“الهاربون من تندوف”.. فيلم سينمائي يوثق لذاكرة الفرد والجماعة

لا يتحقق الوجود الإنساني، إلا بالذاكرة، ذاكرة الفرد والجماعة، ولقد شغلت موضوعات التاريخ المؤرخين، والأنثروبولوجيين، ومبدعي الأدب والفنون البصرية، وعلى رأسها السينما.

وفي هذا الصدد، يندرج فيلم “الهاربون من تندوف” (les évadés de Tindouf) للمخرج عبد الحق نجيب، الذي انطلق من ذاكرة الأسرة للحديث عن الذاكرة الجماعية للمغاربة، الذين عانوا من ويلات الاحتجاز والاعتداءات الوحشية على يد عناصر جبهة البوليساريو.

أن تكون بحوزتك وثائق من الماضي الأليم، معناه أنك تملك كنزا لا يضاهيه الذهب و”اللوبان” حتى، هكذا ظل ينظر ابن المقاوم محمد للوثائق التي أخرجها من بيت ذاكرة العائلة، واختار شد الرحال بها من وسط المغرب إلى جنوبه، لاقتفاء أثر والده الذي دفنت جثثه في الصحراء، أثناء رحلة الهروب من تندوف.

تشير الوثائق التاريخية التي كان يدونها المقاوم محمد بالسجن، إلى أنه رغم التعذيب الذي تعرض له الجنود المغاربة رجالا ونساء، إلا أنهم ظلوا متشبثين بوطنيتهم، وهو ما كان يتجسد في ترديد النشيد الوطني في أكثر من مرة، إلى جانب نقش النجمة الخماسية للعلم الوطني على جدران الغرف التي كانوا يتعرضون فيها لمختلف أشكال التنكيل والإهانة.

وإذا كان المقاوم محمد قد دافع عن وحدة الصحراء المغربية بحمل السلاح، فإن ابنه اليوم اختار استكمال مسار الأسرة في الترافع عن قضية الوطن الأولى، من خلال الانتقال ميدانيا في رحلة طويلة للبحث عن معطيات وشهادات جديدة، تعزز كتابات والده عن تجربة الاحتجاز القسري في تندوف.

وبما أن أبناء المغرب لا يترددون في دعم أي مبادرة تخص قضية الصحراء المغربية، فإن عمل “الهاربون من تندوف”، حظي بدعم مادي من مختلف الفئات المجتمعية بحسب عبد الحق نجيب، من قبيل شخصيات في مجال الإعلام والأعمال والطب والرياضة، ومن بينهم مدرب المنتخب الوطني وليد الركراكي.

ولجعل العمل أكثر حميمية، ويعكس بحق وبشكل عفوي معاناة المغاربة الذين احتجزوا في تندوف، فتح عبد الحق نجيب الباب لبعض الشخصيات العامة للمشاركة في لعب بعض الأدوار، وذلك إلى جانب ممثلين محترفين كالفنان محمد الشوبي، وادريس الروخ، والكوميدي ياسين عبد القادر.

ولعب محمد الشوبي في “الهاربون من تندوف”، دور مالك محل للإتجار في أشياء القديمة، والمحتجز السابق بسجون تندوف ضمن مجموعة صديقه الراحل المقاوم محمد.

قدم محمد الشوبي أداء محترما ومقنعا، وأضاف صبغة خاصة للعمل، نظرا للخبرة التي يمتلكها عبر التراكم المحقق في المجال السينمائي، وكذلك الأمر بالنسبة لادريس الروخ، الجلاد الذي قسى على المحتجزين المغاربة في فيافي الصحراء بتندوف.

ويحاول “الهاربون من تندوف” أن يحفظ الذاكرة الوطنية، عبر التوثيق للمحطات المفصلية في ملف الصحراء المغربية، استنادا إلى تجميع المعطيات المتناثرة هنا وهناك، لإعادة صياغة الحقيقية والدفاع عنها عبر الأعمال السينمائية البصرية، لأن السينما جزء من تشكيل الحقيقة والدفاع عنها، وكذا بناء المخيلة الجماعية.

وليست أسرة المقاوم محمد، من تحتفظ بالصور والملابس والوثائق والأسلحة التي تؤرخ لفترة تاريخية معينة للمغرب، وإنما كل عائلات المقاومين توجد بحوزتها أشياء ثمينة من قبيل هذه، تشكل إضافة رمزية مهمة لذاكرة الفرد والجماعة، وهو ما تمثل في احتفاظ “بازار” رفيق محمد، بصور ومعدات عسكرية، ناهيك عن أحداث عالقة في الذاكرة، اضطر إلى تحريرها كتابة، لمساعدة ابن المقاوم محمد في إخراج كتاب حول الهروب من تندوف.

واهتدى عبد الحق نجيب إلى الكتابة في الفيلم، كفعل للتطهير العاطفي (الكاثارسيس) اتجاه كل المكبوتات، التي بدا واضحا أنها عالقة في دواخله، ولا تحرر منها، إلا عبر البحث داخل بيت ذاكرة العائلة للحصول على الوثائق التاريخية، والانطلاق نحو الشريط الحدودي للصحراء المغربية، لاستجلاء باقي فصول الحقيقة.

وتشير نهاية الحكاية السردية للفيلم إلى أن ابن المقاوم محمد، حصل على شهادة أخرى من رفقيه في معركة الدفاع عن الصحراء المغربية، بعدما اختار المقاوم السابق وصاحب محل بيع المآثر التاريخية، كتابة بعض الصفحات توثق لجحيم معتقلات تندوف.

جدير بالذكر، أن العمل السينمائي، تم عرضه، مؤخرا، في العرض ما قبل الأول، بسينما “ميغاراما” بالدار البيضاء، حيث شهد حضور مجموعة من الممثلين والإعلاميين والأطباء ورجال ونساء الاقتصاد والأعمال.

يوسف الخيدر

Top