نشهد على أزمة عميقة ليس فقط على صعيد نظام دولي سياسي غارق في حقبة الفوضى والاضطراب الاستراتيجي، بل على أزمة عميقة في الحضارة تنعكس في مأزق مجتمع الاستهلاك والأشكال العدائية للعصبيات والهويات والأديان.
مع انعقاد قمة العشرين في الصين وتلاشي الرهان على “العولمة السعيدة”، وحلول الذكرى الخامسة عشرة للحادي عشر من سبتمبر في عالم أقل أمنا، واستشراء الحروب والنزاعات والإرهاب والفساد، وصعود خطاب القطيعة وانهيار منظومات القيم، نشهد على أزمة عميقة ليس فقط على صعيد نظام دولي سياسي غارق في حقبة الفوضى والاضطراب الاستراتيجي، وعلى صعيد نظام رأسمالي متخبط في نهاية دور اقتصادي من السيطرة الغربية، بل على أزمة عميقة في الحضارة تنعكس في مأزق مجتمع الاستهلاك والأشكال العدائية للعصبيات والهويات والأديان.
في عالم اليوم الصاخب الأكثر عنفا والأقل عدلا، لا يجوز التسليم بانقطاع سبل الأمل إذ أن تعاظم المخاطر لا بد أن ينتج عنه تضافر من أجل الإنقاذ، كما علمتنا مسارات أدوار سياسية واقتصادية وحضارية عبر التاريخ.
لم يبخل علينا صيف العام 2016 بالعديد من التحولات الجيو سياسية اللافتة أبرزها:
الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والذي دلل على الأزمة الوجودية لأوروبا وشكل علامة فارقة لنكسة العولمة بشكلها الحالي.
تفاقم موجة الإرهاب في أوروبا، والتموضع التركي الجديد في المنطقة.
معارك الفلوجة وحلب وسرت واليمن وجنوب السودان.
تعزيز الدور الروسي في الشرق الأوسط.
أزمة الديمقراطية في الولايات المتحدة الأميركية والمتجسدة في الحملة الانتخابية الرئاسية وتتماتها.
ظاهرة الرئيس الفلبيني، رودريغو دوتيرتي، حيث يتداخل التطرف مع عصابات المخدرات والمافيات وشبكات الجريمة المنظمة والإرهاب.
اهتزاز النموذج البديل للعولمة في البرازيل بعد عزل الرئيسة ديلما روسيف، واتهام زعيم حزب العمال والرئيس السابق، لولا دا سيلفا، بتزعم منظومة الفساد.
احتدام الصراع حول بحر الصين الجنوبي بين الصين وحلفاء الولايات المتحدة.
التجربة النووية الجديدة لكوريا الشمالية.
عودة الاشتباكات في أوكرانيا، والمناورات الضخمة الصينية – الروسية في بحر الصين الجنوبي.
إنها صورة غير وردية تعكس عدم وجود ضوابط في اللعبة الدولية وقواعد واقعية لإدارة الصراعات في عالم متعدد الأقطاب من ناحية الشكل، لكنه من دون قيادة قادرة بعد نهاية حقبة الأحادية الأميركية من دون تبلور البديل.
في هذا الإطار يقترح زبيغينو بريجنسكي، المستشار السابق للأمن القومي في الولايات المتحدة وأحد أبرز المفكرين الاستراتيجيين في واشنطن، السعي لدفع المنافسين الجيو سياسيين الرئيسيين للولايات المتحدة الأميركية وهما روسيا والصين كي يعملا على تحقيق مصالح واشنطن، وهذا يتم حسب رأيه من خلال “استغلال أزمات منطقة الشرق الأوسط كمصدر للتهديدات المشتركة لهذه القوى الثلاث”.
إزاء العطل في العولمة بدأ البعض بالترويج لأفكار حول “تهذيب الرأسمال”، إلا أن الأزمة العميقة في الاقتصاد العالمي يمكن أن تقود إلى الأسوأ لأنه لا يمكن الاطمئنان إلى تكامل الاقتصادين الأميركي والصيني كمسوغ لديمومة الاستقرار
وهذا يعني، حتما، تهميشا حاسما لأوروبا وسعيا لإدارة العالم على أساس استمرار الغلبة الأميركية، مع الحفاظ على الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط وجذب العالم الإسلامي عبر “الصحوة الديمقراطية العالمية”.
لا يمكن إعادة تشكيل النظام الدولي حسب “طموحات” بريجنسكي وسيناريوهاته، أو خطط واشنطن لوحدها لأن الوقائع أكثر تعقيدا عسكريا وسياسيا واقتصاديا.
راهن الرئيس الأميركي باراك أوباما على أن يكون الرئيس الذي يحقق النقلة الإستراتيجية من أميركا “الأطلسية” في القرن العشرين، إلى أميركا المتمركزة في آسيا وعلى المحيط الهادئ في القرن الحادي والعشرين قبالة صعود الصين، بيد أن هذا الدرب سيكون شائكا كما يظهر من آخر جولة آسيوية لسيد البيت الأبيض، والتحدي الآتي من بيونغ يانغ وعدم توقيع اتفاقية التبادل الحر مع آسيا.
والأدهى أيضا بالنسبة إلى التبادل الحر، عنوان العولمة الرأسمالية التبادلية من دون قيود، تمثل أيضا بتأجيل المفاوضات حول اتفاقية التبادل الحر عبر الأطلسي بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. يفسر أوباما ذلك بتزايد الضغوط على النظام الدولي، ومن قبيل المفارقة البارزة أن يهب رئيس الصين شي جين بينغ (الدولة التي لا يزال يحكمها الحزب الشيوعي) للدفاع عن التبادل الحر وتعزيز الاستثمار ضد أساليب الحماية التجارية.
ومن الأدلة على تصدع العولمة مطالبة كريستين لاغارد، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، خلال قمة العشرين بالتوصل إلى “رأسمالية ذات وجه إنساني” خاصة مع المزيد من الخلل في توزيع الثروات والمساواة بين الشعوب والأفراد.
لقد ولى الوقت الذي كان فيه سياسيون ورجال أعمال ومنظرون يهللون للانتصار الدائم للرأسمالية عند نهاية الحرب الباردة، ووصول الشمولية الاقتصادية إلى أوجها في بدايات التسعينات من القرن الماضي، إذ أن معدلات النمو الاقتصادي تتراجع منذ الأزمة النقدية العالمية في العام 2008، ويترافق ذلك مع انخفاض أسعار النفط وانحسار منافع التبادل الحر.
إزاء العطل في العولمة بدأ البعض بالترويج لأفكار حول “تهذيب الرأسمال” أو ربط التبادل الحر بالعدالة، إلا أن الأزمة البنيوية العميقة في الاقتصاد العالمي يمكن أن تقود إلى الأسوأ لأنه لا يمكن الاطمئنان إلى تكامل الاقتصاديْن الأميركي والصيني كمسوغ لديمومة الاستقرار. على ضوء تجربة العولمة الأولى والصعود الألماني على حساب القوة البريطانية الذي قاد إلى الحرب العالمية العظمى الأولى في العام 1914، لا يستبعد أن تكون لصعود الصين على المدى المتوسط آثار سلبية في حال عدم التوافق على إصلاح النظام الدولي.
راود الكثير منا الأمل بأن يتحقق الأفضل للعالم والإنسان بفضل التقدم والثورة التكنولوجية، لكن الخلل العميق في توازنات كوكبنا في مجالات الصحة والتربية والبيئة، ومخاطر الصدام بين العصبيات والهويات والثقافات تدق أجراس الإنذار وتدلل على أزمة عميقة في حضارتنا إن لم يتم إيقاظ “الإنسانية المخدرة” في داخلنا ضد أشكال انعدام العدالة والبربرية والكراهية وعدم الاعتراف بالآخر.
د. خطار بودياب :أستاذ العلوم السياسية،
المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العولمة المتصدعة وأزمة الحضارة
الوسوم