تاريخ كل أمة خط متصل، قد يصعد الخط أو يهبط، وقد يدور حول نفسه أو ينحني ولكنه لا ينقطع. ولعل كل أمة تنقب عن تاريخها وتصونه من أجل الرقي بحاضرها والتحضير لمستقبلها. وكذلك شأن المملكة المغربية التي اجتهد مؤرخوها لصون تفاصيل تاريخ يمتد لقرون طويلة عرف فيها المغرب عدة حضارات وساسه قادة وملوك وسلاطين. بيان اليوم حاولت النهل من كتب ومراجع ومخطوطات عديدة لتحضير هذه النافذة التاريخية لقرائها طيلة شهر رمضان الكريم، تطل من خلالها على ما مضى من مواقف ملوك وسلاطين المملكة اتجاه أبرز الأحداث.
على بن يوسف بن تاشفين (الجزء 3)
أحوال المغرب “حركة ابن تومرت وظهور الموحدين”
في سنة 514 هـ/1120 م، وفد على مراكش داعية يدعى محمد بن تومرت، اتخذ من منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريقه في دعواه، وعكف على تطبيقها بيده ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وتشدّد في ذلك، حتى أنه دخل المسجد الجامع في مراكش يوم جمعة، وجلس على مقربة من المحراب بالقرب من الموضع المخصص لجلوس علي بن يوسف، ولما انتهت الصلاة بادر بالسلام على علي، وقال له: «غير المنكر في بلدك، فأنت المسئول عن رعيتك وبكى»، فأعرض عنه علي بن يوسف. استمر ابن تومرت في حملته حتى ذاع صيته بين العوام، فرأى علي بن يوسف أن يناظر الفقهاء هذا الرجل، لعلهم يبطلون دعواه. إلا أن ابن تومرت تفوّق على مناظريه، فأيقن علي بن يوسف خطورته، وأشار عليه بعض خواصه بقتل ابن تومرت، إلا أن عليًا رأى إخراجه من مراكش. فغادر ابن تومرت إلى أغمات، وأخذ يدعوا الناس، فاجتمع له مريدون.
ثم أعلن ابن تومرت بطلان بيعة علي بن يوسف، ودعا أصحابه لخلع طاعة أمير المسلمين، إلى أن بلغه أن هناك من يضمر قتله، فقصد ابن تومرت وصحبه بلاد السوس، وأخذ يتنقل ويدعو بين قراها، وينضم إليه الأتباع، حتى بلغ قرية في جبال المصامدة تدعى «إيجليز»، ونزل في مكان منيع لا يصل إليه أحد إلا من طريق لا يسلكها أحد إلا فرادى، واتخذها مقرًا له. وفي 15 رمضان 515 هـ/28 نونبر 1121 م، أعلن ابن تومرت في أصحابه أنه المهدي المنتظر واستمر في نشر تعاليمه وقويت شوكته.
في تلك الأثناء، كان علي بن يوسف قد جاز إلى الأندلس إثر ثورة أهل قرطبة، وبلغته أنباء حركة ابن تومرت، فعاد أدراجه إلى عاصمته، وجهز جيشًا يقوده والي السوس أبو بكر بن محمد اللمتوني، فلقي أتباع ابن تومرت عند جبل إيجليز في 6 شعبان 516 هـ/9 أكتوبر 1122 م، فانهزم المرابطون وغنم أتباع ابن تومرت ما كان معهم من متاع، وقويت شوكته أكثر وذاع صيته في تلك الأنحاء، وانضم الكثيرون إلى دعوته. فتبيّن لعلي بن يوسف خطر الموقف، وأرسل جيشًا آخر بقيادة أخيه إبراهيم بن يوسف، فانهزم أيضًا أمام أتباع ابن تومرت الذين سمّاهم الموحدين، فأرسل علي جيشًا ثالثًا يقوده سير بن مزدلي اللمتوني، فلم يكن حظه أفضل من سابقيه، وباء أيضًا بالهزيمة، ولم تأت سنة 518 هـ/1124 م، إلا وقد كانت سائر بلاد السوس قد دانت لابن تومرت بحدّ السيف. في تلك السنة، اختار ابن تومرت الانتقال إلى تينملّل، وهي موقع حصين يبعد نحو 100 كم جنوب شرقي مراكش لتكون قاعدته الجديدة.
وفي سنة 520 هـ، زحف جيش للموحدين يقوده البشير الونشريشي على أراضي لمتونة، فبعث علي بن يوسف لردهم جيشًا بقيادة أخيه تميم، فلحقت الهزيمة بالمرابطين، وواصل الموحدون الزحف نحو أغمات، فهزموا جيشا مرابطيا آخر يقوده أبو بكر بن علي بن يوسف. في تلك الأثناء، كان ابن تومرت قد جمع جيشًا آخر قوامه 40,000 مقاتل بينهم 400 فارس فقط، ألحقه بجيش الونشريشي، فبلغوه في سنة 524 هـ، وتقدموا نحو أسوار مراكش، وحاصروها 40 يومًا. صمدت المدينة حتى جاءتها الأمداد من كل صوب حتى بلغ جيش المرابطين 100,000 مقاتل، ودخل الفريقان في 2 جمادى الأول 524 هـ/12 أبريل 1130 م في معركة كبيرة عُرفت بمعركة البحيرة انتهت بهزيمة ساحقة للموحدين لم ينج منهم سوى نحو 400 مقاتل فقط، وكان في جملة من قُتلوا الونشريشي وعدد كبير من زعماء الموحدين. فر عبد المؤمن بن علي بفلول الموحدين إلى تينملل، فوجد ابن تومرت في مرض الموت، وسرعان ما توفي في 25 رمضان 524 هـ/31 غشت 1130 م، وخلفه عبد المؤمن بن علي.
الصراع مع عبد المؤمن بن علي
بعد هزيمة الموحدين الساحقة في البحيرة ووفاة ابن تومرت بعدها مريضًا، أمضى عبد المؤمن بن علي عامًا ونصف العام، ينظم صفوفه ويحشد الأتباع حتى اجتمع له 30,000 مقاتل خرج بهم للغزو، فبدأ بغزو وادي درعة، فغزا قلعة تازاجورت، فاقتحمها واستولى عليها، وسائر بلاد درعة، ثم عاد إلى تينملّل. أمضى عبد المؤمن السنوات التالية يفتتح بلاد درعة والسوس ويخضع قبائلها، مما جعل علي بن يوسف يستشعر بالخطر مجددًا ويرسل إلى ولده تاشفين بالعودة من الأندلس سنة 532 هـ لمواجهة خطر الموحدين المُحدق. وقع الصدام في أوائل سنة 533 هـ، حين التقى جيش المرابطين بقيادة تاشفين بن علي وحليفه الربرتير وجيش الموحدين بقيادة عبد المؤمن في أراضي حاحة، ودارت معركة كبيرة، هزم فيها المرابطون وقتل منهم عدد كبير. ثم تجدّد اللقاء بين الجيشين مرة أخرى في شوال 534 هـ، وانهزم المرابطون فيها مرة أخرى، ثم هزم عبد المؤمن جيشًا مرابطيًا ثالثًا هذه المرة يقوده الربرتير بالقرب من تارودانت.
وفي أواخر 535 هـ، بادر الموحدون بالهجوم، واقتربوا من سجلماسة، فبادر واليها المرابطي أبو بكر بن صارة بالاستسلام للموحدين، وواصل عبد المؤمن مسيره حتى بلغ وادي ورغة، فواجهته قوة مرابطية يقودها الربرتير في معركة عنيفة، قتل فيها الكثير من الفريقين، وانسحب المرابطون. وسار الموحدون بعدئذ إلى الشمال، فلاحقهم الربرتير إلى تيطاوين، فارتد الموحدون إلى المزمّة، ومنها إلى تمسامان، والقبائل التي يمر بها الموحدون تدخل في طاعتها حتى تضخّم جيش الموحدين، بينما ارتدّ المرابطون إلى فاس في انتظار انقضاء الشتاء.
شخصيته وصفاته
كان أبيض اللون، مشربًا بحمرة، حسن القد، صبوح الوجه، أفلج، أقنى، أكحل العينين، سبط الشعر. ووصفه لسان الدين بن الخطيب في ترجمته لعلي بن يوسف في كتابه الإحاطة في أخبار غرناطة قائلاً: «كان ملكًا عظيمًا، عالي الهمة، رفيع القدر، فسيح المعرفة عظيم السياسة»، كما كان ورعًا متعبدًا، يحب العلماء ويؤثر مجالسهم ويشاورهم في أمره، حتى اشتد نفوذ الفقهاء بالمغرب والأندلس في عهده خاصة ابن حمدين قاضي قرطبة، حتى أصبح لا يقطع في أمر من الأمور، صغيراً كان أو كبيراً إلا برأيهم.
أعماله
في سنة 520 هـ، شرع علي بن يوسف في بناء سور حول مراكش عملا بنصيحة أبي الوليد بن رشد بعد أن اشتد أمر ابن تومرت، وكان السور فيها حول المسجد والقصر، وأنفق في البناء 70,000 دينار. كما أرسل علي بن يوسف إلى الأندلس يأمرهم بإصلاح الأسوار، فاجتهد كل أمير في إصلاح أسوار مدينته. كما وسّع علي بن يوسف مدينة مراكش حتى تضاعف حجمها عما كانت عليه عند إنشائها، وأنشأ بها الجامع والقصر المرابطي، وأسس نظامًا للسقاية.
وكان من ضمن الأحداث البارزة في عهده، حدوث سيل عظيم بطنجة سنة 532 هـ، اكتسح معظم دورها، وقُتل فيه عدد عظيم من الناس والدواب. إضافة إلى هجرة أعداد كبيرة من أهل المغرب إلى الأندلس سنة 535 هـ، بعدما انتشرت أخبار الانتصارات المتوالية للموحدين.
وفاته وأسرته
توفي علي بن يوسف في 7 رجب 537 هـ/25 يناير 1143 م بمراكش، وقد ترك من الذكور أحد عشر ولدًا منهم أبو بكر وسير الذي كان وليًا لعهد أبيه منذ سنة 522 هـ وتاشفين الذي عقدت له البيعة بولاية العهد في 8 ربيع الآخر 533 هـ. بعد وفاة سير وأبي بكر وعُمر وينتان. وقد خلف تاشفين بن علي أباه بعد وفاته
>إعداد: أنس معطى الله