وبعد..
يحدث أن تنام منكسر القلب ثم تستيقظ فجأة في شعور آخر تتوق لكتابة رسالة عجولة هربا من شعور يؤمن بالرحيل رغم الحب وبالصمت رغم الرغبة في البوح وما أكثر شعوري بالفقد
هذا ما يحدث معي توا، كلما رغبت في الكتابة لك على حين شوق يداهمني،
ولن أغفر لنفسي أبدا لأني أطرقتُ طرفي ومضيتُ نحو مصير مجهول، فتحت بابا مغلقا غادرتني منه الأحلام والأمنيات والأشياء النبيلة يوما ولم تعد،
غادرني الربيع وتفاصيل وجه شاركته الحزن وكوابيس الصيف واِنهمار الرغبات القاتلة في منتصف العناق وعصامية امرأة ثائرة، شاركته مقعد الوحدة وعبثية العلاقات وآثار الصدف وتفاصيل الشتاء.
اضطررت أن أعيش في زحام أفكار مؤجلة وأخلق لها المبررات والأعذار، تخبطتُ طويلا في صراعات القلب والعقل والتمست لنفسي أسلوب التغاضي للعودة إلى جادة الصواب حتى لا يجذبني كمين العشوائية مرة أخرى.
وعلني لا أخشَى قسوة الطريق…
ولكن يُرعِبني أن أتعاهَد معَ أحدهم لِنسير معًا ثم يُغادرُني فجأة في المُنتصَف…
لا أخشى المواجهات ولا التضحيات.. لكنني أخاف أن أحارِب العالم لأجل شخص ثم يقف ضِدّي مع الوقت ويُواجِهني، أخشى أن لا يُقَدّر عطائي بالطريقة التي أستَحِقّها..
أنا امرأة أعشق القهوة في كل مكان، في المقاهي القديمة ..
وفي دكاكين الورّاقين وفي الأزقة القديمة وفي ديوان أشعارك، البارحة أوشت لي قبّرة تنام في ركن شرفتك ..
أنك قبيل منتصف الليل، تروّض الأحلام، وتوقد سراج الهذيان، لتقودك أيائل إلى عتباتي، فتتمرد الأبجديات ..
جميلة رائحة القهوة صباحاً، فقد أيقظتني قصيدتك
أشرقت قبيل أن تغازل شباكي خيوط الشمس، وقبل أن تغتسل بماء المطر يمامتي ..
أنا.. وضفائر بوحي.. مرآتي وباقات الجوزمانيا كنا هناك..
لا أخشى تقُلّبات الأيام.. لكن يَهزِمُني غال يتَحوّل فجأة إلى عدو… أو أن يكون عدوّي ولم ألاحظ حقيقته من البداية.. لا أخشى الحب.. لكنني أخاف لحظات الوداع… لا أخشى الوحدة.. لكنني أخشى أن تَكشِف لنا الأيام هَشاشَة علاقتنا بأشخاص وثَقنا بهم وظنَنّا أنهم عائلتنا..
نحنُ لا يَهزِمُنا ويكسِرُنا شيء في الدنيا أكثر من الخذلان.. أن نقطَع أشواطاً من أعمارنا ونعود بعدها بِخُفّيّ حنين.. بِخَيبَة عظيمة لا يمكن تعويضها أو نسيانها..
ما تعلمته من حياتي السابقة دفعني إلى القيام بردّات فعل عنيفة تجاه كل موقف يحدث معي، دفعني إلى عدم منح الفرصة مرتين لأي شخص اِستباح أذيتي،
أدركتُ أن الطرقات التي أمشي فيها معي تكون محفوفة بالخطر، براثين من لهب مرصوفة داخل رأسي كل السبل داخلي تعج بالموت،
أنا لا أخشى الوحدة وإنما أخشى مرافقة عابرة لأنها في النهاية ستنبش في ذاكرتي وتتمشى فوق أنقاض أحلامي، مرافقة مكتظة بالصخب تشوش عليك الشكوك وتجعل حياتك تبدو مجرد توهمات مستنزفة
كان يعلم أن هناك قرارا مصيريا ينتظره، قرارا صارما يجعل الأمور تبدو وكأنها على صواب رغم استحالة ذلك، كيف أخبرك عنه وأنا كلما قابلت شخص آخر أدركتُ أن اتكائي عليه حدثا نزيها لا يمكن أن يُعاد مرّة أخرى في حياتي،
لقد صنع من هدوئه ورتابته كمينا محكما للإيقاع بمزاجي اللعين، كانت جلّ أحاديثه أنيقة تتجه ناحية الفنون العريقة، كان حريص على رفع نفسه إلى فلسفة جديدة بعيدة عن سوافل الأمور، لطالما أشبع مآربي بالبحث عن اختيارات مناسبة ودفعني لتصرفات لائقة تسير معي عمرا من الاكتفاء والنزاهة.
التعامل معه يشبه التعامل مع خارطة قديمة لكنز مفقود في مدينة مجهولة، كلما طرقتُ الحديث معه وجدتُني مبعثرة على أرصفة الذكريات،
تنسفني اللحظات العابرة التي تُشعرني بالاحتواء رغم قساوتها، تستنزفني عبثية نظراته الجريئة، كان ملاذا آمنا محفوفا بالخوف،
إن خطوتُ إليه هلكت و إن بقيت بعيدة عنه ارتقيت إلى أمان موجع، هكذا استمريتُ في أذية نفسي وأخذت جرعات كافية من الألم
لطالما أسرفتُ في انتظاره لأنه كان ترياق يعيد لي الحياة التي ماتت داخلي، كنتُ العائدة إليه من منافي بعيدة، المعتادة دوما على خيباته الكبيرة.
فالحياة معي تغيرت كثيرا لم تعد هناك أشياء تختلس شغفي، فقط هما عيناك عبارة عن وهم هربا من فيلم شاهدته معك يوماً، فيلم مستوحى من عالمك الموازي الذي لا يعرف أحد عنه شيئا، وحدها رغبتي بك كانت واقفة على قمّة الحب وعزيمة الإصرار وعمق التجّلي.
صدقني سنلتقي يوما على ضفاف ليل مجنون ونتسامر على ضوء القمر وسأخبرك حتماً على أعتاب سنوات مضت وامتدت تقاوم الوحشة التي حصَرَتها في صمت.
عن الحكاية التي كبرت بين يأس وأمل عن النسمة العابرة التي كانت تنعش روحي وعن الطائر المهاجر الذي كان يحاول الوصول إليك، إن السنوات الفائتة كانت تشبهك وتشبهني وتشبه الكثيرين الذين يحاولون النجاة من الحياة..
هناك الكثير لأخبرك به لكني تعبت من الكتابة الآن سأحاول أن أتفاوض مع النوم لساعات، آه كدت أن أنسى إن المدعو عمري يبلغك سلامه.
لا أدري إن حدثتك عنه يوماً لكن لا تهتم إنه مجرد معتوه يظل يتسكع في شوارع نصوصي ليلا ثم يأتي ليخبرني أني امرأة لا تليق به لأني كثيرة العلاقات. وأنه لا يرغبني لأنه رجل يلتحف فكره الكثير من الشكوك حول المرأة الكاتبة الجريئة التي لا تخشى حديث الآخرين خلفها،
وكأنه لا يعلم أني لا أفكر به البتّة وانه ليس نوعي المفضل حتى أفتح حديث معه
لا بأس،
فليعلم أنه ليس ضمن أولوياتي لأعير له انتباها وأبرر له تفاصيل خاصة، رحلة الحياة معي جبالا شاهقة لا تُقهر فلا تحاول تسلقها لأنك ستواجه عقبات وصعوبات مهلكة.
بقلم: هند بومديان