تسعى الرواية دوما إلى الانفتاح على مختلف التحولات والتغيرات التي يشهدها عالم اليوم، وإلى استيحائها وتجريبها في نصوصها، وذلك بشكل تظهر معه، في كل حقبة تطورية، أشكال جديدة في الكتابة الروائية، بما هي أشكال قادرة على التعبير عن مجتمعات الرواية، وعن هوياتها ومشاكلها وأحلامها وآلامها ومصائرها ورغائبها…
ومن شأن الرواية اليوم أن تضفي على هذا العالم الافتراضي، في تجلياته المختلفة، أبعادا طافحة بالقيم والجمال والدهشة والمفاجآت والدلالات، وذلك على نحو يتطلب من الكتاب اليوم “أن يفكروا في انتهاج أساليب جديدة في الكتابة تراعي واقع هذه التحولات وممكنها”، على حد تعبير الدكتور سعيد يقطين، وأن يتوقعوا أيضا أدوارا ووظائف جديدة للرواية في عالم متعولم.
من هنا، فالمحكي الروائي العربي، في تفاعله مع أدوات التواصل الإلكترونية، أضحى يخلق من حوله، ليس فقط أساليبه السردية ومعجمه، بل أيضا لغاته وتعابيره الافتراضية الخاصة، بشكل يؤشر على مدى ما يتيحه هذا الشكل الروائي الجديد من إمكانات جديدة للتعبير عن أحوال الشخوص وعن همومهم الذاتية؛ إذ أصبحنا، على سبيل المثال، نقرأ في بعض النصوص الروائية الافتراضية عما يسمى بـ “الحب الافتراضي” و”الأحزان الإلكترونية”، وغيرها من التعابير التي تتسلل اليوم إلى معجم الرواية الورقية الافتراضية.
هكذا، نجد أن الرواية العربية الورقية الافتراضية ما فتئت تعمل، هي أيضا، على تنويع مداخل قراءتها، بما في ذلك تنويع عتباتها النصية، وذلك بشكل يفتح أمام القارئ مداخل أخرى للتلقي. فإلى جانب تمظهر عتبة “الغلاف” في بعض الروايات الورقية الافتراضية، في مكوناته ومؤشراته وعلاماته السيميائية المتنوعة، الرامزة في مرجعياتها الشكلية والصورية والجمالية إلى البعد الافتراضي لهذه الرواية أو تلك، وذلك بشكل يضع القارئ في صلب العالم الروائي الذي سيلجه ويقرأه ويتلقاه، والذي ليس سوى العالم الافتراضي، وفق ما ترمز له مؤشرات بعض الأغلفة، فضلا عن ذلك، نجد الوضع نفسه فيما يتعلق بعتبة “العناوين”، كما وظفتها بعض الروايات الورقية الافتراضية، حيث يعتبر العنوان، في هذا الإطار، من بين العتبات الموجهة لقراءة النص الروائي المتعلق به، بما يخلقه العنوان من جاذبية وفضول وإغراء، وأيضًا بما يولده من أبعاد إيهامية ودلالات افتراضية، كما هو الحال، على سبيل المثال، في روايات: “حبيبي أون لاين” لأحمد كفافي، و”حرية دوت كوم” لأشرف نصر، و”أحزان إلكترونية” لحنان الوداعي، و”أهداب الخشية، عزفًا على أشواق افتراضية” لمنى بشلم، و”الأزرق والهدهد، عشق في الفيسبوك” لجاهدة وهبه، و”حب في زمن الفيسبوك” لمريم كَنماتي، وغيرها.
يسمح هذا الشكل الروائي الجديد، كذلك، بنسج شبكة علاقات بين شخوص رواياته، وأحيانًا يتم ذلك خارج أي إطار، أو تخطيط مسبق، لتتأسس تلك العلاقات بناء على قناة التواصل الاجتماعي (الرسائل الإلكترونية مثلًا)، انطلاقًا مما يوفره الشكل التراسلي، في صيغته الافتراضية، من إمكانات مفتوحة وحرة للشخوص، من أجل التواصل والتعارف والبوح والاعتراف والحب والعشق والنقد وتبادل الأفكار ومناقشتها. ويحدث أحيانًا في بعض الروايات الورقية الافتراضية، أن يبقى التواصل افتراضيًا حتى نهاية الرواية، فيما يشبه ملاذاً للشخوص للتنفيس عن رغائبها، وللتعبير عن مكبوتاتها، هربًا من واقع لم يعد يُحتمل، بما هو واقع مترد، يسوده الكبت والانغلاق والاضطهاد، كما استوحته بعض الروايات، إثر لجوء الشخوص إلى الاحتماء بالواقع الافتراضي، فيما يتم، في أحايين أخرى، إخراج الشخوص وحكاياتها، من حالة الافتراض إلى الواقع، بشكل ينوع من أوضاع الشخوص في الرواية، ويخلق المزيد من التشويق والمفاجآت.
وإذا كانت الرواية الورقية الافتراضية في بعض نماذجها، تتوسل في تركيب بنيتها السردية، بأساليب وتقنيات السرد الروائي المتعارف عليها، فإنها تبقى على مستوى الفضاء السردي، في نصوص أخرى، رهينة شكل السرد الافتراضي، في مستوياته التواصلية المختلفة: إيميلات، وكروبات، وتدوينات فيسبوكية، وحوارات الشات، وميسنجر، وغيرها، وذلك بشكل يحد من توسع بنيتها السردية العامة، ومن انفتاح عالمها الروائي على التنويع في أنماط الشخوص، وتوسيع البنيتين الزمنية والمكانية، وتكثيف المحكي الروائي فيها، في وقت يحدث فيه أن تنغلق البنية السردية في الرواية الورقية الافتراضية، على نمط معين من الشخوص المتعلمة، في صورها المختلفة، بالنظر لما يستلزمه العالم الافتراضي من “تعلم” و”معرفة” و”إدراك” مسبق بتقنيات التواصل، على مستوى القراءة والكتابة واستخدام الحاسوب، وذلك بمثل محدودية أساليب وتقنيات أخرى في الرواية الورقية الافتراضية، من قبيل تقلص هامش الوصف فيها، أمام الصورة اللامرئية لعالمها الافتراضي، وكذا تغير مفهوم البطولة فيها.
وتبرز أهمية هذا التوجه الجديد في كتابة الرواية الورقية الافتراضية، في إقبال بعض الروائيين المكرسين أنفسهم، إلى جانب الروائيين الجدد ممن اختاروا الكتابة داخل هذا الشكل الروائي الجديد، على خوض غمار هذه المغامرة التجريبية مع كتابة الرواية الورقية الافتراضية والرواية التفاعلية، على حد سواء، في تفاعل نصوصهم الموازية مع العالم الافتراضي، ما يشي بمدى قدرة الرواية العربية اليوم في تنوع أجيالها، في انتمائهم إلى مشاهد روائية عربية مختلفة، على مواكبة جانب من التحولات التي يخلقها العالم الافتراضي، في استقطابه لشرائح معينة في مجتمعاتنا، ومن بينها فئة الروائيين أنفسهم، وذلك بالنظر لما يخلقه هذا العالم الافتراضي من عوالم مدهشة وممتعة، ولما يرصده من قضايا وثيمات مهيمنة، من قبيل موضوعات: الحب والجنس والضياع والحيرة والشك والخوف والحلم والكوابيس والإحباط والهروب والغيرة والوهم والوحدة والموت والغربة والهشاشة والعزلة والشوق والانتظار، وغيرها.
وبالإمكان التمييز بين شكلين روائيين داخل العالم الروائي الافتراضي: روايات تنحو منحى سرديًا افتراضيًا على مستوى بنيتها السردية والحكائية العامة، وهو أسلوب في الكتابة، يرتضيه اليوم بعض كتاب الرواية الجدد، وروايات تستثمر المكون الافتراضي فيها، بشكل مواز للمحكي الواقعي، وبشكل غير مهيمن في الرواية، باعتباره أسلوبًا يوظفه اليوم بعض الروائيين المكرسين في عالمنا العربي، من دون أن يكون هذا الشكل، أو ذاك، حكرًا على فئة من الروائيين دون أخرى.
وإقبال الروائيين المكرسين على التفاعل مع العوالم الافتراضية في نصوصهم الروائية الجديدة، معناه: إنه ليست لديهم مواقف مسبقة من هذا الوافد الجديد، الذي هو العالم الافتراضي، ومن تجريب أشكاله وتقنياته في نصوصهم الروائية، بما يتماشى وروح العصر الذي يبدعون فيه، ومواكبة تطوره وتحولاته. وليس ذلك بأمر جديد عن تطور الرواية العربية، في إقبالها الممتد على تجريب أشكال روائية مختلفة، مستقاة إما من الموروث السردي العربي القديم، أو من التراث الروائي العالمي، من قبيل تفاعلها مع أشكال سردية وموضوعاتية، كما تمظهرت، على سبيل المثال، في الرواية التراسلية، ورواية الخيال العلمي، والرواية البوليسية، والرواية الوثائقية، وغيرها من الأشكال الروائية المبتكرة والمستجدة.
من بين النماذج الروائية الورقية العربية التي استندت في بناء متخيلها الروائي العام على العالم الافتراضي، في جزئيته، نشير إلى واحدة من الروايات العربية المتميزة، التي أبدع كاتبها في تمثل هذا المعطى الشكلي الجديد، وفي ترويضه تخييليًا ولغويًا وتقنيًا، يتعلق الأمر، هنا، برواية “مملكة الفراشة” لواسيني الأعرج (الصادرة عن المركز الثقافي العربي، سنة 2013، والفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية، في دورتها الأولى، سنة 2015)، باعتبارها نموذجًا روائيًا دالًا، من بين نماذج روائية عربية أخرى جيدة، استندت في تشييد متخيلها العام إلى العالم الافتراضي، من قبيل روايتي “في كل أسبوع يوم جمعة” لإبراهيم عبد المجيد، و”أجنحة الفراشة” لمحمد سلماوي، وغيرهما من الروايات العربية الجديدة والمضيئة لموضوعها.
يختار واسيني الأعرج في روايته، من بين أدوات وتقنيات وموضوعات وتناصات مع فنون مختلفة تحبل بها الرواية، تقنية التواصل الاجتماعي “الفيسبوك”، بموازاة مع حكيه عن بعض مشكلات عالمنا العربي وحروبه وفوضاه وتحولاته الاجتماعية والنفسية والسلوكية، وذلك من خلال “الحرب الأهلية”، وما تلاها من “حرب صامتة”، و”بائسة”، و”مجنونة”، كما تسميها الرواية، وكما عاشتها الجزائر، يختار واسيني هذه التقنية للحكي عن قصة حب افتراضية لم تكتمل، بين شخصيتين مركزيتين في روايته، إحداهما واقعية، هي “ياما”، الفتاة الجزائرية المدمنة على العالم الافتراضي وهي صيدلانية وعازفة على الكلارينيت في إحدى الفرق المحلية (ديبو جاز)، والأخرى افتراضية، يجسدها صديقها “فادي” (أو فاوست)، الفنان المسرحي الإسباني الأصل الذي استوطنت أسرته في الجزائر، وغادرها هو ليعرض إحدى مسرحياته في إسبانيا.
دفعت ظروف الحرب الصامتة التي أعقبت الحرب الأهلية في الجزائر شخصية “ياما” إلى أن تسجن نفسها في البيت، فلم يعد أمامها من وسيلة للانفتاح على العالم والتواصل مع الآخرين سوى “الفيسبوك”؛ إذ يحضر العالم الافتراضي في رواية “مملكة الفراشة” منذ صفحاتها الأولى، وقد أضحت هذه المملكة الزرقاء بالنسبة لياما بمثابة أسلحة جبارة لمقاومة خوفها ووحدتها، بل ولممارسة الجنس افتراضيًا، بواسطة اللغة، مع حبيبها “فادي”، أو “فاوست”، كما أسمته هي، فكانت مساحتها الوحيدة والمشتركة للاتصال هي الفيسبوك، ولا شيء غير الفيسبوك، جنتنا، أو مملكة الفراشة، حسب تعبير “ياما” في الرواية، هي التي وقعت في علاقة حب صديقها الافتراضي عبر الإنترنت، امتدت لأزيد من ثلاث سنوات من التواصل وانتظار عودته إلى الجزائر ليعرض مسرحيته فيها، لتكتشف في الأخير أن الفنان المسرحي الذي عاد إلى الجزائر، ليس هو “فادي”، وأن من كانت تتواصل معه هو شخص آخر، اسمه “رحيم”، عهد إليه الإشراف على صفحة فادي في الفيسبوك.
ولم تجعل رواية “مملكة الفراشة”، من قصة الحب الافتراضية بين “ياما” و”فادي”، حكاية مهيمنة فيها، أمام تعدد حكايات الرواية وشخوصها وأحداثها، بل إنها نجحت في ترويض هذا الفضاء الافتراضي، بأن جعلته فضاء موازيًا ومتداخلًا مع باقي حكايات الرواية، بمعنى أن المكون الافتراضي في الرواية، لا يقدم معزولًا عن عالم الرواية، ولا يبدو غريبًا عنه، أو مقحمًا فيه، بقدر ما يصبح جزءًا منه، ومكونًا أساسيًا فيه، بشكل تبدو معه حكاية الحب الافتراضي حكاية متشظية في الرواية، حيث إن البنية الروائية العامة تستبطن مختلف التحولات والمصائر والمآلات التي ترصدها الرواية، في أبعادها الواقعية والافتراضية، على اعتبار أن العالم الافتراضي اليوم يكمل العالم الواقعي، ويوازيه ولا ينفصل عنه، وقد غدا مكونًا أساسيًا في بنية النص الذي يوظفه ويتفاعل معه.
من هنا، فرواية “مملكة الفراشة” هي نموذج دال على حجم الإمكانات التخييلية التي يمنحها الفضاء الافتراضي للروائي لغاية تنويع عالم روايته، بما يولده هذا الفضاء من أشكال وخطابات وتقنيات موازية، عملت على توسيع الفضاء السردي والحكائي واللغوي والجمالي للرواية، بالنظر لما يتضمنه الحيز الافتراضي فيها من سرود وحوارات وحكايات وأحداث وشخوص ومصائر، ومن تداعيات واستيهامات ومونولوغ وتذكر واستباق واسترجاع، وأيضًا من أجواء تطبعها المصادفات والأجواء الرومانسية وحالات العنف، وذلك بشكل يجعل البنية السردية في هذه الرواية منفتحة على مزيد من الاحتمالات والأحلام والإيحاءات والمفاجآت والأوهام والأحاسيس والمشاعر، نتيجة لما تكشف عنه وتخفيه مساحة الفيسبوك في الرواية، إلى جانب قدرة الروائي على اللعب بالسرد وباللغة، عبر الانتقال بهما من سياق إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى.
هكذا، نجد أن من بين خصائص الكتابة في رواية “مملكة الفراشة”، كونها لم تبق سجينة الفضاء الافتراضي فيها، كما في روايات أخرى، حيث إن السرد فيها كثيرًا ما كان ينزاح عن حكاية الحب، بطرفيها الواقعي والافتراضي، ليفتح مجراه على حكايات وقضايا أخرى، مرتبطة خصوصًا بتلك الحرب الصامتة، بما خلفته من انكسارات وآثار نفسية، وبمصائر مجموعة من الشخوص، في انتسابها إلى عائلة “ياما” (الأب والأم والأخت والأخ…)، إلى جانب تمكن الرواية من تسريد هذا البعد الافتراضي فيها، بدل الاقتصار على التواصل الحواري فقط، كما في نصوص أخرى؛ إذ يحدث أن يتناوب السرد والحوار في رواية “مملكة الفراشة” لتمرير المحكي الافتراضي، عبر استعمال ضمير الغائب، وخصوصًا عند حديث الساردة “ياما” عن حبيبها “فاوست”، قبل أن تستعيد الرواية حواريتها الافتراضية، إلى درجة تنتفي فيها الحدود أحيانًا بين الواقعي والافتراضي في نظر “ياما”؛ هي التي تقول مخاطبة حبيبها المفترض: “يجب أن تعرف أنك خرجت من الافتراض، وأصبحت حقيقتي الأهم”.
كذلك تطرح الرواية وظيفة (الفيسبوك)، هذه الزرقة التي جعل منها مارك زوكيربرغ سكنًا لكل العابرين بلا زاد ولا خوف، كما تقول “ياما” في الرواية، باعتباره موضوعًا لنقاش عابر، من منظور جيلين متباعدين: جيل والدي “ياما”، اللذين ينظران إلى مملكة زوكريبرغ الزرقاء، وإلى بقية المواقع الاجتماعية الأخرى، على أنها ليست هي الحياة كلها، وأنها مضيعة للوقت، وفضاء للأوهام فقط، في حين يرى جيل الشباب، ممثلًا بـ “ياما”، أن هذا الفيسبوك هو فضاء يؤسس افتراضيًا لعلاقات حب في انتظار أن يتحقق على أرض الواقع، بمثل ما يربط هذا الفضاء شخصية “ياما” بالعالم الخارجي المغلق، ويمنح الأمل للالتصاق بالحياة أكثر، على حد تعبيرها.
يتواصل الحوار الافتراضي بين الحبيبين عن الحب والبعاد والتوجس والخوف وغياب الاطمئنان والإحباط والعزلة والغيرة من نساء أخريات، وعن الشوق والانتظار واللقاء المرتقب، وأوهام المملكة الزرقاء، إلى أن اكتشفت “ياما” أنها تعرضت لعملية نصب وخداع عبر الفيسبوك، وأن من كان يتواصل معها ليس هو حبيبها الافتراضي.
وعمومًا، نجد أن نصوص الرواية العربية الورقية التي تفاعلت مع المكون الافتراضي فيها، ما فتئت تنحو منحى خاصًا في الكتابة، باعتبارها نصوصًا، هي في بحث متواصل عن أشكال سردية وتقنيات وبنيات تعبيرية جديدة، تدخلها في روح العصر الجديد، بما يتيحه لها هذا العصر من إمكانات أوسع للحكي والتواصل مع العالم، من خلال توظيف معطيات الشبكة العنكبوتية الرقمية والفضاء الافتراضي، للتأثير على إدراك الإنسان للعالم الجديد من حوله، وعلى أحلامه ومصائره ورغائبه وأوهامه ونزواته وهمومه وأزماته وتناقضاته.
بقلم: د. عبد الر حيم العلام