> بقلم: عبد العاطي الزياني
أمكن للخطاب القصصي بالمغرب أن يرسخ حضوره الإبداعي، بفضل توارد جيل قصصي مثقل بملحاحية السؤال الإبداعي في صيغته الشاملة، حول القصة ورهاناتها وصلتها بالذات والآن والهنا، وهو المسعى الذي أنتج مجموعات قصصية توجت محليا وعربيا في محافل شتى، وتضاعفت الجرع الإبداعية وتعددت أدواتها وتوسعت.
والقاص محمد الحفيضي فرد من هاته التجربة المازنة، التي ما انفكت تحث السير أماما للانغراس في عمق لظاها وهو المثقل شعرا ووجعا لذات آخر لا تتكرر، ولحنين مر ينهمر من ثناياه.
” في القلب جرح ” أول غيثه، فازت المجموعة القصصية بجائرة القناة الثانية للإبداع عام 2008، بما حاكته مخيلته من صوغ لغوي يرأب به تصدعات مرة لهذا العالم، الذي لا تنتهي خيباته، ولذلك لم يكن خفيا أن تثرى وراء الحكي الطافح بالشاعرية محكيات الذات المثخنة تحنانا وحسرة على ذاك السر الخبيء، الذي يظهر ويختفي، أمل الوجود دون فراق، دون ضجر مجاني.
تلتئم أجزاء المجموعة القصصية قيد القراءة من خلال اتساق جمالي خاص مطبوع برؤية القاص الذي اشتغل على أسئلة اليومي والعابر واللامفكر فيه بدهشة المفكر،الذي يرحل بخياله إلى آفاق الخلق بعين التكثيف والمفارقة، وظل محكوما بالأبعاد التي تنحت اللغة القصصية بروحها المتوثبة، حيث رصد الأحداث، واشتغل الشخوص في فضاء رحب التأملات.
وتضم المجموعة ثلاث عشرة قصة. تطلع من إهابها اللغوي ألف غصة وغصة، فالزمن المر يكاد يكون قاسما مشتركا بين حكايات تلك النصوص، وعناوينها لاتخلو من آثار ذلك (الأيام الصعبة، صحراء، حلكة الشم ، فقدان، ليل المصدور، فوضى..) ويجد مسار الحكي شرعته سالكة إلى الألم أو البكاء لا يخطئها، ولذلك تلفي العالم القصصي عنده يعكس سيرة الريح: ” تتطاير أشلاء البدوي تعانقها الريح الريح الشاطرة الوحيدة التي تفهم لغة البدوي”1 محمد الحفيضي: قصة “صحراء الذهب” في القلب جرح مجموعة قصصية ص 36.
لقد اضطلع الشعر بعجن تفاصيل المتخيل وأصداء الحلم، فكانت المجموعة أثرا بارزا، وعنوانا على حرفية الأسلوب الذي اكتسب حدود التماس مع الانزياحات وبناء أخرى للجملة وحضور مغاير للغة السردية.
لذلك تظهر شخصيات المجموعة مطوقة باحتمالات الآن والهناك، مسكونة بأكثر من سبب بالطفولة، ممتزجة بملامح مد شاعري يلتقط الأوجاع والجروح والغوايات واللسعات متشحا بآلاء المكان.: ” ….. ” 2 قصة ليل المصدور.
إن سؤال اللغة الشعرية في نسيج القصة المغربية اللغوي أضحى جذرا طبيعيا منذ نهاية السبعينات من القرن العشرين، وتتوالى مع الأجيال اللاحقة صدى لتلك الرؤية الجمالية، وتجربة “في القلب جرح” تفوز بهذا الرهان بنكهة لغوية تكاد تصافح فيها ملامح محمود درويش والماغوط والسياب وغيرها.
ويظل الشعر مركبا دلولا لالتقاط النواقص والحيرة التي تسم تردده العام أمام زمن مترهل ثخين بألوان الخراب النفسي والحضاري، يقول في قصة ” في القلب جرح “: “3 ص 27”.
يحضر المكان في المجموعة حاملا لمعنى العبور إلى آفاقه التي لا تنتهي بعيون مفتحة، تتباين فضاءاتها، وتتغاير تمزقات الذات في أتونها فترد روحا قلقة، تورطت في لعبة الخيبة وفُسَحِ التيه، ولذلك عادة ما يرى السارد الفضاء الأثير هو الأطراف الخالية والمسكونة برجاء يتيم، وما أكثر ورطات المكان في المجموعة وخيباته، وثمة موضوعات تتلبس بالمكان نختر منها على سبيل التمثيل ما يأتي:
أمكنة الحلم: تحضر في المجموعة موضوعة الحلم لصيقة بالمكان، وتبث الفضاء أشواقها وأحلامها المجهضة عادة، فالشارع حلم بلقاء الصديق والأنثى بلوعة حادة، حيث يقع هذا المكان بين طرفي الضيق والرحابة، فالصحراء بامتداداتها والشارع في مساره الهارب والشاطئ في فسحة اللامعلومة وباحات الروح المفتوحة، فإذا كان القسم منذورا لصخب التلاميذ فالمكتب الإداري يجسر الطريق نحو ضياع روحي مؤكد، يظل المكان حلما إلى مسيرة غامضة، حلما مرعوبا من قدر الفراق وقدر الألم.
أمكنة الألم: ثمة فضاءات يركبها السرد، مظهر دفين للألم نعتر عليها في حالات النفس التي تواجه مصائر يومية شتى.يتعلق الأمر بحالات السفر والوحدة، ويظل الحقل وحافات الشارع حين فراق أشقاء الروح، نبرر ما ذهبنا إليه بإهداءاته إلى من يملأ فؤاده بالألم حين غيابه. وتتضافر القوى الفاعلة ( النساء المؤتزرات بالسواد والأطفال الممتدون وسط الفاقة وغيرهم مما يحيل على الألم ويشير إليه.
أمكنة الحنين: الحنين شعور دفين يتسلل إلى النفس في لحظات خاصة ولقد جاء الكاتب إلى الكاتب وهو يكابد هذا الإحساس بقدر لاشك أنه نحت موقعه الخاص في سكن القلب وغرف الذاكرة، ولقد كان فضاء الدار (الكبيرة) حيث الجد ظل وارف، بحدبه وعفوه وحنانه،يرسم السارد توقا عارما للفكاك من لوعة هذا الحنين، الذي يسكن الجوانح بحثا عن ماء الدفء وبسمة المحيا وإشراقة في العين. ولذلك كان حنينه وحنين شخصياته الصغيرة الضائقة بين مزق الحياة ممتدا عميقا، حنينا لا ينقطع، ويبدو حنينا حانيا لايؤلم، الحنين شجرة، الحنين طريق آمن.
أمكنة القهر: لاحقت المجموعة أماكن مختلفة، تصور القهر، وتبين ضرره وألمه على المسحوقين والمتروكين لمصائر مرة في معترك الحياة، ولم تغفل في تعميم كثير من مظاهره على الشخصيات القلقة في مختلف مراحل حياتها،فلاشك أن القهر في بلدنا كالهم على القلب، ولذلك ثمة فضاءات تدفع بالهوان إلى الشخصية وتعذبها.
على سبيل الختم:
سعت المجموعة إلى اقتراح شكل سردي رحب، استضمر صورا شتى لصيغ صوغ القصة، وشكل كتابتها، وظلت وفية لفضائها الصحراوي منفتحة على تجارب الكاتب في حواره الإبداعي مع أمكنة رمزية، تسقطها جراء عكوفه على تجويد آلاته القصصية، كما حوت جرأة واضحة في الاقتراب من موضوعات معلومة بصيغة تختلف عن المعتاد، ملحا على تجديد الرؤية والموقع من الظاهرة الإبداعية.