في قلب الطبيعة المغربية، حيث تتماهى الأرض مع الأفق البعيد، وتنثر الشمس خيوطها الذهبية على الحقول، يولد مشهد ينبض بالحياة، تتراقص فيه السنابل على أنغام النسيم العليل.
هنا، في قرى سيدي قاسم، تستيقظ الأرض مع كل فجر جديد، مترقبة تلك القطرات الأولى من المطر، وهي تحمل الأمل في بعث الحياة من جديد في التربة العطشى.
على أطراف الحقول، حيث كانت الأرض تستكين في صمت ثقيل، كان وادي “أرضات” يرقد جافا، كأثر باهت لذاكرة الماء؛ لسنوات، ظل مجراه مجرد أخاديد غائرة، تنحتها الرياح وتغمرها الأعشاب اليابسة، فيما ينتظر الفلاحون نظرة رحمة من السماء تعيد لهذا الشريان نبضه المفقود.
جاء المطر، وجاءت معه الحياة…؛ في غضون أيام، تدفقت المياه على امتداد الوادي، محملة بوهج البدايات الجديدة، جارفة معها آثار الجفاف، وغسلت ضفتيه اللتين أرهقهما العطش.
تشبعت الأشجار اليابسة بالماء، وبدأ العشب الذابل يستعيد اخضراره، وكأن الطبيعة نفسها تستيقظ من غفوة طويلة، فلم يعد الوادي مجرد أطلال للماضي، بل عاد، بقوة، ليحمل معه وعدا بموسم زراعي أكثر سخاء، وأملا طال انتظاره.
في هذا المشهد الآسر، يتجسد التحدي الأبدي بين الإنسان والطبيعة، حيث يخوض الفلاحون معركة الصبر والأمل أمام قسوة المناخ، إذ أنه بعد سنوات عجاف من الجفاف الحاد، أعادت التساقطات المطرية الأخيرة الحياة إلى التربة، فارتوت الأرض، وعاد الأمل ليزهر من جديد.
لكن، في ظل التقلبات المناخية المتسارعة، لم يعد الاعتماد على الطرق التقليدية في الزراعة كافيا لضمان محصول وفير ومستدام؛ وهنا، تبرز تقنية الزرع المباشر كحليف جديد للفلاح المغربي، تعيد تشكيل العلاقة بين الأرض والإنسان، وتفتح آفاقا جديدة نحو زراعة أكثر كفاءة واستدامة.
في هذه الحقول، حيث تتلاقى الأيادي المرهقة بالتراب الطيب، يبرز الشريف الكرعة كرمز للصمود والإصرار؛ فبالرغم من أنه تابع دراسته حتى المستوى الجامعي، متطلعا إلى آفاق أوسع، إلا أنه أبى إلا أن يحافظ على إرث أجداده ويستمر ارتباطه العميق بالأرض التي تربي أجيالا من الفلاحين.
يقف اليوم في حقله الشاسع، تتأمل عيناه سنابل القمح التي تنمو بثبات، وكأن كل سنبلة تشاركه فرحته بهذا التحول الزراعي؛ ابتسامته، التي تحمل مزيجا من الرضا والتفاؤل، ليست مجرد انعكاس لنجاح تجربة الزرع المباشر، بل هي تأكيد على إرادته الصلبة في الجمع بين العلم والتقاليد، في مواجهة الجفاف والتغيرات المناخية التي تهدد مستقبل الزراعة.
في هذه الأرض التي ارتبط بها جسدا وروحا، يعكف الشريف على تطبيق المعرفة الحديثة لتطوير الزراعة التقليدية، مما يسهم في جعل الأرض أكثر خصوبة والمواسم أكثر سخاء.
الشريف الكرعة ليس مزارعا تقليديا وحسب، بل يظهر كرائد في التغيير الزراعي، حيث لا يشتغل بشكل فردي، وإنما ضمن إطار جمعوي، يؤمن بأن التغيير لا يتحقق إلا بروح الجماعة.
فالشريف، الذي خاض تجربة في قطاع الحليب قبل أن يتخلى عنه بسبب الأزمة التي شهدها هذا القطاع، وجد في الزرع المباشر متنفسا جديدا، وأداة حقيقية لتجاوز التحديات المناخية.
رؤية جماعية
بابتسامة تحمل تفاؤل الفلاح المتمرس، يقف الشريف وسط حقوله الشاسعة، مشيدا بالنتائج الإيجابية التي حققتها تقنية الزرع المباشر، ليس فقط على أرضه، بل على مستوى المنطقة بأكملها.
يقول الشريف الكرعة بفخر: “ليست مجرد تقنية، بل فلسفة زراعية جديدة، تمنح التربة فرصة للحفاظ على رطوبتها، وتقلل من التكاليف وتحد من آثار الجفاف”.
يسعى الشريف من خلال تنظيمه الجمعوي، إلى نشر هذه الثقافة بين الفلاحين، مشجعا إياهم على تبني هذا النهج الذي أثبت نجاحه في مواجهة قسوة المناخ.
من خلال الجمع بين المعرفة الحديثة والممارسات التقليدية، يقدم الشريف نموذجا يحتذى به، يؤكد أن الفلاحة ليست مجرد مهنة، بل رسالة متجددة تتطلب التكيف والإبداع.
فالزرع المباشر، الذي يشكل اليوم بارقة أمل للفلاحين المغاربة، قد يكون مفتاحا لإعادة التوازن بين الإنسان والأرض، وضمان مستقبل زراعي أكثر استدامة.
ومع تصاعد التحديات البيئية، يصبح تبني مثل هذه التقنيات مسألة مصيرية، ليس فقط للحفاظ على المحاصيل، ولكن للحفاظ على هوية الفلاح المغربي وصموده أمام قسوة الطبيعة. وهكذا، يتحول الزرع المباشر من مجرد تقنية زراعية إلى حركة فلاحية تحمل في طياتها روح التجديد والاستدامة.
نهضة زراعية في المناطق الجافة
يقف الشريف الكرعة في قلب أرضه التي تمتد على 12 هكتارا من الأراضي الخصبة التي شهدت تحولا كبيرا بفضل تقنية الزرع المباشر، وبينما تتراقص الحبوب الناشئة بلطف في مهب الرياح، يلتفت الشريف إلى الأرض ويقول بفخر واضح في صوته: “لقد اعتمدت هذه التقنية منذ عدة سنوات، والنتائج كانت مشجعة للغاية. الزرع المباشر لا يقلل فقط من تآكل التربة، بل يساعد في الحفاظ على رطوبتها بشكل أكبر، ويقلل من تكاليف الزراعة. اليوم أصبح لدينا طقسا مناسبا ومحصولا وفيرا، بفضل هذه الطريقة”.

هذه الكلمات ليست مجرد حديث عابر، بل هي تعبير عن قناعة عميقة نابعة من تجربته الشخصية مع الزرع المباشر، التي كانت بمثابة الحل للكثير من التحديات التي يواجهها الفلاحون في مناطق الجفاف.
فالحديث هنا لا يتعلق فقط بمزايا اقتصادية أو بيئية، بل بتقنية تلامس الحياة اليومية للفلاحين في المنطقة.؛ ففي الماضي، كانت الأرض التي يقف عليها الشريف تعاني من قسوة الظروف المناخية، حيث كانت تعاني من الجفاف المستمر وندرة المياه، ومع مرور الوقت، أصبحت هذه التربة أكثر قدرة على مقاومة قسوة المناخ بفضل الزرع المباشر.
من خلال هذه التقنية، أصبح الشريف قادرا على التعامل مع الأرض بطرق أكثر كفاءة واستدامة، فقد سعت الزراعة التقليدية إلى مواجهة تحديات الجفاف، لكن الزرع المباشر قدم أداة فعالة لا تتطلب موارد مائية كبيرة وتساهم في تحسين خصوبة التربة.
بفضل التغطية الطبيعية التي توفرها النباتات على الأرض، تم الحفاظ على الرطوبة في التربة لفترات أطول، ما ساعد في تحسين الإنتاجية وزيادة المحاصيل بشكل ملحوظ.
اليوم، يعكس هذا التحول في الطريقة الزراعية فخرا حقيقيا لعدد كبير من الفلاحين الذين تبنوا هذه التقنية وأصبحت جزءا من هويتهم الزراعية؛ الشريف الكرعة، الفلاح وكاتب العام لجمعية ارضات للتنمية المستدامة بجماعة عين الدفالي إقليم سيدي قاسم، والذي سنعود إليه في حوار مفصل حول تجربته ضمن هذا الروبورتاج، بتجربته الناجحة، أصبح نموذجا يحتذى به، ليس فقط في المنطقة التي يعيش فيها، بل في كافة أنحاء المغرب، حيث تظهر الزراعة المستدامة وتكنولوجيا الزرع المباشر كحلول عملية لعدة تحديات بيئية واقتصادية تواجه الفلاحين في مناطق الجفاف.
من الابتكار إلى الاستدامة
في عالم الزراعة الذي يواجه تحديات بيئية واقتصادية غير مسبوقة، يظهر الزرع المباشر كحل مبتكر يغير قواعد اللعبة، إذ لا تقتصر هذه التقنية على تحسين الإنتاجية الزراعية فحسب، بل تسهم أيضا في حماية البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية.
فبداية، يعتمد الزرع المباشر على زراعة البذور مباشرة في التربة دون الحاجة إلى حرثها، مما يقلل من تآكل الأرض ويحافظ على خصوبتها، ومع تقليل استخدام الآلات الزراعية الثقيلة، يساهم هذا النظام بشكل فعال في الحد من انبعاثات الكربون، ويقلل من التلوث البيئي الناتج عن استهلاك الوقود.
إلى جانب ذلك، يعد الزرع المباشر حلا جيدا لمشكلة الجفاف التي تؤثر على العديد من المناطق الزراعية، حيث من خلال تعزيز قدرة التربة على الاحتفاظ بالمياه، تصبح الأرض أكثر مقاومة للجفاف وأقل حاجة للري، وهو ما يسهم في تحسين كفاءة استخدام المياه – وهو مورد ثمين في مناطق تعاني من ندرة المياه-.
هذا التحول في طريقة الزراعة لا يقتصر على تحسين الخصائص البيئية للتربة فقط، بل يؤدي أيضا إلى تقليل تكاليف الإنتاج بشكل كبير، إذ لا يحتاج الفلاحون إلى استخدام كميات كبيرة من الأسمدة والمبيدات الكيميائية التي تضر بالبيئة وتزيد من التكاليف.
من الناحية الاقتصادية، يسهم الزرع المباشر في جعل الزراعة أكثر استدامة من خلال تقليل المدخلات الزراعية، مما يساهم في تقليل التكاليف وزيادة ربحية الفلاحين.
وعندما نرصد تجارب الزرع المباشر حول العالم، نكتشف أن هذه التقنية قد ساهمت في تحسين الأداء الزراعي بشكل ملحوظ، ما يفتح أمام الفلاحين فرصا جديدة لإنتاج محاصيل أكثر استدامة وفاعلية.
هكذا، بين الفوائد البيئية والاقتصادية، يثبت الزرع المباشر أنه ليس مجرد تقنية زراعية مبتكرة، بل هو استراتيجية تضمن استدامة الزراعة وحمايتها من تقلبات المناخ.
التجربة الأرجنتينية: دروس من المحاصيل
تعد الأرجنتين واحدة من الدول الرائدة في تطبيق تقنية الزرع المباشر، حيث استخدمتها بشكل موسع في زراعة محاصيل مثل فول الصويا والذرة؛ وقد أثبتت الدراسات أن هذه التقنية تساهم بشكل كبير في تحسين خصوبة التربة وزيادة محتوى الكربون العضوي فيها، ما يعزز القدرة على مكافحة تغير المناخ.
وفي إطار أبحاث أجراها معهد البحوث الزراعية في الأرجنتين (INTA) على أكثر من 30 مزرعة، تبين أن التنوع في المحاصيل الزراعية، مثل الزراعة المختلطة أو التناوبية، يسهم في الحفاظ على الكربون العضوي في التربة ويعزز استدامتها.
تظهر التجربة الأرجنتينية تظهر كيف يمكن لتقنيات الزراعة الحديثة أن تكون حلا فعالا لتحسين الإنتاجية الزراعية والحفاظ على البيئة، وهو ما يتوازى مع ما يشهده المغرب من تحول نحو الزرع المباشر كحل مبتكر للتحديات الزراعية.
إسبانيا: نموذج ناجح يعكس إمكانيات مستقبلية
في إسبانيا، التي تشهد مناطقها الزراعية فترات جفاف طويلة مثل منطقة الأندلس، كانت تقنية الزرع المباشر محط نجاح كبير.
وفقا لتقارير لتقرير وزارة الزراعة الإسبانية (MAPA)، تشير البيانات إلى أن حوالي 10% من الأراضي الإسبانية تستخدم هذه التقنية، ما يعكس نجاحها في تحسين الإنتاجية وتقليل التكاليف الزراعية.
وأظهرت الدراسات أن الزرع المباشر ساعد في تقليل تآكل التربة بنسبة تصل إلى 50% في بعض المناطق، وهو ما يسهم في تعزيز استدامة الزراعة وتقليل الاعتماد على المياه.
بالنظر إلى هذه التجارب العالمية، يمكن للمغرب الاستفادة من هذه النجاحات، خاصة مع التحديات البيئية التي يواجهها، ليأخذ خطوة إضافية نحو زراعة أكثر استدامة وكفاءة.
بين التجارب الأرجنتينية والإسبانية، يبرز الزرع المباشر كحل عالمي لتحديات الزراعة في ظل التغيرات المناخية، وهو ما يعزز الأمل في تطبيق هذه التقنية بنجاح في المغرب، مما يفتح آفاقا جديدة لاستدامة الأراضي الزراعية وتحقيق أمن غذائي أكبر في المستقبل.
الزراعة التقليدية: تحديات وآثار سلبية
رغم التطور الذي تحقق في تقنيات الزراعة الحديثة مثل الزرع المباشر، تظل الزراعة التقليدية في العديد من المناطق بالمغرب، تواجه تحديات بيئية وصعوبات اقتصادية كبيرة.
فالحرث المستمر للتربة، الذي يعتبر جزءا أساسيا من الزراعة التقليدية، يؤدي إلى تدهور بنية التربة، مما يقلل من قدرتها على الاحتفاظ بالماء، وهذا يشكل مشكلة كبيرة في المناطق التي تعاني من قلة الأمطار، مثلما يحدث في بعض المناطق، حيث تصبح التربة أكثر عرضة للتصحر.

في العديد من الحقول التي تعتمد على الأساليب التقليدية، يمكن ملاحظة مناطق جرداء حيث تفقد التربة قدرتها على دعم الحياة النباتية؛ هذه المناطق تتطلب كميات ضخمة من المياه والأسمدة لمجرد الحفاظ على الإنتاج الزراعي، مما يرفع التكاليف بشكل كبير ويزيد من الضغط على الموارد الطبيعية المحدودة.
فالفلاحون، الذين يعتمدون على هذه الأساليب التقليدية، يعانون من صعوبة تلبية احتياجات المحاصيل في ظل هذه الظروف القاسية، ما يجعل الزراعة أكثر تكلفة وأقل استدامة.
بينما تكافح الزراعة التقليدية في مواجهة التحديات البيئية، يتضح أن الزرع المباشر يمثل خطوة حاسمة نحو تحقيق زراعة أكثر استدامة وقادرة على التكيف مع تقلبات المناخ.
طموح وطني لرؤية أكثر استدامة
أعطى وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، أحمد البواري، في أول نشاط له بعد تعيينه، يوم السبت 26 أكتوبر 2024، انطلاقة عملية الزرع المباشر على المستوى الوطني، من جماعة ايت نعمان بإقليم الحاجب.
وتهدف هذه المبادرة، التي انطلقت تزامنا مع انطلاق الموسم الفلاحي 2024/2025 من سهل سايس، إلى تعزيز الاستدامة في القطاع الفلاحي، وتطوير فلاحة أكثر إنتاجية من خلال تبني تقنيات الزرع المباشر.
وفي كلمته بالمناسبة، أبرز وزير الفلاحة أهمية البرنامج الوطني للزرع المباشر الذي يهدف إلى تغطية مساحة 260 ألف هكتار في الموسم الفلاحي 2024-2025، مع طموح للوصول إلى مليون هكتار بحلول 2030.
******************
الشريف الكرعة الكاتب العام لجمعية ارضات للتنمية المستدامة بجماعة عين الدفالي إقليم سيدي قاسم في حوار مع “بيان اليوم”
الزرع المباشر عالج العديد من المشاكل التي كانت تواجه الفلاحين خاصة المتعلقة بالمناخ وهناك حاجة لمزيد من الدعم والمواكبة
قال الشريف الكرعة، الكاتب العام لجمعية “أرضات للتنمية المستدامة” بجماعة عين الدفالي إقليم سيدي قاسم، إن تبني تقنية الزرع المباشر كان خطوة مهمة نحو تحسين الظروف الفلاحية في المنطقة، مبرزا أن هذه التقنية اعتمدت من قبل مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط منذ عام 2018 بعد سلسلة من اللقاءات مع الفلاحين الصغار والمتوسطين.
وأضاف الشريف الكرعة في حوار مع جريدة “بيان اليوم” أن الزرع المباشر أسهم بشكل كبير في معالجة العديد من المشاكل التي كانت تواجه الفلاحين، مثل قساوة التربة وندرة التساقطات المطرية.
وأوضح الشريف الكرعة أن هذه التقنية تعتمد على الحفاظ على خصوبة التربة وتقليل التكاليف المرتبطة بالزراعة التقليدية، حيث تساهم في تقليل استخدام الوقود والبذور، ما يؤدي إلى زيادة المردودية الزراعية، خاصة في المواسم الجافة.
كما تطرق الكرعة إلى التحديات التي تواجهها تقنية الزرع المباشر، مبرزا من بينها مشكلات الملكية العقارية المتفرقة التي تؤثر سلبا على المردودية، بالإضافة إلى غياب جودة بعض المدخلات الزراعية.
وشدد الشريف الكرعة على أن الفلاحين بحاجة إلى المزيد من الدعم والمواكبة لتوسيع هذه التقنية بين أوساط الفلاحين الصغار في مختلف المناطق المغربية.
وهذا نص الحوار:
ما الذي دفعك إلى تبني تقنية الزرع المباشر، وكيف تقارنها بأساليب الزراعة التقليدية التي كنت تعتمدها سابقا؟
< أولا، الزرع المباشر هو مبادرة فلاحية اعتمدتها مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط سنة 2018، وأعد لها عدة مهندسين اختار لهم اسم “الفريق المثمر”.
بعد عدة لقاءات للفريق مع عدد مهم من الفلاحين الصغار والمتوسطين في المنطقة، اقتنع المنتجون بأهمية هذه التقنية التي تعتمد على إعادة بناء تربة خصبة وقوية تواجه إكراهات المناخ الذي صار يتسم بقلة التساقطات المطرية وندرتها.
فقد أنهكت التربة خلال الزراعة التقليدية بفعل قساوة استغلالها عبر الحرث العميق المبكر، كما تم هدر رطوبتها وجعلها عرضة للتبخر وإتلاف الطبقة الخصبة، حيث تكون هناك عدة عمليات من الحرث من أجل التسوية وبعدها حرث البذر…
وبالتالي يكون الفلاح قد تحمل عدة تكاليف من الوقود لحرث أرضه، في حين أن الزرع المباشر لا يتجاوز عملية حرث واحدة وهي عملية البذر بواسطة مبذرة خاصة تضع البذور والأسمدة في مكانها المطلوب من أجل الإنبات ولو لم تستفد التربة من التساقطات الكافية، ولكن شريطة ترك بقايا “التبن” بالأرض بعد الحصاد الذي يتبقى بعد مرور آلة اللف الأولى.
وجاءت هذه العملية بعدما كان الفلاح يقوم خاطئا إما بتشطيب الحقل من “التبن” أو بحرقه، الأمر الذي كان يفقد التربة إحدى مقوماتها ويجعلها عرضة للانجراف في السنوات الممطرة أو التعرية، خصوصا إذا تعرضت للرعي بعد الحصاد.
كما يشترط في ظل تقنية الزرع المباشر عدم تجاوز 150 كلغ من البذور في الهكتار الواحد بعدما كان الفلاح يتجاوز 200 كلغ في الهكتار؛ ودون أن ننسى ضرورة اعتماد الدورة الزراعية كشرط أساسي لإنجاح هذه التقنية.
وما ينطبق على زراعة الحبوب في إطار هذه التقنية ينطبق على زراعة “القطاني”.
ما هي أبرز الفوائد التي لاحظتها منذ اعتماد هذه التقنية، سواء من حيث مردودية الإنتاج أو تقليل التكاليف؟
حقيقة، إن الفلاحة التقليدية التي كنا نعتمدها إرثا عن أجدادنا، اتضح بالملموس أنها كانت فلاحة مكلفة ومعيشية فقط، أي دون مردودية مرغوبة خصوصا عند قلة التساقطات المطرية، في حين لم تكلفنا عملية الزرع المباشر نفس التكاليف خصوصا فيما يتعلق بتكاليف الوقود وكمية البذور، وبالتالي كانت المردودية جد مرتفعة وساهمت في إنقاذ جميع المواسم التي عرفت بندرة التساقطات.
في وقت كانت مردودية الزراعة التقليدية لا تتجاوز الثلاثين قنطارا في المواسم التي عرفت انتظاما للتساقطات، صار الوضع عكسيا بشكل إيجابي عن طريق تقنية الزرع المباشر، حيث يحصل الفلاح اليوم على أزيد من خمسين قنطارا في الهكتار وهناك من يصل إلى 80 قنطارا.
> ما هي التحديات التي واجهتك عند تطبيق الزرع المباشر؟
< من بين التحديات التي تحد من تطلعات فلاح الزرع المباشر هو نظام الملكية العقارية الفلاحية، ذلك أن الفلاح الصغير والمتوسط يمتلك قطعا أرضية متفرقة، الأمر الذي يجعل استغلالها مكلفا نتيجة كلفة التنقلات عند الحرث أو الحصاد أو المراقبة والتداوي، كما يجعلها عرضة للرعي من طرف الغير، سواء من طرف “كسابة” صغار من الجيران الذين لا يملكون أرضا للرعي ويربون ماشيتهم على جانب الطرقات العمومية وحواشي حقول وضيعات الجيران، أو من طرف الرعاة الرحل الذين يمتلكون قطعانا كبيرة جدا، والتي غالبا ما خلفت نزاعات ومشاكل كبيرة.
وهنا يفقد الزرع المباشر إحدى شروطه وذلك حين تفقد التربة إحدى مقوماتها الأساسية المتمثلة في “القش” المتبقى بعد الحصاد، الأمر الذي لا يستفيد منه بشكل جيد سوى كبار الفلاحين الذين نجد ضيعاتهم مسيجة ومحمية من الرعي الفوضوي.
ومن بين التحديات الأخرى إشكالية غياب جودة بعض الأدوية المحاربة للأعشاب الضارة، ذلك أن الزرع المباشر يوفر الفرصة القوية لانتشار الأعشاب، لاعتماده الزراعة الخفيفة للبذور والمساحة الواسعة بين الخطوط التي تصل إلى 18 سم، الأمر الذي يحد من عطاءات الزرع المباشر، إذ كلما تكررت عملية التداوي إلا وارتفعت التكاليف وقل المحصول بفعل تأثر المزروعات بهذه المبيدات.
وغالبا ما تتضرع الشركات المنتجة لهذه الأدوية بسوء استعمال الفلاح لها زمانا (الوقت) أو كيفية، وبالتالي يضطر الفلاح إلى الزيادة في كمية البذور للتغلب على هذه المعضلة ويحترم باقي الشروط الأخرى المنظمة للزرع المباشر.
كما أن عدم تعميم المبذرات الخاصة بالزرع المباشر يطرح إشكالا لدى المزارع الصغير، حيث يكثر الطلب في الوقت المناسب على مبذرة الجمعيات أو الخواص في الوقت المناسب للزرع، الأمر الذي يؤخر على البعض عملية الزرع أو يستعين بالمبذرات العادية استباقا لبعض التساقطات المطرية.
اعتماد الفلاح على توقعات بعض مواقع النشرة الجوية، تجعله متسرعا أحيانا في اتخاذ بعض القرارات غير الصائبة كالزرع أو التداوي أو التسميد عند عدم جدية توقعاتها.
وفي ظل سنوات الجفاف ونظرا لكثرة الطلب على “التبن” ولما لهذا الأخير من عوائد لارتفاع ثمنه، وبما أن تقنية الزرع المباشر تعتمد على الرفع من إنتاجية الحبوب وتقوية التربة، فإن مردوديته فيما يتعلق بـ”التبن” تبقى جد ضعيفة بالمقارنة مع الزراعة التقليدية إذ لا يتجاوز 200 بالة في الهكتار، بينما في الزراعة التقليدية قد تصل إلى ما فوق 300 بالة، الأمر الذي يضطر معه الفلاح إلى الزيادة في كمية البذور، مخالفا شروط الزرع المباشر.
ولوحظ كذلك انتشار بعض الديدان كالدودة البيضاء المسماة محليا بـ”بوشاكر” وغيرها نتيجة بقايا “التبن”، بينما كان الحرث العميق يجعلها في حالة وجودها في متناول بعض الطيور أو حشرات أخرى للقضاء عليها، وهنا تتفاقم هذه المشاكل في ظل غياب أدوية فعالة، حيث تتعرض النباتات للقضم من جذورها بعد الإنبات من طرف هذه الديدان، وهناك من يضطر لإعادة الزرع من جديد بسبب ضراوتها.
كما أن عدم اقتناع بعض الفلاحين رغم قلتهم بهذه التقنية، يجعل زراعتهم سببا في إيذاء الجوار من فلاحي الزرع المباشر خصوصا بأمراض “الصدأ” المتنوع الذي يتطاير عبر الهواء، ذلك أن “الصدأ” ينتشر مع الرطوبة وكثافة النباتات لأنه يتجاوز 200 كلغ من البذور في حقله.
> هل حصلت على أي دعم تقني أو مالي من جهات رسمية أو خاصة؟
< الدعم الذي استفدت منه كباقي منخرطي جمعيتنا التي أحدثت لهذا الغرض وتسمى “جمعية ارضات للتنمية المستدامة”، كان أولا وآخرا من المكتب الشريف للفوسفاط وقد جاء على الشكل التالي:
أولا: حصول جمعيتنا على مبذرة للزرع المباشر، الأمر الذي سهل على الفلاحين اعتماد هذه التقنية ووفر عليهم تكلفتها.
ثانيا: الحصول على البذور والأسمدة بمعدل لما يكفي لهكتارين لكل فلاح تابع للجمعية، وسميت هذه العملية بالحقول التطبيقية “plates formes les”، وبما يكفي من أدوية الأعشاب الضارة والمضادة للصدأ بأنواعه لهذين الهكتارين، بالإضافة إلى المواكبة والتواصل الدائم والوقوف الميداني على الحقول محل التجربة من طرف فريق المثمر.
ثالثا: استفدنا عدة مرات من التحليل المجاني لتربة حقولنا وذلك لمعرفة حاجيات تربة كل قطعة من الأسمدة.
رابعا: في موسم 2023/2024 استفدنا بشكل وافر من أسمدة العمق لجميع قطعنا الفلاحية المعدة لزراعة الحبوب، واستفاد البعض من أسمدة “القطاني” التي تعد من الفلاحة الربيعية، واستفدنا بثمن رمزي من أسمدة السطح أي السماد الآزوتي بقيمة 240 درهم للقنطار بينما تباع في الأسواق العمومية بحوالي 350 درهم للقنطار، وكذلك من سماد 21 بـ150 درهم للقنطار.
عدا ذلك لم نستفد من باقي الجهات الأخرى لا سواء من الغرفة الفلاحية ولا من صندوق التنمية الفلاحية ولا من صندوق تمويل الفلاح.
برأيك هل يمكن أن يصبح الزرع المباشر تقنية منتشرة بين الفلاحين الصغار في المغرب ؟ و ما الذي ينقص لتعزيز اعتماده على نطاق أوسع ؟
< أكيد أن تقنية “الزرع المباشر” في ظل الظروف المناخية الحالية المتسمة بندرة التساقطات المطرية، سترغم الجميع على اعتمادها، من جهة، لفعالية إنتاجيتها ومن جهة أخرى للدعم المادي العيني المتمثل في المدخلات الفلاحية، بالإضافة إلى سهر طاقم “المثمر” على التتبع والتوجيه والمواكبة.

الفلاح الشريف الكرعة وسط حقله
ولحد الآن، بلغت نسبة المساحات المزروعة وفق تقنية “الزرع المباشر” بجماعتنا وفي إطار جمعيتنا حوالي 400 هكتار تقريبا، في حين يعتزم “المكتب الشريف للفوسفاط” على بلوغ مليون هكتار في أفق سنة 2030.
ومن أجل تعزيز اعتماده على نطاق واسع، يجب تدخل وزارة الفلاحة من أجل تبسيط شروط الاستفادة عند اقتناء الآليات المحددة حاليا في 50 في المائة، بينما تتأخر الوزارة في تمكين المستفيدين منها لمدة تزيد عن 5 سنوات.
وكذلك حل إشكالات أدوية الأعشاب الضارة، حيث تعاني تقنية “الزرع المباشر” من هذه الإشكالية في غياب الجودة، ذلك أن بعض الأعشاب مثل “قحوانة” و”البهمة” قد اكتسبت مناعة قوية، وهي منتشرة بكثرة في منطقتنا وتربك طموحات الفلاحين، حيث يقوم الفلاح بمحاربتها بينما تفاجئه في وقت الإثمار بإعادة نضجها، وفي هذه المرحلة يمنع محاربتها، حيث تقوم هذه الأدوية بدور الإجهاض.
أيضا، يجب تعميم عملية “الضم” لحل إشكالات الممتلكات المتناثرة التي يصعب استغلالها بشكل مناسب؛ إضافة إلى توفير آليات الحصاد العصرية وفق ما نرى بالدول المتقدمة والتي يمكن استعمالها في كل الظروف، ثم تقنين نظام الرعي الفوضوي الذي يفسد عملية “الزرع المباشر”.
ويجب أيضا توفير محلات التجميع لمنتجات الفلاحين المعتمدين على تقنية “الزرع المباشر” من أجل تسويقها التسويق الجماعي الجيد، وتجعل المنتجين محل حوار وتواصل قبل اعتماد الاستيراد الذي يهش أسواق الحبوب الوطنية، كما تساعد هذه العملية على عدم الاحتكار، بل وستساهم في تسهيل إحصاء الإنتاج الوطني بدقة.
كما أنه يجب تثمين جهود فريق “المثمر” والمزيد من تحفيزه بجوائز سنوية تحث الكفاءات على المزيد من العطاء، وجوائز أخرى للمنتجين المتفوقين المحترمين لشروط التقنية والحاصلين على أعلى نسبة إنتاج.
ونؤكد على ضرورة مراقبة جودة المدخلات الفلاحية بحدة، إذ لا يمكن أن تكون جهود فريق “المثمر” ذات نتيجة جد إيجابية في ظل مدخلات بدون جودة.