السينيفيليا

إلى حدود زمن قريب، ولكنه يبدو بعيدا مع السرعة التي تتطور بها الأشياء؛ عندما كنا نسمع عن الفيلم، تبدأ فترة طويلة من الانتظار، نقرأ خلالها عن الفيلم، نسمع عنه الحكايات.. يطول الانتظار نقوم في وحدتنا  بتخيله من خلال بعض الصور المتوفرة عنه في المجلات السينمائية. يحل الفيلم في القاعات السينمائية في المدن الكبرى، فيضطر بعضنا لاختلاق عذر ما للسفر لمشاهدته كإنجاز قد يوصف آنذاك بالخارق.  
يحل الفيلم بقاعات المدن الصغيرة  فنتوافد بكثرة لمشاهدته، تتوقف حركة السير عند مدخل قاعة السينما في بعض الحالات. نخرج ليلا وأقدامنا لم تطأ الأرض بعد، نطوف شوارع المدينة ونحن نناقش الفيلم ولا نمل من استعادة بعض لحظاته بنشوة. تظل ذكرى الفيلم ترافقنا لأيام ولسنوات لتتحول مع الزمن  إلى ذكريات شخصية.
 بعد هذه المرحلة، أصبحنا نشاهد الفيلم بعين أخرى مع تجربة النادي السينمائي، أي مشاهدة ثقافية، مسئولة وهادفة، نقرأ الفيلم بربطه بأفلام أخرى ومع أعمال روائية وأفكار متداولة في المرحلة، نحاول أن نجد للفيلم موقعا داخل مدراس السينما، نبحث عن التناص وإلى أي حد كان الفيلم صدى لما يروج من أفكار والقضايا التي تشغل المجتمع وأيضا مدى انسجامه مع ما نؤمن به من مواقف سياسية. نختلف في التأويل وإلى درجة التوتر، لكننا بدون وعي منا كنا نتعلم الحياة والسينما. كانت مشاهدة الفيلم كحلقة من حلقات درس اكتساب الفكر النقدي كسلاح أساسي  للمقاومة والنهوض بالمجتمع.
السينيفيليا الجديدة ظهرت مع انتشار الأقراص المدمجة  (DVD) بثمن ديمقراطي  وصدور كل ما أنتج لحد الآن من السينما العالمية من أفلام تجارية وتحف نادرة وآخر الأفلام التي حصلت على جوائز المهرجانات المهمة .
السينيفيليا الجديدة تشاهد الفيلم على شاشة التلفاز أو الحاسوب ولا تتوقف عند فيلم ما.. إنها تطالب نفسها بالسرعة والتعاطي مع الفيلم بمنطق الوجبات السريعة وهوس الإلمام بكل ما ينتج وما تميز في المهرجانات، إنها بهذا استهلاكية بامتياز. إنها تمر من مشاهدة فيلم إلى آخر دون أن تمهله مهملة أن يطبع مكانا في الذاكرة، تشاهد الفيلم دون أن يغير ذلك من النظرة للعالم، وتراهن على التراكم الكمي والاطلاع على أكبر عدد من الأفلام للأسماء المتداولة بأنانية مفرطة. تجعلها تساهم في انتشار أفكار مرضية تقدس التحف ولا تسائلها، وكل واحد يتوهم هو الوحيد الذي له اطلاع على أحسن ما أنتج. إنها لا تتوانى في القيام بمقارنات مجحفة في حق السينمات الوطنية الصاعدة.
السينيفيليا الجديدة لا تنتج أفكارا عن الفيلم، لا تنتجع قراءة، ولا تجرأ على التطاول على الأفلام  لأنها تنظر إلى المخرجين كآلهة والأفلام كأصنام. لا تأخذ بعين الاعتبار شروط إنتاج العمل، وترى الأفلام معزولة عن بعضها ولا اطلاع لها على التاريخ لأن معرفته تتيح مسافة النقد وإعادة النظر في الأساطير.
السينيفيليا الجديدة تعتبر أن السينما لا توجد خارج التظاهرتين “مهرجان كان” و”ليلة توزيع الأوسكار” مرجعيها الوحيدين.
السينيفيليا الجديدة تشاهد الفيلم ولا تشاهد السينما.. وحب السينما عندها لا يرتبط بأي مشروع ثقافي، ولهذا فإنها تعيش غربة وتحس بيأس كالذي يبحث عن الحب من خلال جمع ومراكمة عدد ممكن من المغامرات.

بقلم: محمد الشريف الطريبق

الوسوم
Top