محمد الجاي قاص يكتب في اللامبالاة لا يعنيه أن تسلط عليه الأضواء أو أن يكون تحت سطوتها الساطعة كل ما يعنيه هو أن يجد ما يسجله على الذاكرة التي هي مهمازه وملهمته فيما يسرده ليكون أكثر ارتباطا بهويته التي قضى عمره قريبا منها بجبال تاونات، الفضاء الذي جعله فضاء رئيسيا تتحرك فيه شخصيات مجموعته القصصية “بصمات فوق مرتفعات تاونات” التي صدرت في طبعتين فرنسية بباريس وطبعة مغربية بمدينة فاس وتضمنت القصص التالية: بصمات لا تمحى والمفتش الأزرق والحمار وكلبي البيتبول والشيطان في زجاجة والبغل والمرآة وغباءات ابن فرناس ومولاي عمران. وللاقتراب من عالم محمد الجاي كان لنا معه هذا الحوار التالي:
قبل كل شيء نرحب بك الأستاذ محمد الجاي ونشكرك على قبول إجراء هذا الحوار. أصدرتم خلال السنة الحالية باكورتكم الأدبية والتي من خلالها أطللتم على القارئ عبر كتاب بعد عمر من الكتابة والاشتغال في صمت وهدوء. ما الذي يريد أن يقوله محمد الجاي من خلال كتابه بصمات لا تمحى على مرتفعات تاونات؟
أولا أريد أن أشكركم على الاهتمام بمؤلفي”بصمات فوق مرتفعات تاونات”. أما فيما يخص سؤالكم، فأنا لا أخفي شيئا وراء الكلمات. أنا لا أكتب الشعر ولا أستعمل الرموز. ليست لدي خطابات سياسية أو إيديولوجية أريد أن أرسلها إلى القارئ. أنا أكتب بشكل عفوي من أجل المتعة وأشياء أخرى. أنا أجد متعة في الصراع مع الكلمات ومحاولة تطويعها. جميلة هي تلك المتعة التي يشعر بها الكاتب وهو يبحث عن الأسلوب، وعن الكلمات المعبرة والصور البلاغية من أجل وصف الأشياء والتعبير عنها بطريقة فنية بعيدة عن السرد الجاف والممل أنا أكتب أيضا من أجل التعبير عن الذات، لأن الكتابة الأدبية هي امتداد لذات الكاتب كما يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: لا يكفي الإنسان بأن يعيش حياته وكفى، فهو يريد أن يعبر عنها بالقول أو الكتابة.
يتجاور في مجموعاتكم القصصية “بصمات لا تمحى على مرتفعات تاونات” السير الذاتي والتخييلي لماذا حضور هذا التجاور. هل هو تجاور عن قصد منكم أو لأنكم تريدون أن تقولوا شيئا من خلاله؟ أو الأمر جاء صدفة؟
فعلا، فهذا التجاور جاء صدفة. تتجاور بعض الأجناس الأدبية في قصص المجموعة كما تتجاور الألوان في قوس قزح هكذا شبه أحد النقاد هذا الخلط بين الأجناس الأدبية في المجموعة كل كتاباتي عفوية لا تخضع لنظام أو ترتيب مسبق وذلك لاعتقادي بأن هندسة الأشياء ومحاولة إخضاعها لسلطة العقل مسألة مهمة جدا من أجل ضمان الحاجة إلى تحقيق الأهداف، لكن يمكنها أن تشد باب الخيال وتقيد الإبداع إذا ما تعلق الأمر بالكتابة الأدبية، حتى الذكريات نفسها توجد في ذاكرة الناس بشكل مبعثر لا تخضع لأي ترتيب أو نظام بل إلى الوقائع والأحداث التي نعيشها في الحياة.
تحضر تاونات كفضاء بشكل بارز في قصصكم. لماذا أعطيتم لتاونات كل هذه المكانة هل الأمر اختيار من جانبكم عن قصد أم الأمر صدفة استدعتها الضرورة السردية؟
نعم تحتل تاونات مساحة واسعة في مجموعتي القصصية كيف لا وهي المدينة التي قضيت فيها الجزء الأكبر من حياتي، منذ أن جئت إليها وأنا طفل من أجل متابعة الدراسة بـ”كوليج تاونات” الذي أصبح ثانوية الوحدة حاليا. لقد درست بها كتلميذ في الثانوي الإعدادي قبل أن يتم تعييني بها كأستاذ لمادة اللغة الفرنسية بثانوية الوحدة وذلك بعد أن أتممت دراستي بكلية الآداب بفاس وبعدها المدرسة العليا للأساتذة بالرباط. أنا جد مرتاح لكوني أعطيت لهذه المدينة مكانة كبيرة في مجموعتي القصصية بل إنني جعلت من اسم هذه المدينة عنوانا لها وهي تستحق ذلك فهي مدينة جميلة بطبيعتها تحيط بها الجبال، مما جعل البعض يطلق عليها مدينة القمم، بالرغم من الضرر الذي أصابها نتيجة الإهمال بسبب تحويل الكثير من مساحاتها إلى بنايات رديئة ومستفزة من كثرة بشاعتها.
تشكل مدينة تاونات بالنسبة لي فضاء مليئا بالذكريات، كل صباح كنت أفتح عيني على القرية، الثانوية، المقاهي، الأصدقاء. وجوه ألفتها بعضها غاب عن الأنظار. لقد أتلفت الحياة الجزء الأكبر من عناصر هاته الذكريات. أصدقاء كثيرون رحلوا بعد أن رمت بهم الحياة دون عودة إلى مدن أخرى، أو أماكن أخرى أو حيث لا ندري.. الأماكن والمباني والذكريات الجميلة التي طالها النسيان.. الجبال وحدها من بقيت شامخة، لهذا حاولت بواسطة الكتابة أن أعيد لها الحياة حتى لا تموت وتنمحي إلى الأبد، أردت أن أخرجها من النسيان وأعيدها إلى ذهن القارئ وإلى الذاكرة الجماعية للمجتمع التاوناتي. وهنا يبرز جليا دور الكتابة الأدبية، وهو محاربة النسيان، نحن نكتب حتى لا ننسى. كتبت كثيرا عن هذه المدينة وعن مسقط رأسي أيضا، لأن القلب لا ينسى الأماكن التي مر منها وترك فيها أجمل الذكريات. المدينة التي يعيش فيها الإنسان مثلها مثل الوطن، يحملهما الإنسان في قلبه حيث ما حل وارتحل.
استلهمتم في بعض من قصص المجموعة بعضا من مساركم المهني كأستاذ للغة الفرنسية بالثانوي التأهيلي مع ما صاحب ذلك المسار من احتكاك مع فاعلين تربويين آخرين قدمتهم بشكل ساخر في قصة المفتش الأزرق. لماذا اعتمدتم على آلية السخرية وما القصد من اختيار شخصية المفتش؟
أنتم على صواب حينما تكلمتم عن السخرية الموجودة في القصص التي كتبتها. أنا وظفت السخرية بكثرة في قصصي لأنني أعتقد أن هذا من شأنه أن يضفي عليها طابعا مرحا. هي طريقة في الكتابة تدخل في إطار ما نسميه جمالية النص. إن السخرية بالنسبة للنص الأدبي مثل الملح بالنسبة للطعام ثم إن السخرية يمكن استعمالها كسلاح ناجع في مواجهة واقع اجتماعي مترديِ. أما فيما يخص شخصية المفتش التربوي كما جاء في سؤالكم، فهي من إنتاج الخيال ولا تشير أو ترمز أبدا إلى شخص معين في الواقع يمارس مهنة التفتيش التربوي. فأنا أحترم كثيرا زملائي في المهنة سواء كانوا أساتذة أو مشرفين تربويين. أنتم تعرفون أن السخرية تعد من إحدى التقنيات في الكتابة الأدبية التي يستخدمها بعض الكتاب كوسيلة من أجل انتقاد بعض الظواهر الاجتماعية أو بعض العيوب والنقائص في أداء الواجب عند بعض الأفراد الذين يتقلدون بعض المسؤوليات في المجتمع تجعلهم في الواجهة، وهنا تحضرني مسرحية انصراف العشاق للمسرحي المغربي عبد الحق الزروالي حيث يضع فوق الخشبة امرأة تشتكي من زوجها لقاض أخرس لا يسمع مضمون الشكاية، ويبرز التناقض الساخر بين القاضي الأصم وبين المسؤولية التي على عاتقه. وما يجب أن نعرف هو أن انتقاد عيوب المجتمع لا تعني انتقاد الأشخاص في حد ذاتهم أو التقليل من قيمتهم. فكما قلت سابقا أنا أحترم كثيرا زملائي في المهنة وأن اختياري لشخصية المفتش التربوي أردت من خلالها إبراز التناقض بين المهمة المنوطة بالشخص وواقع الحال رغم أن الصورة التي رسمتها للمفتش التربوي هي غير موجودة في الواقع بالشكل الذي أوردتها في القصة أنا فقط أردت اللعب على هذا النوع من التناقض من أجل إثارة الضحك عند القارئ حتى يتمتع بجمالية النص.
تحضر صور لبعض الحيوانات في مشاهد متفرقة من قصصكم. لماذا هذا الاستحضار للحيوانات؟ هل الأمر صيغة بلاغية لتأثيث مسروداتكم فقط؟ أم محاولة لقول بعض الأشياء ولكن بشكل مضمر؟
إن وجود بعض الحيوانات في المجموعة القصصية ليس المراد منه استعمال صورة بلاغية لها دلالة رمزية كما أنها ليست من نوع الحيوانات التي لها دلالة رمزية في الثقافة الشعبية والمخيال الجمعي لأفراد المجتمع مثلما هو الحال بالنسبة للحمامة التي ترمز إلى السلام أو النسر الذي يرمز إلى القوة والأبهة. إنها حيوانات أليفة جاء ذكرها اعتبارا للدور الذي تلعبه داخل مجرى الأحداث بل هناك استثناء واحد فقط يتجلى في ظهور شخصية الأسد الذي ورد ذكره في قصة مولاي عمران لكن هذه القصة مثلها مثل قصة البغل والمرأة، كلاهما تدخل في إطار ما يسمى بالأدب العجائبي وهو من صنع الخيال، أي لا يمت بصلة للواقع. وكنت قد أشرت في بداية هذا الحوار إلى أن كتاباتي واضحة ليست وراءها معاني مشفرة. أنا أكتب من أجل المتعة وليس من أجل تمرير خطاب معين.
هل من كلمة أخيرة تريدون قولها؟
ما أود قوله كخاتمة لهذا الحوار هو أن الأدب الناجح لا يمكن أن يأتي من فراغ، وأعني بذلك أنه ينبغي للشخص الذي يريد أن يمارس فن الكتابة الأدبية أن يكون له إلمام واهتمام بقراءة الروايات. أي أن يكون له رصيد معرفي وأدبي ينطلق منه، وإلا فبإمكان أي شخص يعرف القراءة والكتابة أن يكتب كتابا ويسميه رواية. حتى وإن كانت الموهبة حاضرة، فهي تبقى غير كافية وحدها. أشكرك على الاهتمام بمجموعتي القصصية.
حاوره: محمد العزوزي