في الوقت الذي كان كل المغاربة، وخصوصا المتتبع منهم للشأن التربوي، ينتظرون ضبط مسار الإصلاح التربوي وتعديل نموذج المدرسة المغربية لتحقيق الاستفادة الكبرى من مراحل التجريب الأولية التي مرت منها المدرسة الرائدة ببلادنا، وقبل المرور إلى اعتماد هذا النموذج للسنة الثانية على التوالي بعدد مهم من مدارس البلاد العمومية، وذلك من خلال الانتقال من العينة التجريبية المتمثلة في 628 مدرسة عمومية إلى ما يقدر بـ 2628 مدرسة خلال الموسم الدراسي القادم كعينة لتوسيع هذا المشروع، مع الانتقال أيضا للعمل به في عينة تجريبية بالسلك الإعدادي. يسجل هذا المتتبع لما آلت إليه أحوال النظام التربوي المغربي، إصرار الوزارة الوصية على الاستمرار بنفس الوتيرة، بل والانتقال إلى تحقيق التأصيل التشريعي للنموذج الجديد من خلال مراسيم وزارية تخالف المرجعيات التشريعية الوطنية في العديد من بنودها. فبدل العمل على ضبط وتعديل خطط العمل ومقتضيات مشروع مدارس الريادة لتتلاءم أكثر مع البنود الدستورية والقانون الإطار 51.17 ثم المبادئ المؤطرة للنظام التربوي المغربي وبشكل خاص إلزامية تكافؤ الفرص وحفظ حق كل المغاربة، على حد سواء، في الاستفادة من إمكانيات الدولة المستثمرة في قطاع التعليم كما ينص على ذلك دستور المملكة، نلاحظ بأن الوزارة الوصية فضلت الإجهاز على كل ما سبق والاستمرار في طريقها الذي سجلت عليه وتسجل إلى اليوم العديد من الملاحظات والمشاكل التربوية والتعليمية، إضافة لما يرتبط بصفقات الطبع واحترام قانون المنافسة بين مؤسسات الطبع وإنتاج الكراسات، يمكننا التطرق إليها كما يلي:
1- التقويم بمدارس الريادة: تكسير للنظام الوطني للإشهاد وتكريس لنفي تكافؤ الفرص عن المدرسة المغربية:
فمن خلال الرجوع للتذكير بالمطبات القانونية والتشريعية التي يمكننا تسجيلها بخصوص مدارس الريادة ببلادنا، نؤكد بأنه من خلال الرجوع للمذكرة الإطار رقم 22 بتاريخ 18 ماي 2023 في شأن تفعيل العمل بمشروع “مؤسسات الريادة”، والتي سجلنا فيها سابقا غياب الإحالة على القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، وكأن إصلاح المدرسة العمومية المغربية بعيد عما كفله هذا النص القانون للمتعلم والمتعلمة من حقوق ومواصفات. وهو ما يعتبر خروجا عن مأسسة الإصلاح وجعله دينامية مستمرة بكفالة القانون وعدم ارتباطه بالوزير صاحب المشروع. كما أن استمرار المشروع الوزاري دون تفعيل ما نص عليه القانون الإطار لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي في المادة 28 منه، بإحداث لجنة دائمة تعنى بالتجديد والملاءمة المستمرين لمناهج وبرامج وتكوينات مختلف مكونات منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، يعتبر انفرادا بالسلطة في إقرار السياسة التعليمية من قبل القائمين على هذا المشروع. فمن المفترض أن هذه اللجنة ستمارس عملها المتمثل في إعداد أطر مرجعية ودلائل خاصة مؤطرة للمناهج والبرامج المعتمدة مع تحيينها من خلال التركيز على مجموعة من النقط التي تكفل فضاء جذابا ومركزية المتعلم في النظام التربوي وتطوير التدخلات واستعمال التكنولوجيا الحديثة بالإضافة لتدبير الزمن المدرسي وأشياء أخرى، بشكل يحقق التفاف كل المغاربة حول إصلاح المدرسة المغربية والنأي بها عن الحسابات والصراعات السياسية الانتخابية. إلا أن الوزارة الوصية باعتمادها لمشروع الريادة بالشكل المعلن عنه، تم إقرار التصرف دون الاحتكام لكل ما سبق. فالأجدر ضمن مأسسة الإصلاح تفعيل اللجنة المذكورة لتكون بمثابة المخاطب الرسمي في قيادة الإصلاح الذي يتم تنزيله بشكل وبإشراف مباشر من مستشار السيد الوزير إلى المؤسسات المحتضنة.
ففي الوقت الذي سعى النظام التربوي المغربي من خلال سنوات طويلة من العمل والمثابرة إلى الخروج بضوابط تقويمية وأطر مرجعية تشكل منظومة، متفق عليها، من التدابير والضوابط المشكلة لنظام إشهاد وطني يتم بموجب استيفاء المتعلم والمتعلمة لمتطلباته وأهدافه حصوله على الشهادة المطابقة لما تم استيفاؤه، وهو ما يخول له ولوج السلك الموالي أو التوجه إلى مؤسسة من مؤسسات الاستقطاب الموالي للشهادة المحصلة. وهنا نجد بأن مشروع مدارس الريادة قد تصرف في هذه المنظومة التقويمية بشكل غير متوافق حوله بين المغاربة أو على الأقل الهيئات الممثلة لهم. فشهادة الدروس الابتدائية التي سيحصل عليها المتعلم بمدرسة الريادة لا تطابق التدابير والأهداف المنصوص عليها في الإطار المرجعي لهذه الشهادة، علما أنه محدد من قبل نفس الوزارة ضمن مذكرات وزارية تحمل الأرقام من 18.24 إلى 21.24 بتاريخ 19 فبراير 2024. لنجد بأن متعلمي مدارس الريادة يجتازون امتحانا خاصا يتم اعتماد الصيغة الوطنية لإجرائه بدل الصيغة الإقليمية المعمول بها من جهة كما أن عتبة الصعوبة التي يبنى عليها هذا الامتحان تتمثل في التعلمات المطابقة للمستوى الرابع فقط بينما متعلم المدرسة العمومية العادية يخضع لنفس المقرر والضوابط العادية المتواجدة في الإطار المرجعي المعروف. ففي الوقت الذي دعا فيه القانون الإطار لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي في النقطة الأخيرة من المادة 35 إلى وضع إطار وطني مرجعي للإشهاد والتصديق، يتضمن على الخصوص قواعد ومعايير تصنيف وترتيب الشهادات، والتصديق على المكتسبات المهنية والحرفية، تعده هيئة وطنية مستقلة تحدث لهذا الغرض، تمثل فيها مختلف قطاعات التعليم والتكوين والمنظمات المهنية، وذلك بنص تنظيمي. نجد بأن القائمين على مشروع مؤسسات الريادة يفضلون التصرف بمفردهم في اعتماد ضوابط تقويمية تسير في اتجاه مخالف لما ينص عليه القانون. فهل ستكون شهادة الدروس الابتدائية المحصلة بمدارس الريادة مطابقة لمثيلتها بالمدارس العمومية؟ وهل سيستطيع متعلم مدرسة الريادة ولوج الإعدادية العسكرية مثلا إسوة بالمتعلم القادم من مؤسسة عادية ونحن نعلم بأن التعلمات المكتسبة تختلف فيما بينهم؟ وهل سيستطيع مسايرة التعلم في إعدادية عادية من هو قادم من مؤسسة الريادة إلى جانب آخرين من مدارس عادية؟ والسؤال الأعمق من خلال الرجوع للمنهاج الوطني الذي يحدد الحصول على شهادة الدروس الابتدائية شرطا أساسيا للالتحاق بالسلك الإعدادي، هل يمكن اعتبار متعلم مدرسة الريادة حاصلا على هذه الشهادة من خلال الاحتكام لإطارها المرجعي؟
أما مسألة التفوق وإبراز النبوغ لدى المتعلم المغربي فقد أصبحت من تراث الإصلاح التي ما عاد لها حضور ضمن مؤسسات الريادة، فرغم تنصيص القانون الإطار 51.17 في النقطة التاسعة من المادة 28 على ضرورة اعتماد برامج للاستكشاف المبكر للنبوغ والتفوق لدى المتعلمين من أجل دعم المتميزين منهم، ومساعدتهم على إبراز مواهبهم وقدراتهم وتفوقهم، نجد بأن مؤسسات المشروع الوزاري للمدرسة المغربية يهتم فقط بالمتعثرين وذوي الصعوبات والمشاكل في التعلم. فمن خلال الاطلاع على روائز الموضعة المعتمدة وكذا الأنشطة المعتمدة في التدريس نلاحظ تهميشا واضحا وبشكل جلي للمتفوقين والمتعلمين الذي لا يواجهون صعوبات في التعلمات الجزئية البسيطة.
2- مدارسة الريادة بين السعي للتأصيل التشريعي والنفور من الامتثال للمقتضيات الدستورية والتشريعية الوطنية
إن المتصفح العادي للعدة البيداغوجية المعتمدة في تكوين المدرسين حول الدعم وفق المستوى المناسب (TARL) ثم أنشطة التعليم والتعلم المدرجة ضمن كراسات الأنشطة المعتمدة في مدارس الريادة سيلاحظ بأن اللغة الأمازيغية لا وجود لها ضمن هذا النموذج المدرسي الذي يتمنى السيد الوزير ومستشاريه نجاحه، بل واعتماده بشكل معمم داخل كل مدارس المغرب رغم صعوبة ذلك أخذا بعين الاعتبار التبعات المالية الكبيرة التي يتضمنها المشروع لتحقيق ذلك. فالأمازيغية جرح عميق في ظهر مدرسة الريادة إذ سيسجل المتتبع المغربي للشأن التعليمي مخالفة المشروع للوثيقة الدستورية التي تم إقرارها بموجب الظهير الشريف رقم 1.11.91 الصادر في 27 من شعبان 1432 الموافق 29 يوليوز 2011 القاضي بتنفيذ نص الدستور. فمن خلال الرجوع للفصل الخامس من الدستور نجد بأن اللغة الأمازيغية لغة رسمية باعتبارها رصيدا مشتركا لكل المغاربة مع الإشارة إلى القانون التنظيمي اللاحق الذي سيبرز كيفية تفعيل الطابع الرسمي وكيفية إدماجها في التعليم أيضا. ومع صدور القانون التنظيمي 26.16 المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في ميدان التعليم ومجالات الحياة العامة ذات الأولوية، لم يعد لدى القائمين على مشروع مدارس الريادة أي مبرر لتعليل تغييبها من عدة الاشتغال وكراسات الأنشطة ثم إرغام أساتذتها المتخصصين الذين تلقوا تكويناتهم الأساس في اللغة الأمازيغية فقط وكيفية تدريسها، على تدريس مواد أخرى (العربية – الفرنسية – الرياضيات والعلوم) خلال مرحلة الدعم حسب المستوى المناسب (TARL) للحصول على الإشهاد وبالتالي تحصيل منحة مدرسة الريادة، مع استثناء الرافضين منهم طبعا وبالتالي التضييق أكثر على تدريس اللغة الأمازيغية الرسمية ضمن فصول المدرسة العمومية المغربية.
كما أن الرجوع للمادة 31 من القانون الإطار 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي تلزم بضرورة العمل من خلال الهندسة اللغوية المعتمدة على إعطاء الأولوية للدور الوظيفي للغات المعتمدة في المدرسة بشكل يهدف إلى ترسيخ الهوية الوطنية، وتمكين المتعلم من اكتساب المعارف والكفايات، وتحقيق انفتاحه على محيطه المحلي والكوني، وضمان اندماجه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقيمي، وتمكين المتعلم المغربي من إتقان اللغتين الرسميتين واللغات الأجنبية ولا سيما في التخصصات العلمية والتقنية، مع مراعاة مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص. وبهذا الشكل يتعمق جرح الأمازيغية الذي بات مقترنا بمخالفة مشروع مدارس الريادة للوثيقة الدستورية والقانون الإطار ثم القانون التنظيمي 26.16 الذي أقره الظهير الشريف 1.19.121 بتاريخ 12 محرم 1441 الموافق لـ 12 شتنبر 2019، والذي يقر في بابه الثاني على كون تعلم اللغة الأمازيغية حق لجميع المغاربة بدون استثناء (المادة 3) كما يلزم السلطة الحكومية المكلفة بالتربية الوطنية بإدماج اللغة الأمازيغية في منظومة التربية والتكوين من خلال تدريسها بالتعليم الأولي والابتدائي والثانوي بسلكيه (المادة 4) كما أن المادة 31 من نفس القانون تلزم السلطة الحكومية المعنية من العمل بالقانون التنظيمي ولا سيما المادة 4 منه في أجل أقصاه خمس سنوات على الأكثر من تاريخ صدوره. وهو ما يعني أن الوزارة الوصية بإهمالها للأمازيغية ضمن مدارس الريادة تخالف الدستور والتشريعات الوطنية بموجب السنة الثانية لإقرار المشروع. وكيف يعقل إلزام المؤسسات الأجنبية بتدريس اللغات الوطنية (العربية والأمازيغية) ضمن برامجها ومدارس الريادة لا تهتم بتاتا لعدة تدريس اللغة الأمازيغية.
كما أنه من خلال التصفح الدقيق للمرسوم 2.24.144 في شأن علامة “مؤسسة الريادة” والذي تم الإعلان عنه ببلاغ وزاري يوم الخميس 20 يونيو 2024 سيتضح بجلاء رغبة الوزارة الوصية في خلق وإقرار تأصيل تشريعي لهذا المشروع من خلال مراسيم وزارية عكس الإصلاحات السابقة التي كانت تدبر بمذكرات تنظيمية ودلائل مرجعية على الأقل خلال مراحل التجريب الأولي وكذا التوسيع. ومن خلال الاطلاع على المادة 11 من هذا المرسوم، الذي سيخلق تمييزا بين المؤسسات التعليمية العمومية لينضاف للتمييز الحاصل بين مؤسسات التعليم العمومي والتعليم الخاص، وينذر وبشكل صارخ برجوع المدرسة المغربية إلى حقبة زمنية ناضل أعضاء الحركة الوطنية آنذاك لتجاوزها وتوحيد المدرسة المغربية التي كانت مشتتة بين المدارس الفلاحية والتجارية والصناعية …، هذه المادة (11) تقر بإمكانية حصول أطر التدريس، العاملين بمؤسسات التربية والتعليم العمومي الحاصلة على علامة “مؤسسة الريادة” على منحة مالية تمنح لمرة واحدة. وذلك من خلال استيفائهم للشروط التي يقوم عليها المشروع. كما أن المادة 2 من نفس المرسوم أقر بكون الانخراط في تنزيل المشروع يعد اختياريا وبالتالي لا يمكن الإجبار بالانخراط ضمن مشروع مؤسسات الريادة. بهذا الشكل رهن السيد الوزير ومن معه مستقبل أبناء المغاربة برغبة الموظفين الذين يتقاضون أجورهم من خزينة الدولة التي يساهم فيها الجميع. كما أن معطى التعميم كان غير ممكن بالنظر للكلفة المالية للمشروع، لكنه الآن أصبح مستحيلا لكون المسألة اختيارية وخاضعة لرغبة العاملين في المؤسسات التعليمية. هذه الرغبة التي ستنعدم لدى المدرسين والمدرسات بعد الرجوع للمادة 11 التي تعطي الحق في المنحة مرة واحدة فقط وبعد جهد جهيد في العمل بعدة وطرق مخالفة لما يتم به العمل في المدرسة العادية، ثم المشاركة في التكوين لمدة تتجاوز 16 يوما. ولنا أن نتصور حجم الصراعات التي ستشهدها المؤسسات التعليمية لاتخاذ قرار المشاركة في التنزيل من عدمه بين الأساتذة والأستاذات خصوصا أن الحق في الرفض أصبح مكفولا بموجب صدور المرسوم الوزاري 2.24.144.
على سبيل الختم لابد من التأكيد على كون مشروع مؤسسات الريادة يحتاج إلى الضبط والمراجعة أكثر ما يحتاج إلى لغة البيانات والبلاغات الوزارية التي تثني على منجزات وهمية تتمثل في تمكن متعلمين ومتعلمات من إنجاز عمليات بسيطة ومعزولة عن سياق يمنحها المعنى، ثم استرجاع تعلمات جزئية معزولة أيضا عن: القدرات الحقيقية والمهارات اللازمة للتأقلم مع المحيط، الموارد اللازم تعبئتها إلى جانب تحقق سياق تعليمي مضبوط ومحفز على بناء المعرفة، مسار التمكن من كفايات لغوية وعلمية وفنية تحقق للمتعلم والمتعلمة الشروط الأساسية لبناء شخصيته وتتيح له بشكل متكافئ مع باقي أقرانه إمكانية المواكبة والدعم للوصول إلى المدى الممكن للتعلم. كما أن هذا المشروع بحاجة لنظام تحفيز مضبوط يراعي الوضع الاجتماعي للممارس التربوي من جهة، ووضعية المتعلم والمتعلمة المغربيين ثم أسرهم ومواصفات مدرسة الغد التي يتصورونها من جهة ثانية.
بقلم: سعيد اخيطوش
باحث في قضايا التربية والتكوين والسياسة التعليمية