“علي أن أفتح نوافذ نافذتي لكي أستقبل رياح الثقافات الأخرى،
شريطة ألا تقتلعني من جذوري”
– المهاتما غاندي –
يمكن الجزم أن العالم المعاصر منذ مطلع التسعينات، طبعته مجموعة من التغيرات المتسارعة في كل الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية بفضل التطورات التكنولوجية والتقنية التي لحقت به والتي تندرج بدورها في إطار العولمة، هذه الأخيرة، شكلت مفهوما أثار جدلا كبيرا على المستوى الدولي، تعددت تعاريفها بتعدد الزوايا التي تُدرس منها، ولعل أهم تعريف لها، نذكر تعريف عبد المنعم الحنفي بقوله: «العولمة هي رسملة العالم، وتتم السيطرة عليه في ظل عامية المركز وسيادة نظام العالم الواحد، وبذلك تتهاوى الدول القومية وتضعف فكرة السيادة الوطنية وسيطرة الثقافة العالمية» – معجم الشامل في المصطلحات الفلسفية.
تأخذ العولمة عدة أبعاد أهمها البعد الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي؛ ولكل هذه الأبعاد خصائص وتأثيرات على المجتمع.
هذه التغييرات التي شهدها العالم المعاصر بفضل النظام العالمي الجديد والعولمة، أثرت بشكل كبير على الحياة الاجتماعية والثقافية للأفراد والجماعات وعلى منظومة القيم الاجتماعية والهوية الثقافية. فما هي معالم التغيرات التي لحقت بالمجتمع؟ وما هي آثار هذه التغييرات على منظومة القيم الاجتماعية لدول العالم النامي؟ وكيف يمكن التخفيف من حدة هذه التأثيرات؟
لاشك أن التقدم الذي يشهده العالم الرقمي وليد العولمة، له إيجابيات ومزايا كإلغاء المسافات بين الدول وتقصيرها، مما حول العالم الى أشبه بقرية إلكترونية صغيرة، يسهل خلالها الاتصال والتواصل بين المجتمعات عبر شبكات الأنترنيت وأجهزة البث الإذاعي والتلفزي، كما يساهم في مشاعية المعرفة، اذ أصبحت المعلومات متوفرة في كل وقت وحين ويسهل الحصول عليها.
ولهذا التقدم تأثير على سوق الشغل عبر توفير فرص الشغل وتوسيع آفاق التجارة لتظهر التجارة الإلكترونية التي تساعد في تطوير أساليب العيش لدى المواطنين وتولد وظائف أفضل وأكثر إنتاجية للجميع وأفضل مثال لذلك، شركة Amazon التي استطاعت أن توفر أكثر من أربعة ملايين منصب شغل للمواطنين في كل أركان العالم، ولهذا التقدم ٱنعكاس إيجابي كمحاربة البطالة وأشكال الفقر. إلا أن هذا التقدم التكنولوجي الذي جلبته العولمة، يتسم ببعض السلبيات لابد من الإضاءة عليها كتقسيم العالم إلى قسمين: عالم متقدم، يمتلك أسس اقتصاديات العالم ويتحكم في مصير الشعوب، وعالم نام يعرف أيضا بالعالم الثالت، يعيش دائما تبعية دائمة والتحاقية للعالم الأول، هذا الأخير يتحكم في ثروات الثاني ويتصرف فيها فيما يخدم مصالحه.
هذه التبعية التي يعيشها عالم الدول النامية، لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فقط، بل تتوسع وتتعولم إلى أن تشمل الجوانب الثقافية والاجتماعية، فشعوب الدول النامية تقلد العالم الغربي في جميع الممارسات اليومية بكل ما يكتنفها من سلوكات وأفكار ومعايير وقيم، نأخذ على سبيل المثال اللغة الأم، التي تعتبر بمثابة روح لجماعة معينة، فاللغة أصبحت تتغرب وتتلاشى وتتهمش لتحل محلها اللغة الإنجليزية، هذه الأخيرة تعتبر بمثابة حصان طروادة يمهد للهيمنة الأميركية لكي تفرض أجندتها على باقي الدول مما يلغي الخصوصية اللغوية لجماعة معينة، وتحويلها إلى شعب تائه يسهل احتواؤه داخل إطار كوني واحد يتماشى مع مصالح القوى الدولية، إضافة الى تقليد في أنماط السلوك في المأكل والمشرب والملبس والمسكن وكل الممارسات اليومية، أفضل نموذج هو اللباس، فمثلا داخل المغرب، أصبح اللباس التقليدي المغربي الأصيل كالبرنس والجلابة والقفطان، لباسا مناسباتيا وشبه منسي لدى بعض الطبقات، ليحل محله اللباس الغربي بجميع ماركاته.. الخ، والمثير للاستياء، أن التبعية انتقلت لتشمل مجال الطبخ، حيث غدت أيضا الأكلات المغربية التقليدية، مثل الكسكس والطاجين، أكلات موسمية ومناسباتية، وحلت محلها الأكلات الغربية الماكدونالزية والطاكوسية والبيبسية، فبدل أن يجتمع أفراد الأسرة المغربية على مائدة الطعام ويتناولون وجبة مغربية أصيلة كالطاجين أو الكسكس، يفضلون أن يستفرد كل فرد من أفراد الأسرة بطبق طاكوس أو وجبة ماكدونالدز داخل غرفته منعزلا عن العالم الأسري، ومرتبطا بالعالم الافتراضي وليد تكنولوجيا العولمة، من هنا يتبين أن العولمة تشجع قيم الانعزال والانفرادية، قيم الثقافة الرأسمالية التي تعمل على هدم البنيان الثقافي لجماعة معينة، وفي المقابل تشجع ثقافة الاستهلاك وتحقر العمل اليدوي التقليدي وتوجه خيالهم وسلوكهم نحو نمط العيش في الغرب.. وعندما ننتقل إلى المجال الفني، نجد أن الأغنية المغربية التقليدية أصبحت من الطراز القديم بسبب غزو الأغاني الغربية واحتلالها مكانة كبيرة داخل الأسر والاوساط الشبابية وكذا في وسط الساحة الفنية في كل المجتمعات والشعوب، وأقبلت شرائح المجتمع على سماعها واستهلاكها والتأثر بها لأنها استغلت مبدأ إلغاء الحواجز والعوائق بين الأسواق وتكنولوجيا المعلوميات وتراجع الأغنية الأصيلة.
هذه التبعية التي تعيشها دول العالم النامي، سببها تكريس الفوارق الطبقية بين العالم المتقدم والعالم النامي، وهذه الهوة أدت إلى خلق إحساس بالدونية والغلبة لدى المجتمعات النامية، ولم تر إلا التقليد سبيلا للالتحاق بالعالم المتقدم، فالمغلوب مولع دائما بتقليد الغالب حتى ولو كان تقليدا للمساوئ والمتناقضات والسطحيات، هذه التبعية سواء على المستوى الثقافي تؤدي إلى خنق ثقافة الشعوب وجعلها مجرد فولكلور وبالتالي تكرس الفراغ الفكري والقيمي والثقافي بسبب إملاء سياسة ثقافية نتائجها مفجعة على النسيج الثقافي والهوياتي.
من خلال الأمثلة التي ذكرنا سالفا، يتضح أن المجتمع النامي الذي يقع تحت وطأة العولمة يقلد العالم المتقدم في شتى الممارسات اليومية إلى درجة الذوبان فيه، مما يبعد هذه المجتمعات عن مبادئ ومعايير ثقافتها الأصلية، في من إطار التبعية والتقليد الأعمى الآلي المجرد من الوعي والشعور.
تكنولوجيا العولمة، بإزالتها الحواجز والحدود بين مختلف الشعوب، وتذويبها في وعاء متجانس يولد ثقافة أحادية وذهنية أحادية، فهي تمارس بآلياتها عنفا رمزيا وعدائيا ضد الهوية المحلية لمجتمع معين، واختراقا ثقافيا يؤديان إلى اختلال التوازن الأخلاقي والمعرفي وإلى جعل الشعوب أشبه بقطيع بدون هوية ولا ثقافة، يسهل السيطرة عليه وتوجيهه في المكان المرغوب فيه.
والمثير للدهشة، أن العولمة وما تمارسه من اعتداء ضد الهوية المحلية لجماعة معينة، تُغلفه بذريعة التحديث والانفتاح، والحال أن ما تمارسه العولمة حاليا يتجاوز بشكل كبير قيم الانفتاح والتحديث، لأن ما تمارسه حقيقة هو طمس للهويات الثقافية وتذويب الرموز والعادات والتقاليد التي تعتبر خصوصية فردية خاصة لكل مجتمع. في الحقيقة، ما أحوجنا إلى ترسيخ ثقافة الانفتاح على الآخر والتحديث، لكن دون الوصول إلى درجة الذوبان والتبعية، كما قال الزعيم الهندي المهاتما غاندي: “علي أن أفتح نوافذ نافذتي لكي أستقبل رياح الثقافات الأخرى، شريطة ألا تقتلعني من جذوري”.
ما يهمني في هذه الورقة، هو الإدلاء برأيي المتواضع بخصوص بعض الهجمات والاعتداءات التي تتعرض لها الثقافات والهويات في مختلف أنحاء العالم من طرف العولمة وآلياتها تحت ذريعة الانفتاح والتحديث، وكل أمل أن تعمل الجهات الحكومية والمؤسسات والمنظمات والهيئات المجتمعية على ضرورة التحسيس بخطورة هذه الظاهرة، وتربي لدى الأجيال الناشئة ثقافة الحفاظ على الهوية الثقافية لبلدانها والافتخار بها مع ضرورة الانفتاح على الغير..
< بقلم ذ: يوسف أسونا