في ذاكرتنا.. عباس الجراري والجهد العلمي المكرس لإرساء دعامات الأدب المغربي

في ليلة للعرفان وسبرا في أغوار مسار المفكر المغربي والأكاديمي الراحل عباس الجيراري، عاد عدد من المثقفين ورفاق الراحل لاستخلاص العبر من مساره الغني والمتميز الذي بصم عليه لمدى عقود على مستويات مختلفة وفي مقدمتها الثقافة والأدب المغربي.
والتأمت عدد من الشخصيات في لقاء خاص ضمن فقرة “في ذاكرتنا” ضمن فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب، وهي الفقرة التي جرى تخصيصها الجمعة الماضي للأكاديمي الراحل عباس الجيراري. حيث توقف المتدخلون عند إسهامات الراحل ومسهامته في إغناء الثقافة المغربية وعبرها العربية ومدى انشغاله بالأدب وبكل مظاهر الثقافة المغربية.
وتوقف إبراهيم المزدالي الذي سير أطوار اللقاء عند مسار الراحل عباس الجراري، حيث قال إن ما حققه يثبت أنه استطاع أن يضع للأدب المغربي المكانة اللائقة في مسار كبير وطويل للثقافة المغربية، التي هي جزء من الثقافة العربية.
وأضاف المزدالي أن المفكر الجراري ومن خلال عطاءته أسهم في وضع قيمة ومكانة في الثقافة المغربية وما يصلها بالثقافة العربية بصفة عامة والثقافة العالمية بصفة أعم، مشيرا إلى أن مسيرته كانت محفوفة بالكثير من الأحزان، والمشاق، والصعوبات، والإكراهات التي اضطر إلى مواجهتها بقوة وقدرة، واستطاع تحقيق مكاسب مهمة لشخصه وللثقافة المغربية.
وتابع المودالي أن الراحل واجه إكراهات ليستطيع إثبات القيمة المهمة والفاعلة للأدب المغربي في الجامعة المغربية، ثم معركة كبرى ليضع لأدب الملحون المغربي مكانته داخل الجامعة المغربية، بعد معاناة ومواجهات لا أول لها ولا آخر، ويضع لأدب الملحون مكانة داخل الجامعة، مستدلا على ذلك بالقول “ويكفي أن ننظر لقائمة الأطروحات في هذا المجال”.
وبعد كلمة المسير، كانت الكلمة الأولى لرفيقة درب الراحل حميدة الصائغ، التي عادت لأول لقاء جمعها بعباس الجراري وكان ذلك بالقاهرة سنة 1956 في مكتب لجنة المغربي العربي، لتستمر بعدها حكايتهما بعد ارتباط وثيق.
وتوقفت حميدة الصائغ عند معاناة الفقد والفراق التي جاءت بعد رحيل الجراري، منشدة بعض الأبيات الشعرية التي تتأسى لفراق زوجها ورفيق دربها التي قضت معه عقودا من الزمن بحلوها ومرها، تصف المتحدثة.
وبدورها، لفتت حميدة الصائغ إلى المصاعب التي واجهت الراحل في مساره العلمي والأكاديمي وعن غيرته على الثقافة المغربية، والتي كانت، بحسبها، دافعا للتغلب على سائر الصعاب أيا كان مصدرها، لتحقيق المشروع الفكري الذي ابتغاه.
وهكذا تقول الصائغ إن الجراري تغلب على الصعاب وعلى من سفهوه وحاربوه، ليجعل الثقافة المغربية بارزة، وعلى رأسها الخطوة المهمة التي تمثلت في رفع التعتيم عن الزجل بالمغرب، حيث نشر الراحل أول مؤلف حوله وهو كتاب “القصيدة”.
وتابعت المتحدثة “استمر عملنا طوال 63 سنة، والتي قدم من خلالها الراحل الكثير من العطاءات لكشف الحجاب عن تراثنا الغني والمتنوع، المعرب والملحون، الأمازيغي والحساني، دون تفريق أو استبعاد لجانب فكري أو أدبي أو ديني..”.
كما عادت الصائغ للحديث عن مواقف الراحل الحسن الثاني من مشروع الجراري والذي قال إنه لقي كل ثناء ومواكبة، ونفس الأمر بالنسبة للملك محمد السادس الذي أثنى على مشاريع وإسمامات عباس الجراري.
وبعدما أكدت في كلمتها على مدى أهمية الراحل وما قدمه من إسهامات، علقت الصائغ على شخصية الراحل الذي قالت إنه كان يتمتع بخصال كثيرة “كان موسوعيا قل نظيره، محب لوطنه، بوجه صبوح طلق وابتسامة دائمة، وحنو بالغ على إخوانه وطلبته، متسامح في علاقاته، وبار بوالديه، ومستند على أسرته الصغيرة، لا يزحزحه على حبها والتمسك بها أي عارض، مخلص لملوكه..”، تختم كلمتها.
بدوره، قال مصطفى الجوهري، محافظ النادي الجراري الذي يعد أحد أقدم النوادي الثقافية المغربية إن شخصية الراحل عباس الجراري شخصية نادرة المثال في منظومتها الذاتية والثقافية، كان هاجسها من قبل ومن بعد الثقافة وشغله الشاغل الكتاب والكتابة.
وأردف الجوهري أن الراحل كان العالم والمفكر الموسوعي الرائد، والمؤسس في المشهد الثقافي، عميد الأدب المغربي، الذي يحتل مساحة شاسعة ليس في الذاكرة الثقافية المغربية في مختلف تجياتها فقط، بل وطنيا وعربيا وإسلاميا أيضا.
وعاد الجوهري للحديث عن مشاركات الراحل المتعددة وأعمالها المتواصلة في أكثر من مجال وميدان، وحضوره وعمله في الجامعة، والثقافة الجمعوية، والمجتمع المدني، بنبل وتواضع وعطاء وكرم وفضائل، مشيرا إلى أنه ترك بصمة وتعلم منه الكثير.
وأشاد المتحدث بجهود الجراري في خدمة الثقافة المغربية، من خلال بدايته بالجامعة التي انخرط في إصلاحها وتدبيرها وتأهيلها للتحديات الحديثة وخاصة في منظومة البحث العلمي والثقافي، بالإضافة إلى عمله على تجديد المقاربة العلمية والفنية بإحياء المنسي والمهمل من الأدب المغربي، وتجديد خطابه ونظرياته، ليحوله من النسيان والإهمال إلى الحياة والانفتاح.
وعن التفاتته إلى التراث والثقافة الشعبية، لفت الجوهري إلى طريقة تفكير الراحل وإلى نشأته التي كانت مفعمة بالثقافة وبحب الثقافة المغربية، بتوجيه من والده، حيث عمل على النهوض به بوسائل ثقافية متباينة بالنادي الجراري وأكاديمية المملكة المغربية، والمهرجانات وغيرها.
وذكر محافظ النادي الجراري بكون هذا الجهد كانت له نتائج ملموسة في تاريخ الثقافة المغربية، خصوصا وأن الراحل لعب دورا بارزا في الاعتراف بالملحون تراثا عالميا للإنسانية، بالملف الوجيه الذي ساهم في تحرير مفرداته، وحقق الأمنية الثمينة والغالية التي لخصت جهوده ونضاله الطويل.
وجدد الجوهري التأكيد على أن للراحل أفضال كثيرة، حيث أفنى عمره للنهوض بالثقافة المغربية بمختلف أشكالها وتنوعاتها، حيث عمل على النهوض بالثقافة والأدب واللغة الأمازيغية، وثقافة الصحراء والشعر الحساني، “وكان كلاهما آنذك أدبا بكرا، رغم إكراهات الإقبال آنذاك”. يقول المتحدث.
من جهته، قال عبد الحق عزوزي، رئيس كرسي تحالف الحضارت بالجامعة الأورومتوسطية بفاس إن الراحل عباس الجراري كان من القلائق المبعوثين للتجديد، بمداد عربي أصيل.
وتابع عزوزي أن الراحل أسهم في تكوين أجيال من المغاربة، حيث تتلمذ عنه المئات، وتخرج على يديه الآلاف، “وبقي رجلا متواضعا، عالما فذا، قل نظيره”، يعلق المتحدث، الذي أردف في كلمته أنه كان يعتبر عباس الجراري “والده الروحي”.
وأبرز عزوزي أن الأكاديمي الراحل كان يتمتع بخصال عظمى وهو “ما لا يوجد عند غيره”، يقول المتحدث، مضيفا أنه قيمة علمية ومتمكن من استراتيجيات فكرية، وإسمهامات عديدة.
وبدوره أشاد رئيس كرسي تحالف الحضارت بالجامعة الأورومتوسطية بفاس بإسهامات الراحل التي قال إنها ستظل خالدة، واصفا إياه بالشجرة الطيبة التي جنت منها البشرية أزيد من خمسين مؤلفا، وآلاف المقالات، والأطاريح، والمشاركات المتعددة، فضلا عن تقلد مناصب سامية متعددة، وباعتباره عالما مجاهدا قضى حياته ناسكا في منبر العلم والعطاء.
من جانبه، قال فيصل الشرايبي إن التتلمذ على يد عباس الجراري شرف، مضيفا أن الراحل “غرس فينا بذارا كثيرا، تبدأ بالأدب المغربي الذي مضى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، وتعملق في ذاتنا إكبار الذات المغربية بمختلف أبعادها”، وفق تعبير الأكاديمي.
ويضيف الشرايبي “طوق جيدنا بعقد فريد من درره التحقيق، والعبقرية اليوسية، وكان مسكونا بالهم الثقافي ويعلم أن الثقافة التي لا تولي الثقافة أي اهتمام لا مستقبل لها”، مسترسلا أن الثقافة الشعبية هي الرابط بين ذلك والتي جعل لها الراحل إسمامات كثية للرقي بها، معتبرا أن “واسطة العقد هي أدبنا الشعب”، يقول الأكاديمي الشرايبي في وصفه لدفاع عباس الجراري عن الأدب المغربي وخصوصا الأدب الشعبي..

>محمد توفيق أمزيان

Top