سطور من «كتاب الألم» للكاتب الراحل جمال الغيطاني

ذات صباح باكر، لم تبلغ الثامنة بعد، بدأ سيره اليومي جيئة وذهاباً، لم يكن أحد «إلاه»، لم يتجاوز التحية إلى الحوار، فقط إيماءة ولفظ «سلام عليكم» وملامسة القلب، لاحظ ارتداءه سلاسل، وقلادات حول عنقه، على صدره أيقونة ربما للعذراء مريم أو قديسة ما، يجيء ليمضي ساعات في صيد السمك، أيام يراه في الصباح الباكر، عندما يعود ليودع الشمس الغاربة ويمعن في متابعتها يجده، يضع عدة سنانير متجاورة، كل منها مزود بجرس صغير، ينبه إلى تحقق الصيد، فوق الألواح الخشبية صناديق وحقائب تحوي معدات حديثة جداً، مقصات، آلات مختلفة أحجامها وأشكالها، الغريب أن حداثة المعدات لا تتناسب مع حجم الأسماك التي أتيح له رؤية خروجها، كلها صغيرة تقارب البساريا، مرة واحدة غمزت سنارة على الجانب الآخر تخص رجلاً يتحدث الإسبانية، في ويليامزبرج مجموعات منهم، الأمريكان لاتين، أو الإسبانو، منهم الحلاقة التي ستسوي شعره، تنبثق سمكة تتجاوز حجم المسطرة، عريضة عند المنتصف، يميل لونها إلى الأصفر الغامق، تنتفض بقوة، حتى بعد أن وضعها في الصندوق المبرد، لم يعرف إن كانوا هواة أو محترفين؟ لكن أي فائدة تعود عليهم، لا يتناسب حجم المعدات ونوعيتها مع المحصول الضئيل، هل ينتظرون صيد شيء نادر، هل يتوقعون أمراً؟ اكتفى بملاحظتهم من بعيد، يطرح الأسئلة ويسعى وراء أجوبة افتراضية يصوغها بنفسه، فيما بعد إثر عودته من كليفلاند وبدء طوافه اليومي عبر الشوارع المتوازعة، المتقاطعة، عند بلوغه شارع بدفورد الذي يفيض حيوية، أثناء اتجاهه إلى الطريق الكبير الذي يحد المنطقة قبل بلوغ الجسر، فوجئ بالزنجي يخرج من بوابة بيت من طابقين، مبني من طوب أحمر عتيق، كثيراً ما تأمل الممر الممتد إلى الداخل، واضح أن البيت تسكنه أسرة واحدة، للبيوت الأقدم خصائص مشتركة منها السلالم المؤدية، كل يتكون من أربع أو خمس درجات، يرتفع طابقين أو ثلاثة، تذكر بعض أحياء أمستردام، ضواحي لندن، إلى هنا جاء مهاجرون من البلدين، ومن بولندا أيضاً، ومن المجر، كل وصل بتراثه، لحظة رؤيته لامس موضع القلب منه، أجاب الآخر بتحية مماثلة تصاحبها ابتسامة مضيئة، اعتاد رؤيته واقفاً في هذه المنطقة، لم يعرف اسمه، رغم أن كليهما تفاعل بالنظر. أثناء جلوسه يوماً إلى دكة مصاغة من معدن، اقترب منه ثلاثة ملامحهم آسيوية، صدورهم عريضة، كل منهم يشبه الآخر، بل إنه عندما دقق البصر، كأنهم مستنسخون من بعضهم، بل إنهم ينظرون إلى نفس الجهة، وإذ يطرق أحدهم يتبعه الآخران، في تمام اللحظة يظهرون عصراً، يتجهون إلى نفس المكان، عندما أقبلوا وكان يجلس إلى نفس الدكة أومأوا إليه. اعتاد أن يرد كل تحية بأقل قدر، أن يبدي الود، داخله خشية غامضة، لم تفارقه، قبل الجراحة أو بعدها، فيما تلاها كان أعمق حذراً، فما زال شق الصدر طرياً، يحتاج إلى ستة شهور ليستقر، حتى ذلك الحين ممنوع عليه حمل ما يزيد على عشرة أرطال، أن يتعامل بحذر مع الآخرين، خاصة في الطرقات المزدحمة التي يتدافع فيها الخلق، كان يخشى وقوع اعتداء عليه، لو سدد أحدهم لكمة إلى صدره لانفلق، لا يعرف ما يمكن أن يترتب على ذلك، لقد شق قفصه الصدري مرتين يفصل بينهما أربعة عشر عاماً، يعرف أن ضلوعه مثبتة بسلك قوي، بعد الجراحة طرأ جديد، فلم يستطِع العودة إلى عاداته الأولى، الآن عليه أن يستند إلى جدار، مقعد، وسادة، لا يمكنه المشي أكثر من نصف ساعة، ولا الوقوف بعد خمس عشرة دقيقة، الناس غاية في اللطف، لكن ثمة متعصبين، قرأ عن راكب طعن سائق عربة باكستانياً مسلماً، لذلك أصبحت خشيته متعددة المصادر، تعاوده نظرة الأشقاء المغوليين أو التتر، تطلعهم إليه المتوازي، المحاذي، لسبب ما تدركه رعدة غامضة، هل ممكن أن يكونوا توائم؟ هل تنجب امرأة أكثر من اثنين؟ ربما.. لا بد أن يعود إلى دائرة المعارف على شبكة الاتصالات، لم يسمعهم يتحدثون الإنجليزية، يتكلمون لغتهم غريبة الإيقاع، ليست الصينية، يعرف إيقاعها من الأغاني التي يسمعها في بيته القاهري صباح كل جمعة أو الأيام التي يمكث خلالها، لم يستفسر منهم، يعرف أن التواصل ممكن بالإشارة، منذ خمسة وثلاثين عاماً سافر في رحلة إلى فارنا المصيف البلغاري، يتوقف والدهشة متمكنة منه، خمسة وثلاثين، لم تكن الأرقام تعني شيئاً من قبل، كان يصغي إلى نبأ بلوغ فلان الستين أو آخر السبعين، يبدو ذلك بعيداً، قصياً عنه، ها هو يخطو تجاه السبعين، أبوه توفي منذ واحد وثلاثين عاماً، أمه منذ سبعة وعشرين، شقيقه الأصغر مضى عليه الآن عام ونصف، هزيمة يونيو منذ أربعة وأربعين، السبت سادس أكتوبر ثمانية وثلاثين، أحداث ظن أنها لن تنأى، لكنها تبدو قصية الآن، ما أسرع مرور الأيام، بعد بلوغ الثلاثين ينطوي الوقت بإيقاع يفوق ما بين العشرين والثلاثين، من الأربعين إلى الخمسين، من الخمسين إلى الستين، لم يدرِ بالضبط، هل انطواء تلك العقود كأنها إغماضة عين لتزايد المشاغل، وتعاظم المهام، أم أنها خصيصة إنسانية؟ ما من إجابة، من المؤسف أنه سيمضي مخلفاً وراءه أسئلة لا إجابات عليها، في ميونيخ شارك في ندوة منذ عشر سنوات حول الزمن، تحدث عن مفهوم المصريين القدماء، لتلك القوة التي لا دافع لها، ولا مؤثر فيها، تدفعنا برفق، بصمت، بنعومة، تدق أجراس غير مرئية منبهة، تتناثر علامات شتى محذرة غير أننا لا ننتبه ولا نعي، نمضي في غفلة عما يطوينا حتى نقارب الحدود أو يلحقنا داء مقيم أو عابر مؤثر، عندئذ يتردد داخلنا إيقاع الندم على ما جرى التفريط فيه. بعد الندوة جرى نقاش على مائدة العشاء، توجه بالسؤال إلى عالم فيزياء مرشح لجائزة نوبل: هل سيأتي يوم يعرف فيه الإنسان أصل تلك القصة، تساءل الرجل بجدية وقورة: أي قصة؟ أشار بكلتا يديه إلى ما يحيط به، يعني الوجود ويعني العدم أيضاً، قال العالم إنه يعتقد إذا حل ذلك اليوم فسيكون أسود أيام الوجود، وربما تكتمل فيه النهاية مع تمام المعرفة. في جلسته اليومية بالشرافة أصغى إلى إيقاع ما يمضي وإلى أصداء ما مر، جرى ذلك قبل الجراحة وبعدها، سفره، بلوغه فارنا، تذكره الخياط شبه الأمي، محله في إحدى عمارات القاهرة القديمة بشارع رمسيس، أفضل من يفصل القمصان ويضبط المقاسات، لاحظ أنه يتحدث إلى كل من يلاقيه، الروسي والتركي والصيني والفرنسي، تتحرك يداه بسرعة راسمة المعاني، مرة كانوا ينزلون درجات محفورة في مرتفع صخري، انهمك في حوار مع شخص آسيوي الملامح، بعد نزولهم سأله عما كانا يتحدثان فيه، قال إن الرجل من جنوب الصين، يتحدث لغة الماندرين، استفسر منه عما إذا كان يتقنها، قال إنه لا يعرف أي لغة، لكن الفطن يمكنه إدراك المعاني، هل نسينا أنه في البداية لم يكن لغة، كيف عاش الأجداد إذن؟ كل شيء يمكن
أن يصل لو عرفنا التعبير بأي طريقة حتى الصمت! تذكر الحوار بينهما أثناء جلوسه إلى جانب المغول الثلاثة، غير أنه لم يشرع.. لم يتخذ المبادرة، ربما بتأثير الخجل القديم، أو لانغماسه وانهماكه في تفحص حاله، قبل الجراحة كان يمارس المشي في الصباح الباكر، بعد عودته في العصر، يبدأ أو
ينتهي في الشرافة. الآن يتداخل عنده من رآهم أو التقاهم قبل وبعد، في المركز منهم ذلك الزنجي وتحيته، ثم يتوالى الذين مروا به أو مر بهم، في بداية النهار تظهر الهندية ملتحفة بالساري، يكشف جزءاً من جسدها، امرأة أربعينية، سرحة القوام، سريعة الخطى، تجيء في الثامنة تماماً، تظهر فجأة ثم تبدأ المشي، من البداية حتى النهاية، اثنتي عشرة مرة، خطوها غريب، كأنها تحتفظ بمسافة منسوبة بين قدميها والأرض، كأنها تطفو، يتابعها في حركتها، لم يكن يحصي مرات ذهابها ومجيئها، لكنه يعرف الخطى التي تعني أنها ستتجه من خلالها إلى الخارج، رغم تركيزه البصري عليها، فإنها لم تلتفت ناحيته قط، كأنه غير موجود، بعد عودته لم يرَها، مرة نزل مبكراً، تحمل الرياح الباردة التي تهب من ناحية المحيط، يروح ويجيء يشرق ويغرب، إلا أنه يعود إلى تلك اللحظة عندما نزل قبل المغيب بنصف ساعة، إنها المرة الأولى التي يقصد فيها الشرافة بعد الجراحة، لا تزال نبضات ألم تتردد خلال الأويقات التي يكف فيها الممكن عن البث، دوار مفاجئ لا يستغرق إلا ثواني، يباغته فجأة، هذا جديد عليه، لم يعرفه في العملية الأولى، لا يذكر إلا اضطرابات نبضات القلب، إسراعها فجأة، توالي خفقات، كمن يقود دراجة، القدمان تبدلان إلى الأمام، فجأة تتخذان الاتجاه المعاكس إلى الخلف، بعد أن أتم مشيه الصباحي، وأثناء خروجه من الطريق القصير الضيق الواقع بين العمارتين، إحداهما لم تكتمل بعد، فجأة لفَّت به الدنيا، مال ليستند إلى سور ممتد يعزل منطقة البناء عن الشارع، شابة قادمة من الناحية الأخرى، لا بد أنها لمحت حركته المفاجئة، أسرعت الخطى إليه متسائلة: هل تحتاج إلى مساعدة؟ كررتها مرتين، تطلع إليها من وضعه المائل مضيقاً عينيه، لن ينسى ملامحها المتناسقة أبداً، قال: شكراً.. شكراً، ماذا لو استمر الدوار؟ ما يخشاه دائماً أياً كان موقعه أو وقته فقدان الوعي، لا يرعبه شيء مثل غياب الحواس، الكف عن الرؤية، السمع، اللمس، التنسم، لم يحدث ذلك، لكنه يتحوط للاحتمال، خاصة بعد الجراحة الأولى، دائماً ثمة ما يحمل اسمه وعنوانه، هاتف زوجته، ورقة، بطاقة، لا يتنقل في الترحال بجواز سفره لكنه يحتفظ بصورة ضوئية للصفحات الأولى، وللتأشيرة الخاصة بدخول البلد المتواجد فيه، وهاتف السفارة أو السفير إذا كان على صلة به، كذلك الجهة الداعية لو أنه في مهمة، أومأ شاكراً للفتاة التي جزعت حقاً، مستدعياً وصوله مبكراً إلى باريس منذ عدة سنوات، ركب قطار الأنفاق من المطار، في محطة سان ميشيل، كان مضطراً إلى الصعود درجات في المرحلة الأخيرة، سهر الليل والطيران وثقل الحقيبة أرهقاه، تعثر عند الدرجة الأخيرة، انحنى محاولاً التهدئة، لحقت به فتاة عيناها فسيحتان، ترتدي قميصاً أبيض وبنطلوناً رمادياً، نافرة الصدر، تساءلت عما إذا كان في حاجة إلى مساعدة، تطلع إليها ممتناً، خجلاً، مدركاً حلول شيخوخته، يسرع الخطى في الشارع، يصعد الدرج بسرعة، غير أنه مرغماً يهدأ، يتوقف لتهدأ الأنفاس، رغم محو معالم كثيرة من ذاكرته فإنه ما زال يرى الفتاة الباريسية كأنها أمامه، أيضاً تلك النيويوركية التي تسعى وربما تقيم على مقربة من سكن ابنه وابنته، على الشرافة رأى وجوهاً اعتاد بعضها وأخرى لم تتكرر.

نبذة عن الكاتب الراحل
< ولد جمال الغيطاني عام 1945 في قرية جهينة بمحافظة سوهاج
< عاش في منطقة الجمالية بالقاهرة القديمة لـ 30 عاما.
< تخرج من قسم «نسج السجاد» بمدرسة الفنون والصنائع بالعباسية
< أُعتقل في أكتوبر 1966 بتهمة انتمائه لتنظيم شيوعي
-عمل بالصحافة في عام 1969 بقرار من محمود العالم، رئيس صحيفة الأخبار.
< تواجد على الجبهة كمراسل حربي لـ «الأخبار» خلال سنوات الحرب
< بعد انتهاء الحرب عاد إلى الجريدة ليعمل في قسم التحقيقات.
< عين رئيسا للقسم الأدبي بالأخبار عام 1985.
< ترأس إدارة تحرير مجلة أخبار الأدب منذ عددها الأول عام 1993 لمدة 17 عاما.
< كتب روايته «الزيني بركات» عام 1970 بعد تأثره بالعصر المملوكي وتحولت إلى مسلسل من إخراج يحيى العلمي.
< من أشهر أعماله «الزيني بركات» و»حكايات الغريب» و»دفاتر التدوين» و»كتاب التجليات.. الأسفار الثلاثة» و»أوراق شاب عاش منذ ألف عام».
< فاز بجائزة الدولة التشجيعية عام 1980.
< في 2006 تسلم جائزة «لور بتايو الفرنسية» للأدب المترجم عن روايته «التجليات»

*

*

Top