المغرب وفلسطين -الحلقة 12-

تاريخ مشترك وتضامن ضارب في عمق العلاقات

في ظل الأوضاع التي تعرفها فلسطين، سواء بالضفة الغربية أو قطاع غزة من عدوان شامل للاحتلال ومحاولة لإبادة جماعية لشعب فلسطين الأبي، كان للمغرب دائما حضور وازن، لا من حيث التضامن الشعبي أو الرسمي من خلال المساعدات الإنسانية وغيرها أو من خلال دعم جهود الإعمار، وكذا دعم خاص للقدس الشريف.
ومنذ 7 أكتوبر 2023 الذي أطلق فيه الاحتلال الإسرائيلي حربه المدمرة على قطاع غزة واستمراره في مسلسل الاستيطان خاض المغاربة من شمال المغرب إلى جنوبه، ومن غربه إلى شرقه سلسلة من الاحتجاجات والأشكال التضامنية مع القضية الفلسطينية.
ووفق التقديرات فإن المغاربة خاضوا أزيد من 6000 مظاهرة وأزيد من 730 مسيرة شعبية، في أكثر من 60 مدينة مغربية، إضافة إلى وقفات مركزية عديدة وبشكل دوري أمام البرلمان، بالإضافة إلى ما يزيد عن 25 موكبا تضامنيا للسيارات والدراجات، وما يفوق 120 ندوة ومحاضرة لتنوير الرأي العام وتوعيته في ما يهم معركة “طوفان الأقصى” والقضية الفلسطينية وتطوراتها.
هذا الغنى في التضامن مع القضية الفلسطينية يجعل المغرب في مقدمة الدول الأكثر تضامنا مع القضية الفلسطينية بالشارع العربي والمغربي، وهو ما يدفعنا في هذه السلسلة الرمضانية إلى العودة إلى تاريخ العلاقات المغربية – الفلسطينية، وكيف تضامن المغاربة مع القضية الفلسطينية وجعلوها قضية أولى إلى جانب قضية الصحراء المغربية.
وتستند هذه الحلقات إلى قراءة في كتاب “المغرب والقضية الفلسطينية من عهد صلاح الدين إلى إعلان الدولة الفلسطينية” للراحل أبو بكر القادري الذي شغل أول رئيس للجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني، وأيضا كتاب “فلسطين قضية وطنية” للكاتب عبد الصمد بلكبير، وأيضا إلى مراجع وكتب أخرى تناولت القضية

الانتفاضة الفلسطينية الأولى.. الحجارة رمز المقاومة

لقد شكلت جرائم الاحتلال الصهيوني على مر العقود محطة إجماع عربية ومغاربية في نصرة القضية الفلسطينية وفي تعلق أجيال تلو الأجيال بالدفاع عن هذه القضية وتملكها وفي التعبير والتضامن المطلق.
وبالرغم من محاولات الاختراق التي دأبت عليها أجهزة الاحتلال من أجل تكسير نضالات الشارع العربي والمغاربي، لم تفلح في استمالة التضامن مع حق تاريخي مشروع لصالحها، باستثناء بعض القلة من “ضعفاء الرأي والموقف” الذين لا يبالون بمواجهة الظلم والذين يتآمرون ضد إخوانهم ورفاقهم وحتى وطنهم والقضايا الإنسانية العادلة أينما كانت.
ولعل التاريخ ينصف الشارع المغربي الذي ظل على الدوام متعلقا بالقضية الفلسطينية حتى في أحلك الفترات التي مرت على البلاد، وبالرغم من سياقات معينة مرت بها، وكان دائما التضامن الشعبي حاضرا بأشكال مختلفة، انطلاقا من التظاهر إلى الندوات ومرافعات المثقفين والأدباء، وفي الفن عبر المسرح وعبر الأغاني الملتزمة، والإسناد على مستويات متعددة.
وعلى الرغم مما كان يعرفه المغرب من صعوبات في الثمانينات بسبب الوضع السياسي والحقوقي حينها، إلا أن المغاربة والمثقفين كانوا دائما متعلقين بما يقع في فلسطين، وما يجري من أحداث، ملتفين حول المقاومة وداعمين لها. وبعدما تحدثنا في الحلقة السابقة عن مجزرة صبرا وشاتيلا، نقف في هذه الحلقة عند الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي حركت الشارع العربي والمغاربي، وخلقت منعطفات جديدة في القضية.
فالانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي اندلعت في 8 دجنبر من العام 1987، تُعتبر نقطة تحول مفصلية في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فهي لم تكن مجرد أحداث عابرة أو احتجاجات عفوية، بل كانت بداية لمرحلة جديدة في المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وشرارة لثورة شعبية غير مسبوقة.
ومع تصاعد الممارسات القمعية التي كانت تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، من توسيع الاستيطان، وهدم المنازل، وفرض القيود على حركة الفلسطينيين، كانت الانتفاضة بمثابة رد فعل طبيعي على سنوات طويلة من الظلم والقمع.
ولعل الحادث البارز الذي أشعل شرارة الانتفاضة هو حادث دهس في قطاع غزة، حيث دهست شاحنة إسرائيلية مجموعة من الفلسطينيين، ما أدى إلى استشهاد أربعة منهم. هذه الحادثة أشعلت غضب الفلسطينيين في غزة، وانتشرت الاحتجاجات بسرعة إلى الضفة الغربية وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومع مرور الأيام، تحولت هذه الاحتجاجات إلى حركة مقاومة شاملة تضم مختلف الفئات الفلسطينية، من الشباب والنساء والشيوخ.
ما ميز الانتفاضة الفلسطينية الأولى هو أنها لم تقتصر على الأساليب العسكرية التقليدية، بل استخدم الفلسطينيون خلالها أشكالًا جديدة من المقاومة الشعبية السلمية، مثل إغلاق الطرق، وتنظيم الإضرابات، والاحتجاجات اليومية، ورش الشعارات الوطنية على الجدران. وظهر سلاح الحجارة في أيدي الأطفال والشباب، ليصبح رمزًا للمقاومة في مواجهة القوة العسكرية الإسرائيلية المارقة.
ورغم القمع العنيف الذي واجهته الانتفاضة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن هذه الحركة الشعبية نجحت في أن تكون بمثابة رسالة قوية لإسرائيل والمجتمع الدولي على حد سواء. فقد سلطت الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وأثارت الدعم الدولي للقضية الفلسطينية، وجعلت العالم أكثر وعيًا بالواقع الفلسطيني. كما أن الانتفاضة أجبرت الحكومة الإسرائيلية على التفكير في حلول سياسية لتسوية الصراع.ذ
وعلى المستوى الفلسطيني، كانت الانتفاضة بداية لمرحلة من الوحدة الوطنية بين فصائل المقاومة المختلفة، وفي مقدمتها حركة حماس التي تأسست في تلك الفترة، ومنظمة التحرير الفلسطينية التي كان لها دور في تنسيق الدعم السياسي والديبلوماسي للانتفاضة. ورغم أن الانتفاضة لم تحقق جميع أهدافها السياسية بشكل فوري، إلا أنها وضعت القضية الفلسطينية على رأس جدول الأعمال الدولي، وأسفرت عن تغييرات كبيرة على المستوى السياسي في السنوات التي تلتها، بما في ذلك مفاوضات السلام التي تكللت باتفاقيات أوسلو في 1993.
تعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى مثالًا على قدرة الشعب الفلسطيني على المقاومة والصمود في وجه الاحتلال رغم الظروف الصعبة. ورغم أن المعاناة لم تتوقف بعد الانتفاضة، إلا أن هذه الحركة الشعبية كانت لها آثار عميقة في تشكيل وعي جيل جديد من الفلسطينيين، كما قدمت نموذجًا قويًا للمقاومة المستمرة والمتنوعة ضد الاحتلال. وبذلك، لا يمكن فهم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي دون أخذ هذه الانتفاضة في الحسبان، حيث شكلت بداية مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني.

< إعداد: محمد توفيق أمزيان

Top