تحليل وفهم ما يحدث ويجري في الحاضر، يقتضي الرجوع إلى الماضي، إلى الماضي الغابر أحيانا، كما هو الحال في العمل الروائي “الرقيم الأخير” للكاتب والناقد عبد الإله رابحي، الذي عاد إلى تاريخ بلاد الرافدين لاقتفاء أثر الحقيقة التاريخية، في لوحات طينية ظلت صامدة تحت الأرض رغم عنف الطبيعة.
بلغة عربية عتيقة، وتسلسل محكم في الأحداث، صاغ عبد الإله رابحي عوالم خيالية بناء على “الأينوما إيليش” وهو نص قديم من الأدب البابلي مدون على الألواح يقارب ثيمات الصراع، والفوضى، واللا نظام الذي ساد بداية خلق الكون، ومن ثم فإن “الرقيم الأخير” يعيدنا إلى هذا النص الذي صاغت الكثير من الأساطير والديانات تمثلاتها من مضمونه، لكن مع طرح الكثير من الأسئلة المتعلقة بإشكالية الحقيقة التاريخية، وهيمنة المنتصر على كتابة التاريخ.يوضح هذا النص الروائي الذي استدعى من عبد الإله الرابحي العودة إلى الكثير من المتون التاريخية، أننا منذ البداية أمام سارد عالم وعلى وعي بما يجري حوله، لأن الأمر يتعلق بأستاذ باحث في علم الآثار، اقترحت عليه مهمة فك شفرات ألواح طينية بعد العثور عليها من قبل فريق بحث أجنبي، يشرف عليه الباحث في جامعة لندن ماكس مالوان، زوج الكاتبة العالمية أجاثا كريستي.
لم يتردد الغرباوي بطل رواية “الرقيم الأخير” في تولي مسؤولية قراءة ما يوجد في الألواح الطينية من أسرار، كان المدونون لا يكشفون عن البعض منها نظرا لخلفياتها الفكرية والسياسية، ويكتفون باسم [مخروم].
بمجرد شروع الغرباوي في قراءة ما جاء في الجرار الطيني الضخم، وجد نفسه أمام كم كبير من المعطيات والأحداث التاريخية المتشابكة التي سينقلها بكل تعقيداتها إلى قراء سيرته، كاشفا كواليس ما جرى في هذه المهمة السريالية.
يحتوي الجرار الذي تسلمه الغرباوي بعد عقد اجتماع بين عميد الكلية التي يدرس بها ورئيس الشعبة والباحث الإنجليزي ماكس مالوان، على رقيع وثلاثة عشر لوحا طينيا، مكتوبة باللغة الأكادية وهي مزيج بين اللهجة البابلية والآشورية، وحده الغرباوي من له القدرة على فك طلاسمها بالكلية.
تبدأ الأحداث التاريخية في الأرقم الطينية باستقرار عسي بالقرب من شلال مائي قادم من الغور السحيق، إلى جانب زوجته مارينا التي ستنجب نبيه وفطينة ونزيهة وفطين وعقيلة وعقيل، وهي أسماء تحمل صفات إيجابية، يمكن أن تكون سلبية في سياقات مختلفة، وهو ما سيتضح في هذا النص، الذي يخزن الكثير من الوقائع الأليمة، وكأننا أمام ملحمة جلجامش جديدة، بحكاية مختلفة المطلع، فإذا كانت ملحمة جلجامش تبدأ بـ”حينها في الأعالي”، فإن ملحمة عسي تبدأ بـ”هنا في أسفل السافلين”. صحيح أن اسم عسي يحيل على الأمل والتفاؤل، غير أن الأسفل يحيل على الظلام والألم والفشل والتعقيد، والصراع من أجل التملك..
سيجد قارئ “اللوح الأخير”، أن السارد وظف الألوان بشكل مكثف، انسجاما مع طبيعة الأحداث التي يقتفي أثرها، خصوصا هيمنة الأحمر الذي سيرتبط في هذا النص، بالصراع، والدم، والحرب، والعنف، والانتقام، والقتل، والثأر..
سيبدأ الصراع في الأسفل، وبالضبط بالشلال، رمز القوة والحركة والتغيير والتجديد، بعد تزايد الأطماع بين الأشباه حول من يحكم السهل، ويستفيد من ثمار أشجار الحوش.. وهو ما سيعصف بوجود عسي الذي سيصبح من الماضي، بعد رميه من أعلى الشلال، وانتقال الحكم بعدها إلى نبيه، بتواطئ من مارينا التي أفشت أسرار زوجها.
“علا صوت فطينة تريد الدمية لنفسها، وتهدد نزيهة مخالبها الحادة. استيقظ عسي منزعجا. نادى بأعلى صوته على مارينا. استجابت مسرعة:
“ها أنت ترين… لم يعد يكفيهم الصراخ… ها هم يغيرون ملامح الحوش… ها هم يوزعون الهضاب بينهم… وذا بالضبط ما سيزيدهم صراخا… ويزيدني أرقا… لن أنعم بالراحة بعد اليوم… سأدمهرهم… سأدمرهم” (ص 39).
ولأن نبيه كان حاكما جائرا، لم يتردد أهل الحوش في إلحاقه بعسي إلى اللجة المظلمة، وإعلان منزوه (ابن عقيلة وعقيل) حاكما جديدا، بتزكية من عقيل وسيدة الحوش.. لكن توالي الأحداث سيكشف أن حكم منزوه لم يكن مختلفا عن سابقيه، بل خلق بلبلة بين أهل الحوش، بفعل الممارسات الديكتاتورية، وهو ما أدى إلى ظهور معارضة داخلية، ظلت تردد:
“ليس عدلا… ليس عدلا… نحن من نخلق من بيننا أسياد الغضب” (ص 75).
تشير الحكاية السردية التاريخية المدونة على الأرقم، أن منزوه سيواجه إبان حكمه، مجموعة من حركات التمرد خططت للإطاحة به، أبرزها تلك التي كان من ورائها، أوسمان وتوناروز “إن لسان الحوش الثالث عشر المسمى توناروز… وهو المنفصل عن الحوش الثاني عشر، [مخروم] أبدى استعداده لخوض [مخروم]” (ص 105).
ورغم كل ما كان يحاك خلف الستار من قبل معارضة الداخل، فإن منزوه كان يواجه أي محاولة للانقلاب عليه، بالعنف والقتل والانتقام..
“قبل طلوع الخيط الأول من شمسون، والأهالي نيام، انهالت السلاء والأحجار المسنونة على صدور الرجال بصمت لا لغو فيه. كانت الأجساد صغارا وكبارا، ذكورا وإناثا، ممددة بأعناق مذبوحة وأصوات مكتومة، اخترق الأنين قلاع الأحواش… سالت الدماء تجري مسايل، وتكسو الهضاب لونا أحمر قانيا بين الاحتضار والألم، وتبعث في الخيام غبارا أسود لا عهد للسهل به من شداد غلاظ لا يعصون أمر منزوه العظيم… اشتعلت النيران في الأجساد… وتفحمت الرؤوس… وما هي إلا لحظات معدودة حتى انتشرت رائحة الموت، وسيقت الأعناق إلى الجوف الشلالي السحيق، وكانت الكارثة كالكوابيس تجري أشباحا حمراء ثم تنجلي بعد تتابع الخيوط الأولى لضوء محتشم… [مخروم] تفسره بنود الليالي الموعودة” (ص 11-112).
سينتقل الغرباوي بقراء رحلته مع الألواح إلى عوالم جديدة، عندما سيقرر السفر عبر الزمن إلى إمارة إيغودان، محاولا الاقتراب عن كثب من كواليس حكم السلطة، حاملا معه مجموعة من الأسئلة التي تهم الصراع حول الحكم، وقمع الأصوات المعارضة، وأسرار الكتابة التاريخية التي يحتكرها الأقوياء فحسب.
مقابل المعرفة التي كونها الغرباوي مسبقا حول هذه الحقبة، سيجد نفسه أمام أحداث جديدة، جزء منها سيرويها له حارس السجن أكيري، والجزء الآخر سيتعرف عليه من خلال اللقاءات التي ستجمعه مع الطبقة الحاكمة… بيد أن بحث الغرباوي الفضولي حول حيثيات الكثير من الأحداث سيوقعه في المحظور، لاسيما مع السلطة التي لا تحبذ الكثير من الأسئلة والتركيز والتعمق في تفاصيل الوقائع الكبرى.
أثار لقاء الغرباوي بالشيخ ويناروز المسؤول عن بيت المعرفة التي يحرر بها طلبته الأحداث التاريخية، الكثير من الجدل، خصوصا وأن الغرباوي أبدى قلقا واهتماما كبيرا بتاريخ إمارة إيغودان، ووجه لوما إلى الطلبة، الذين لا يدونون في نظره إلا ما يملى عليهم، لا ما تمليه الحقيقية التاريخية، وأحيانا، الكتابة بدون وعي بالخلفيات السياسية والفكرية والثقافية حتى.
يقول الغرباوي:
“أراكم تدونون ما تسمعون لا ما ترون. هل تدونون قصة أوسمان وزنوبا وتوناروز، وحكاية آزرو وتيفاوين، ومجزرة الأحواش، أم تدونونها مخرومة، وتنضاف خرومكم لخروم الزمن، فتتشابه الخروم علينا؟ لماذا لا تدونون خيانة أقيزول وجور منزوه؟” (ص 241).
أدى تشكيك الغرباوي في ما كتب من أحداث تاريخية على الألواح الملتبسة أكثر بكلمة [مخروم]، إلى توجيه تهمة له، تتعلق بارتكاب “جريمة المس بالأمن التاريخي للإمارة المقدسة، والتحريض عليه، والتآمر مع جهات معادية لتحريف تاريخ إمارة السيدة العظيمة إيغودان” (ص 265).
وفي جلسة عامة أمام أهل إمارة إيغودان، بدار القضاء، قال أحد الحكام:
“إنها السيد الغرباوي من جرائم الخيانة العظمى… إفشاء أسرار الإمارة للأجيال القادمة، وضرب أمجادها وتحقير الأعمال الجليل التي يقوم بها الآلهة العظام، وتبخيس منجزات ورثة السيدة العظيمة إيغودان… فقولك “إن التاريخ يكتبه المنتصرون”، فيه تحيز للمنهزمين، وقولك “بتدوين تاريخ المدن السفلى”، فيه تشيع للرعاع، وقولك “إن تاريخ الألواح والأرقم إنها هو تاريخ الظلم والطغيان”، فيه حث على العصيان الثقافي وزرع أرض الإمارة بالألواح والأرقم واللقى الملغومة… فماذا سيقول التاريخ عنا، السيد الغرباوي؟ إنه ما سيعرض بطولات الإمارة للشك والارتياب” ( صص 265-266).
..
لم يرفع بصره عن مكتوبه وتابع مسرعا:
“وبالنظر إلى كل هذه الجرائم الجسيمة، وباسم السيدة العظيمة إيغودان، حكمت محكمة الضفة الأخرى الموقرة، بتاريخ الرابع عشر من تموز، على السيد الغرباوي بالموت رميا في جوف النهر” (ص 267).
إن رواية “الرقيم الأخير”، التي حازت على جائزة المغرب للكتاب- صنف السرد برسم دورة 2023، تعيد التفكير مرة أخرى في العلاقة بين السلطة والمعرفة، وتظهر الأحداث السردية في الرواية أن الغرباوي الذي يمثل صوت العقل الباحث عن الحقيقة، سيكون مصيره بدون تردد الإعدام أمام الملأ، ليكون عبرة لمن يحاول الاقتراب من عوالم ما يكتب في الألواح من ظلم وفساد، وهي نهاية تراجيدية مأساوية، توضح الغربة التي يعيش فيها المثقف وسط المجتمع، لاسيما إذا كان لا يملك وسائل مضادة لتشكيل وجهات نظر أخرى، لتبقى السلطة وحدها من تملك الحقيقة، ولا تقبل التشكيك فيها.