التنمية… ما لا تقوله الأرقام!
عندما نتحدث عن التنمية، تتبادر إلى الأذهان مؤشرات اقتصادية باردة: نسب النمو، معدلات الاستثمار، أرقام الإنتاج… لكن هل تختزل هذه الأرقام حقيقة التنمية؟ ولماذا تفشل العديد من الدول، رغم الخطط والاستراتيجيات، في تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي ومستدام؟
في قلب هذا الجدل، يبرز فكر عزيز بلال، الاقتصادي المغربي الذي لم ينظر إلى التنمية كمعادلة حسابية، بل كمشروع مجتمعي تحكمه تفاعلات اجتماعية، ثقافية، وأيديولوجية، لا تقل أهمية عن العوامل الاقتصادية. في كتابه “التنمية والعوامل غير الاقتصادية”، يقدم بلال طرحا نقديا لواقع التنمية في دول العالم الثالث، كاشفا عن الروابط الخفية بين الاقتصاد والسياسة، بين التراكم الرأسمالي والتبعية، وبين الصناعة والهيمنة التكنولوجية.
عزيز بلال والتحول في أشكال النمو – دراسة حالة الجزائر
يواصل المفكر الاقتصادي عزيز بلال في الفصل الرابع من مؤلفه “التنمية والعوامل غير الاقتصادية” تحليل التحولات السوسيو-اقتصادية في بلدان المغرب الكبير بعد الاستقلال، مع الإشارة إلى الجزائر كنموذج اتخذ خيارات تنموية مختلفة عن المغرب وتونس.
يعالج بلال بعمق الخيارات الاقتصادية والسياسية التي تبنتها الجزائر، مبرزا إنجازاتها وكذلك الإشكاليات التي رافقت مسارها التنموي.
التحول في أشكال النمو
يرى بلال أن دول المغرب الكبير، رغم استقلالها السياسي، لم تتمكن من تحقيق تنمية متسارعة ومستقلة تقضي على “التخلف”، معتبرا أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لم تخلق بالضرورة الأسس الفعلية لتنمية مستدامة.
ويعتبر بلال أن الجزائر، مقارنة بالمغرب وتونس، اتخذت خيارات أكثر طموحا على المستوى السياسي-الاقتصادي، لكنها لا تزال تعاني من تناقضات سوسيو-اقتصادية وثقافية تجعل مستقبلها محفوفا بالارتياب.
ويصف المفكر عزيز بلال النموذج التنموي الجزائري بأنه مركزي الذات ومستقل عن الاستثمار الأجنبي، حيث عمدت الدولة منذ 1962 إلى تأميم القطاعات الاقتصادية الرئيسية، مثل الزراعة والصناعة والبنوك والموارد الطبيعية.
وقد تجلى ذلك وفق رؤية بلال من خلال:
-
استرجاع الممتلكات الزراعية بعد هجرة المعمرين.
-
التأميم التدريجي للصناعات والمناجم والبنوك بين 1966 و1971، مما عزز سيطرة الدولة على الاقتصاد.
-
التركيز على التصنيع الثقيل عبر إنشاء صناعات قاعدية (الصلب، المحروقات، الكيمياء البترولية…)، بهدف تحقيق تراكم اقتصادي على المدى الطويل.
يلاحظ بلال أن هذا النموذج يتسم بالتخطيط المركزي، حيث كانت الدولة هي الفاعل الرئيسي في تمويل الاستثمارات، مدعومة بعائدات المحروقات والقروض الأجنبية.
الإصلاح الزراعي: إشكاليات التطبيق
يعتبر بلال أن السياسة الزراعية لم تتضح معالمها إلا في 1971 مع إصدار ميثاق الثورة الزراعية، الذي سعى إلى:
-
إعادة توزيع الأراضي عبر استرجاع أراضي كبار الملاكين الجزائريين.
-
إدماج أراضي الدولة والأراضي الجماعية ضمن برامج الإصلاح الزراعي.
-
إقامة تعاونيات فلاحية لتحفيز الإنتاج الجماعي.
إلا أن هذه الإصلاحات حسب عزيز بلاا لم تشمل جميع الفلاحين، حيث تم إقصاء ثلثيهم من العملية، مما أدى إلى استمرار البطالة والفقر في المناطق الريفية.
رغم معدلات النمو المرتفعة في الجزائر بفضل التصنيع، يطرح بلال عدة تساؤلات حول مستقبل هذا النموذج التنموي، ومنها:
-
البيروقراطية والتكوين المهني: تعاني الجزائر من تعقيد إداري يؤخر تنفيذ الاستثمارات، إضافة إلى نقص في تكوين الأطر التقنية.
-
البطالة والتشغيل: التصنيع القائم على التكنولوجيا الحديثة لم يساهم في تشغيل اليد العاملة غير المؤهلة، مما أدى إلى ارتفاع البطالة.
-
التبعية التكنولوجية: تعتمد الجزائر على استيراد المصانع الجاهزة، مما يعيق بناء صناعة وطنية مستقلة.
-
محدودية السوق الداخلية: ضعف القدرة الشرائية محليًا يدفع الجزائر إلى تصدير إنتاجها الصناعي، مما قد يعرضها لمخاطر المنافسة العالمية.