم إليه، وأني عند مُلتقى الجمعين حامل نفسي على طاغية القوم لذريق، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده، فقد كفيتكم أمره، ولم يعوزكم بطلب عاقد تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه؛ فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من الاستيلاء على هذه الجزيرة بقتله؛ فإنهم بعده يُخذلون…”.
معركة وادي لكة
في هذه الأثناء كان الملك لذريق مُنشغلا بإخماد إحدى الثورات في (بمبلونة) بشمال البلاد غارقاً في النزاعات الأهلية، لكنه سرعان ما اتجه مباشرة (بعد سماع تحركات جيش المسلمين وجيش يوليان) جنوباً صوب قرطبة بجيش قوامه 40 ألف مقاتل لمواجهته عند (وادي لكّة) قرب مدينة قادس التي كانت جيوش (الكونت يوليان) قد سبقته إليها إلى جانب جيش طارق بن زياد، لتدوم المعركة لثمانية أيام قاوم خلالها القوط مقاومة عنيفة حتى أدت إلى انهزامهم بعد انسحاب لوائيين من ألوية جيشه هذا من جهة، وحالة الإرباك التي أصابت الجيش جراء بوادر الهزيمة وتصاعد الأنباء حول مقتل قائده الملك لذريق من جهة ثانية، وبعد هذا النصر تعقب طارق بن زياد فلول الجيش المنهزم الذي لاذ بالفرار وسار بجيشه مستولياً على بقية البلاد مُتجها نحو الشمال إلى طليطلة التي بثّ أثناء طريقه إليها بحملات صغيرة لاحتلال المدن، فأرسل (مغيثا الرومي) إلى قرطبة في سبعمائة فارس واقتحم أسوارها واستولى عليها، وأرسل حملات مماثلة إلى غرناطة والبيرة ومالقة وقام باحتلالها أيضا، حتى وصل طارق بن زياد إلى طليطلة مُخترقاً هضاب الأندلس (كانت تبعد عن ميدان المعركة ما يزيد عن 600 كيلو متر) التي وجد أهلها من القوط قد فرّوا منها نحو الشمال بأموالهم ولم يبق منهم سوى القليل ممن أبقى عليهم وترك لهم كنائسهم وجعل لأحبارهم ورهبانهم حرّية إقامة شعائرهم الدينية، ليتابع زحفه شمالا مخترقا (قشتاله) ثم (ليون) حتى أشرف على تغر (خيخون) الواقع على خليج بسكونية، ليتوقف زحفه وفتوحاته بعد أن تلقى أوامر موسى بن نصير بوقف الغزو حتى يأتي إليه بقوات كبيرة استعداد للمجهول.
عبور الأندلس
“…..كان ابن نصير يتابع تحركات طارق بن زياد وفتوحاته في الأندلس أول بأول حتى أدرك أنه في حاجة إلى مَدد بعد أن قتل في المعارك ما يقارب على نصف جيشه، ليلحق به إبن نصير على رأس جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل من العرب وثمانية آلاف من البربر عابرا طريقا آخر غير التي عبر منها طارق بن زياد (رمضان 93 هجرية/712 ميلادية)، فبدأ بالجزيرة الخضراء ثم استولى على “شذونة” ثم “قرمونة” “فاشبيلية” و”ماردة” حتى وصل إلى طليطلة حيث جيش طارق بن زياد (سنة 94 هجرية/713 ميلادية)، ويختم حسين شعيب (شخصيات من التاريخ الإسلامي) بالقول: “… بعد أن استراح القائدان قليلا في طليطلة، عادا إلى الغزو من جديد زاحفين نحو الشمال الشرقي مُخترقين ولاية (أراجون) مُستولين على (سرقطة) و(طركونة) و(برشلونة) قبل أن يفترقا كلا في طريق مختلف، فسار طارق بن زياد ناحية الغرب واتجه موسى بن نصير شمالا، وبينما يسير القائدان في فتوحاتهم وصلتهما رسالة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يطلب عودتهما فورا إلى دمشق تاركين المسلمين في الأندلس تحت قيادة عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي شارك في الغزو والفتوحات، فضم بعد ذلك منطقة الساحل الواقعة من (مالقة) و(بلنسية) وأخمد الثورات في اشبيلية، لتتحول الأندلس إلى تاريخ إسلامي جديد بعد نشر الإسلام واللغة العربية، وظلت وطنا للمسلمين طيلة ثمانية قرون حتى سقطت غرناطة آخر معاقل الخلافة الإسلامية في يدي الأسبان النصارى سنة 897 هجرية/1492 ميلادية، وظل في القيادة ومن فتح إلى آخر حتى توفي في العام 720 ميلادية مُعدما فقيراً بالعاصمة السورية دمشق.
> سلسلة من إعداد:
معادي أسعد صوالحة*