في رحاب فكر عزيز بلال-الحلقة 12

عزيز بلال

التنمية… ما لا تقوله الأرقام!

عندما نتحدث عن التنمية، تتبادر إلى الأذهان مؤشرات اقتصادية باردة: نسب النمو، معدلات الاستثمار، أرقام الإنتاج… لكن هل تختزل هذه الأرقام حقيقة التنمية؟ ولماذا تفشل العديد من الدول، رغم الخطط والاستراتيجيات، في تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي ومستدام؟
في قلب هذا الجدل، يبرز فكر عزيز بلال، الاقتصادي المغربي الذي لم ينظر إلى التنمية كمعادلة حسابية، بل كمشروع مجتمعي تحكمه تفاعلات اجتماعية، ثقافية، وأيديولوجية، لا تقل أهمية عن العوامل الاقتصادية. في كتابه “التنمية والعوامل غير الاقتصادية”، يقدم الأستاذ عزيز بلال طرحا نقديا لواقع التنمية في دول العالم الثالث، كاشفا عن الروابط الخفية بين الاقتصاد والسياسة، بين التراكم الرأسمالي والتبعية، وبين الصناعة والهيمنة التكنولوجية.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب صدر أصلا باللغة الفرنسية، وترجمه للغة العربية الأستاذ نور الدين سعودي، وراجعه الأستاذ محمد شيكر، وقام بالتنسيق الأستاذ أحمد أوبلة.

عزيز بلال وإشكالية الطبقات الاجتماعية والتنمية الوطنية

نواصل قراءتنا في كتاب التنمية والعوامل غير الاقتصادية للمفكر الاقتصادي عزيز بلال، حيث ننتقل في هذه الحلقة إلى الفصل الرابع الذي يحمل عنوان “الطبقات الاجتماعية وإشكالية التنمية الوطنية”.
قبل الخوض في تفاصيل هذا الفصل، يوضح بلال أن استقلال الدول المغاربية كان لحظة تاريخية ولدت لدى الجماهير الشعبية موجة أمل عارمة في مستقبل أفضل، لكن سرعان ما بدأت التساؤلات حول مآل هذا الأمل بعد مرور أكثر من عقدين على الاستقلال.

عوارض الوحدة المغاربية

يشير بلال إلى أن فكرة الوحدة المغاربية نشأت في سياق النضال المشترك ضد الاستعمار، حيث انعقدت في أبريل 1958 ندوة جمعت ممثلي الأحزاب الوطنية في المغرب والجزائر وتونس، واتفق المشاركون على ضرورة تسريع تحرير المغرب الكبير وتعزيز وحدته.
ويرى بلال أن هناك عوامل عديدة دعمت هذا التوجه، من بينها التشابه الثقافي والتاريخي، والتمسك بنفس الدين، إضافة إلى الحاجة لتنمية اقتصادية واجتماعية مستقلة قادرة على تجاوز مخلفات الاستعمار.
غير أن الواقع، وفق تحليل بلال، أخذ منحى مختلفا، إذ لم تهيمن عوامل الوحدة والاندماج، بل برزت عوامل التمايز والصراع بين الدول المغاربية؛ ويعود ذلك، حسب بلال، إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
> اختلاف المسارات السياسية والاستعمارية: يوضح بلال أن الطريقة التي حصلت بها كل دولة على استقلالها أثرت على اختياراتها السياسية والاقتصادية لاحقا؛ ففي المغرب وتونس، تم تحقيق الاستقلال عبر تسويات مع القوى الاستعمارية، ما سمح باستمرار مصالح فرنسا بشكل كبير؛ أما الجزائر، التي خاضت حرب تحرير طويلة، فقد شهدت ولادة قيادة سياسية من البرجوازية الصغرى، تبنّت خيارات أكثر جذرية.
> التباين في التطور السوسيو-تاريخي: يؤكد بلال أن التاريخ السياسي لكل بلد ساهم في تعميق الفجوة بين الدول المغاربية؛ فالمغرب، الذي ظل كيانا سياسيا مستقلا لقرون، يختلف عن الجزائر، التي لم تشهد استقرارا طويل الأمد لكيان سياسي موحد قبل الاستعمار الفرنسي؛ هذا التباين انعكس على سياسات بناء الدولة بعد الاستقلال، حيث انشغلت الجزائر بتأسيس كيانها الوطني ضمن الحدود التي رسمها المستعمر، بينما كان للمغرب وتونس تصورات مختلفة عن الدولة الوطنية.
> الموارد الطبيعية وتأثيرها على العلاقات المغاربية: يلفت بلال إلى أن اكتشاف النفط والغاز في الجزائر خلق خللا في العلاقات الاقتصادية داخل المنطقة، حيث اعتبرت الجزائر أن من حقها استغلال هذه الموارد لمصلحتها الوطنية دون تقاسمها مع الجيران؛ كما أن بعض الأطراف الجزائرية رأت في هذه الثروة وسيلة لتعزيز موقع البلاد داخل المنطقة، بما قد يسمح لها بفرض تصوراتها حول الاندماج المغاربي مستقبلا.
أسباب تعثر الوحدة المغاربية

يرى بلال أن هذه العوامل مجتمعة جعلت مشروع الوحدة المغاربية يتراجع بشكل واضح، حيث أصبحت كل دولة تركز على مصالحها الذاتية بدل البحث عن حلول مشتركة.
ويشير المفكر بلال إلى أن هذا التراجع تجلى في عدة محطات، أبرزها حرب الحدود بين المغرب والجزائر عام 1963، التي كان من أسبابها الخلاف حول تندوف والمناطق الصحراوية.
كما يدرج بلال معارضة الجزائر لعودة الصحراء إلى المغرب ضمن هذا الإطار، حيث يعتبر أن ذلك ينبع من رؤية جزائرية تهدف للحفاظ على وضع إقليمي يخدم مصلحتها الاستراتيجية.
التحول في أشكال النمو

بعد استعراض العوامل التي أدت إلى تعثر الوحدة المغاربية، وتحليل الفوارق السوسيو-اقتصادية والسياسية بين المغرب، الجزائر، وتونس، نجد أنفسنا أمام تساؤل مركزي حول مستقبل التنمية في هذه البلدان.
في الحلقة القادمة، سنواصل قراءة الفصل الرابع من كتاب التنمية والعوامل غير الاقتصادية لعزيز بلال، حيث سنتناول تحليله للتحول في أشكال النمو في بلدان المغرب الكبير، ومدى قدرتها على تجاوز التخلف وتحقيق تنمية متسارعة ومستقلة، رغم التحديات والتناقضات العميقة التي تواجهها.

< إعداد: عبد الصمد ادنيدن

Top