المنعطف السردي في رواية “طائر الحوم”

غيب الموت بتاريخ 23 يونيو 2023، رمزا آخر من رموز الثقافة والإبداع في عالمنا العربي، إنه عالم الاجتماع وعالم النفس الاجتماعي والروائي السوري حليم بركات، الذي توفي عن عمر ناهز التسعين عاما، دون أن تشغل وفاته المشهد الثقافي والفكري والإبداعي العربي، بما يلزم من اهتمام واستعادة إرث الراحل، في مكوناته الفكرية والإبداعية، بالنظر لقيمة الرجل ولحجم حضوره، ولطبيعة إنتاجه الفكري والإبداعي، ربما لأن حليم بركات ظل بعيدا عن الأضواء، مفضلا الكتابة والتفكير في صمت في أواخر حياته، في وقت عرف فيه الراحل، في فترات سابقة من حياته، بكونه كان من أكبر المطالبين بالحرية والعدالة، وانتقاد فساد مؤسسات الدولة، في أبحاثه كما في إبداعاته الروائية والسيروية…

عرف الفقيد حليم بركات بأبحاثه الرصينة والمؤثرة في مجال علم الاجتماع، بمثل ما عرف بكتاباته عن المجتمع العربي، والمجتمع المدني، والطائفية، والهوية، والاغتراب في الثقافة العربية، والاندماج السياسي والاجتماعي في لبنان، وعن الأهواء السياسية الطلابية في ذات البلد، فضلا عن دراساته المضادة للاستشراق عن المجتمع العربي، وحرب الخليج، ودراسات أخرى رصد فيها العلاقة بين المعرفة والسلطة، وبين المثقف والحاكم، كما في كتابه “غربة الكاتب العربي”.

وفي خضم هذا الزخم من الدراسات والأبحاث، فقد بدا أن هذا التراكم، في تنوعه وتعدده، لم يشغل حليم بركات عن كتاباته الإبداعية الموازية، والتي قدم لنا فيها مجموعة من النصوص الروائية والروائية – السير ذاتية والقصصية، والتي بدت، في عمومها، غير منفصلة عن أبحاثه الاجتماعية، منها نصوص استأثرت، لحظة صدورها، باهتمام القارئ والناقد العربيين، من قبيل: “ستة أيام” و”عودة الطائر إلى البحر” و”طائر الحوم” و”إنانة والنهر” و”المدينة الملونة”، وغيرها.

وتبقى روايته السير ذاتية “طائر الحوم”، من بين أهم النصوص السردية لحليم بركات، والتي حظيت باهتمام ومتابعات نقدية، منذ صدورها في طبعتها الأولى بالمغرب، عن “دار توبقال للنشر”، بالدار البيضاء، عام 1988، بل إنها اختيرت ضمن قائمة أفضل مائة رواية عربية. وتكمن أهمية هذه الرواية السيرذاتية، في كونها، مثل النص الذي تلاها على مستوى زمن الصدور، أي “المدينة الملونة”، تغرف من المحكي السيرذاتي لكاتبها، وهما معا تحكيان حكاية توق كاتبهما إلى حياة أصيلة وصافية، في قرية الكفرون، كما في “طائر الحوم”، وفي مدينة (بيروت)، كما في “المدينة الملونة”.

كما تكمن أهمية نص “طائر الحوم”، على المستوى الشكلي، في كونه قد حقق، لحظة صدوره، بعض الصياغات السردية الجديدة، وطور أخرى كلاسيكية، من قبيل توظيفه لتقنية “الاسترجاع” بشكل لافت ومبدع.

فضلا عن ذلك، يأسرنا نص “طائر الحوم”، في زمن صدوره، بنوع من البطولة التي كانت غير مهيمنة وقتئذ في الرواية العربية، أي “بطولة المكان”، عدا استثماره لمجموعة من المحكيات المتشظية داخله، عبر تعديد الخطابات والأصوات واللغات والأساليب فيه، من قبيل استثماره لـ “الشعر” و”الشعر الشعبي” و”الزجل” و”التراتيل” و”الأغنية” و”الحلم” و”الشريط المسموع” و”الشريط الوثائقي” و”القرآن” و”اللوحة”، وغيرها…

هكذا، إذن، يتسلل المكون الشعري إلى “طائر الحوم”، من خلال ما يسميه السارد “تطوير اللغة الرمزية”، عبر مزاوجتها بين: (الواقع والخيال)، و(الواقع والوهم)، و(الواقع والحلم). وداخل هذا التعدد، تتوزع هذه الرواية السيرذاتية على مجموعة من المحكيات المتخللة، بشكل تتقلص معه أهمية كتابة المغامرة / الحكاية في النص، حيث تبدو الحكاية فيه ثانوية، بشكل يصعب معه تلخيص مغامرة الرحلة في المكان كما يستوحيها النص. من هنا، يتحدد الأفق السردي الآخر في هذه الرواية السيرذاتية، باعتباره أفقا يحدد شكل الكتابة الروائية فيها.

أما تداخل الواقعي بالمتخيل والوهمي بالحلمي، فيشكل لدى السارد “حالة شعرية” و”حالة تساؤلات”. فحالة الشعر هي لحظة خيالية: “نحن نعيش حالة شعرية عابرة. وطالما نعيشها لا أجد ضرورة للعودة إلى الواقع والتحليل. لنتمتع بها فقط، كم مرة في العمر نفلت من دورة الواقع” (ص 64)، “الحلم الواقع، ما الفرق بينهما، ليس هناك حدود فاصلة، ربما كلاهما وجه للحقيقة” (ص 64).

أما لحظة الاسترجاع، فتشكل، هي أيضا، حالة خيالية، يتحقق بعدها مباشرة مستوى تجسيد الواقعي في المحكي الروائي السير ذاتي، كما في قول السارد: “وأضحك في هذه الفترة وأنا أسترجع كلماتي ولكن حبيبتي تعيدني إلى الواقع” (ص 66)، مضيفا: “عدت إلى الواقع من رحلاتي الخيالية” (ص 98).

انطلاقا من هذا التداخل بين مختلف هذه المكونات، يمنح المحكي في هذه الرواية السيرذاتية إمكانيات متعددة للتخييل فيها، خارج أية محاكاة صرفة للواقع المعيش، من هنا، تنكشف (لعبة الكتابة) في النص، عبر خرقه للمرجعية الواقعية، وما تداخل تلك المكونات داخل نفس الخطاب، سوى وجه آخر للاحتفاء بالمتخيل داخل الكتابة السيروائية، ما يجعلنا، هنا، أمام خاصية ما يسمى بـ “شبه الواقع” في النص.

إن اختيار تركيب معين للسرد في نص “طائر الحوم”، يؤسس لخطاطة مرسومة للمحكي، يتقلص فيها “التخييلي” ليعوض بنوع آخر من الكتابة (كتابة الذاكرة)، عبر استرجاع المعيش في النص بكامل ثقله الحكائي، وأيضا عبر تفجير المكبوت واستنطاقه، بشكل يغدو معه مفهوم الكتابة – في نظر السارد – مجرد اعتراف بهذا المكبوت: “إن الكتابة عندي اعتراف بأسرار مكبوتة” (ص 55). من هنا، تتمظهر الكتابة في هذا النص في شكل صراع تذكري، يتأسس على تكسير السرد، عبر ملء البياض بالكتابة (كتابة المسترجع)، بغاية تحقيق هوية الذات، في مقابل تفتيت هذه الهوية، بما هي هوية الآخر، مجسدا في الغرب، من خلال توظيف مسالك سردية موازية، كالجرأة في السرد وفضح الأسرار، عبر تصدي النص لعديد من القضايا الشائكة التي تكاد تكون محرمة، وأيضا عبر اعتماده على أسلوب الاعتراف، من خلال استدراجه بأسلوب صادق لمحطات ماضوية من حياة الكاتب الشخصية، الطفولية وغيرها، عبر محكيات متضافرة فيما بينها، يضعنا السارد، من خلالها، أمام شخصية شجاعة وقوية وبريئة، في إقبالها على البوح وعلى التعبير بكل جرأة وجموح عما تحس به من مشاعر وأحاسيس، ومن رغبة في عدم الانصياع أمام الإكراهات الدينية والسياسية في الشرق والغرب.

تتم استعادة بطولة “المكان” في “طائر الحوم” بكامل أشكاله (المكان الفيزيقي، والمكان الشعري، والمكان الحضري، والمكان الجغرافي…)، باعتماد النص توظيف مكانين مركزيين فيه: (قرية الكفرون)، وهي مسقط رأس الكاتب، حيث يعم النقاء وسمو القيم من ناحية، كما أنها من الأمكنة التي تحقق الوجه الأول لبطولة المكان في هذه الرواية السير ذاتية، من ناحية، ثم (الولايات المتحدة الأمريكية)، باعتبارها وجها آخر يزاوج بين ما هو إيجابي (من زاوية شعرنة بعض الأمكنة فيها، عبر ما يسميه السارد بـ “سمفونية الألوان”: نهر البوتمك – شلالاته – أمكنة تذكارية…)، وما هو سلبي، حيث يغدو المكان، هنا، تعلة لتمرير المنظور الإيديولوجي للسارد في النص (من قبيل انتقاده إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية المدافعة عنها، عبر انتقاده النموذج الأمريكي وحضارته، وهشاشة سياسته، ووحشيته وبشاعة تصحره الإنساني: “أنت أيتها الحضارة المقنعة أرفضك.. أعلنك هزيلة وحقيرة” (ص153)، وهو ما يشكل قطيعة جزئية مع تلك الصورة النمطية للغرب، في نماذج من الرواية العربية، التي تقدم الغرب باعتباره فضاء حضاريا وديموقراطيا وجنسيا وثقافيا…).

 من هنا، فالصوغ الجديد للأسئلة التي يطرحها نص (طائر الحوم)، يمكن تحديدها إجمالا في ثلاث خصائص / أسئلة سردية، تشكل اللحمة النصية لطبيعة القراءة التي تكشف عنها هذه الرواية السير ذاتية، وهي: سؤال هوية النص؛ وسؤال استعادة بطولة المكان؛ وسؤال تشغيل تقنية الاسترجاع. 

إن التساؤل حول هوية نص “طائر الحوم”، هو تساؤل يؤطر مجموعة كبيرة من النصوص السردية، العربية والغربية. فبالنظر إلى هوية نص “طائر الحوم”، باعتبارها “رواية”، كما هو منصوص على ذلك في الغلاف، يضعنا هذا النص عبر “ميثاق روائي معلن”، في صلب العالم التخييلي لهذه “الرواية”، كما فضل الكاتب تجنيسها. إلا أن نص “طائر الحوم”، وعبر طبيعة السرد المذوت فيه، إضافة إلى حضور الإحالة على اسم الكاتب الواقعي في النص(من خلال التأشير على الاسم الشخصي للسارد (حليم) داخل المحكي السردي والشعري في النص، يضعنا ذلك مباشرة داخل الفضاء الأتوبيوغرافي للمحكي النصي في “طائر الحوم”، انطلاقا مما يكشف عنه “الأثر الواقعي” الأتوبيوغرافي في النص، من خلال مجموعة من القرائن السردية والحكائية فيه.

فعلى سبيل المثال، نجد أن الديباجة الموجهة التي يستهل بها الكاتب حليم بركات نص “طائر الحوم”: “تفرج يا حبيبي وشوف حليم بركات عالمكشوف”، هي ديباجة تدمج وتفتت الخطاب المرجعي الخارج نصي (أنظر ملخص سيرة الكاتب على الغلاف الثاني للنص ومقارنتها ببعض السياقات النصية، كما هي متضمنة في النص: “أنا عربي من سوريا” (ص 19)، “أنا روائي” (ص 20)، “يكتب أدبا حديثا” (ص21)، “إنني كفروني” (ص 40)، “تابعت دراستي في جامعة ميشيغن” (ص 42)، “أستاذ في أفضل الجامعات الأمريكية” (ص 97)، وغيرها من القرائن التي تؤسس، لحظة صدور هذا النص، لنوع جديد من “الكتابة عن الذات” في السرد العربي، الشيء الذي يجعلنا – حسب الروائي الفرنسي ألان روب غريبة – أمام تأريخ جديد لنوع جديد من الكتابة الأتوبيوغرافية، كما نظر لها هذا الروائي نفسه، باعتباره أحد رواد الرواية الجديدة في فرنسا، فكما توجد في نظره “رواية جديدة” يجب ابتكار “أتوبيوغرافيا جديدة”، يؤطرها في هذا النص ما أصبح يسمى اليوم بـ “التخييل الذاتي”، وفي هذا السياق نفسه، يذكرنا قول الكاتب: “طائر الحوم هو أنا”، بقولين شبيهين سابقين، لكل من غوستاف فلوبير، متحدثا عن روايته (مدام بوفاري): “مدام بوفاري هي أنا”، ونجيب محفوظ، متحدثا عن ثلاثيته الروائية: “كمال عبد الجواد في الثلاثية هو أنا”…

من هذا المنظور، إذن، بإمكاننا أن نلج عالم “طائر الحوم” (الأتوبيوغرافي)، ونحن نخترق “ميثاقه الروائي”، بالشكل الذي نظر له منظر السيرة الذاتية الفرنسي “فيليب لوجون”، بحيث يمكن قراءة هذا العمل السردي (أي طائر الحوم)، أخذا بعين الاعتبار لهذا التداخل الذي يكشف عنه بين “الكاتب الواقعي/ حليم بركات” وبين “الأنا الثانية” للكاتب / السارد حليم).

أما مكونا (المكان والاسترجاع)، فيمكن تتبع تجليهما في النص، انطلاقا من تداخلهما في المحكي الروائي السير ذاتي لـ “طائر الحوم”. فالقراءة الأولى للنص، تبرز التكثيف اللافت لمجموعة من الأمكنة المستعادة؛ إذ لا تكاد تخلو أية لوحة من اللوحات الروائية فيه من توظيف تقنية الاسترجاع في السرد. فحتى حينما يكون السرد “أمريكيا” (أي مرتبطا بحدث أو سياق روائي معين داخل الولايات المتحدة الأمريكية، سرعان ما يحصل الاسترجاع في النص فيصبح السرد “كفرونيا” (نسبة إلى قرية الكفرون بسوريا).

وهذا المكان الأخير، أي الكفرون، هو الذي يؤثث محكي “طائر الحوم” ككل، فانطلاقا منه تتخذ الشخصيات مواقعها في السرد، كما أنه هو الذي يحدد الصور البلاغية في النص، من وصف وتشبيه، وغيرهما، كما في قول السارد: “وجدت عاملة المصعد السوداء جميلة كبدايات الصباح في شتاء الكفرون الماطر” (ص 32).

وتبقى تقنية الاسترجاع (الاستحضار)، موظفة، هي أيضا، بوعي مرجعي دال داخل النص، إلى درجة أصبحت تشكل فيها للسارد نوعا من التساؤل حول جدوى توظيفها: “أتساءل لماذا يستحضر موت شجرة في جبال شنندوه وفاة أبي في الكفرون” (ص 110). ولا يقف توظيف تقنية الاسترجاع عند هذا المستوى، بل إن المحكي (في صعوده ونزوله) يتخلله ما يمكن تسميته بتقنية (الاسترجاع داخل الاسترجاع)، حيث يحدث داخل الاسترجاع نفسه استرجاع ثان مواز. ففي اللوحة السابعة (المدينة الملونة) وهو الاسم نفسه الذي حملته الرواية السير ذاتية التالية لحليم بركات، يتم تحيين زمن السرد، ثم فجأة يحدث استرجاع أول ثم استرجاع ثان، ولا يعود السارد إلى السرد الأول (المحين زمنيا)، إلا عند بداية اللوحة الثامنة (الاحتراق).

كما أن المكان (الكفرون) داخل الاسترجاع – كما تقول حبيبة السارد – هو المصدر الرئيسي لمرجعيات الحكي في نص “طائر الحوم”: “أنت أسير مقارناتك. انس الكفرون. إنها المرجع لكل شيء في مخيلتك في هذه الأيام”، ثم تستطرد “طالما تصر أن تجعل الكفرون المرجع، لن تتمكن أن تبدأ علاقات جديدة وترى نوعا آخر من الجمال” (ص 80).

فضلا عن ذلك، يرتبط الاسترجاع في نص (طائر الحوم) بزمن معين (الزمن الضائع، زمن الطفولة في الكفرون، بمثل ارتباطه بالزمن الضائع، زمن الشباب، في بيروت الخمسينيات والستينيات: “ما أكثر الأشياء التي أضفناها يا سعيد، لذا أتمسك بذكريات الطفولة. أستحضرها مثل ثمرات المشمش والرمان في بدايتها” (طائر الحوم، ص 58). وحتى متى برز العنصر الزمني في بدايات عملية الاسترجاع، عبر صيغ المحمولات التالية “في طفولتي – في صغري”، فليس ذلك سوى تعلة لموضوعة حالة المكان داخل سياق زمني معين (زمن الطفولة خاصة).

 فالسارد لا يستطيع “التحرر من المكان” (الكفرون) إلى درجة أصبح فيها هذا المكان يلعب دورا إيهاميا في النص، عبر خاصية المفارقة التي يقيمها السارد للقارئ المتوهم، حيث تتقلص المسافة بين الأمكنة إلى درجة التماثل فيما بينها، ليصبح الكفرون في أمريكا وأمريكا في الكفرون: “ونهرب معا إلى الكفرون باتجاه جبال شنندوه الشامخة الخضراء” (ص 67)، مع العلم أن الكفرون يتواجد بسوريا وجبال شنندوه بالولايات المتحدة.

إنه الهوس بالمكان وبالعلاقة مع المكان، في نص “طائر الحوم”، ولا أدل على ذلك من العنوان المكاني الأول لهذه القصة (اهبط أيها الموت إلى الكفرون)، التي أصبحت فيما بعد رواية سير ذاتية بعد زيارة مفعمة إلى الكفرون، كما يقول سارد “طائر الحوم”. على هذا النحو يلعب “المكان” في هذا النص دور البطولة مكسرا بذلك بطولة (الشخصية) كما جسدتها عديد من النصوص السردية العربية. ومتى انسقنا وراء الاصطلاحات، يمكن اعتبار “طائر الحوم”، نصا مكانيا بالدرجة الأولى، ولا قيمة للزمن فيه، بحيث لا نحسب الزمن فيه إلا حين يتوقف السرد (في زمنه الحاضر)، عبر العودة إلى الماضي (أي إلى الحكي عن زمن مستعاد).

على هذا النحو، تتداعى هذه الأنساق الزمنية فيما بينها لاستعادة أمكنة معينة، سواء في علائقها بأمكنة أخرى أو في علائقها بشخوص تلجها (خاصة شخصية السارد). كما يتجلى المكان في النص، في أحايين أخرى، خاليا من الشخوص، فيحصل أن يفتقد المكان الحركة والامتلاء الإنساني فيه، وإن كان يؤطر امتلاءه، من ناحية أخرى، بالدلالات والصور الرمزية الموحية بأبعاد المكان الحسية والشعورية واللاشعورية. هكذا يجعلنا نص “طائر الحوم” نحس بنوع من التداخل الجسدي بين الذات والمكان، عبر تأمل الذات للمكان والإحساس بامتلاكه، فضلا عن أن نوع التجديد في استعادة بطولة المكان في “طائر الحوم”، يقوم على مركزة أمكنة غير مستعادة بالمعنى الاستنساخي، كما هي الحال في معظم النصوص الروائية العربية (السجن، المدينة، القرية، المقهى، البيت، القبر…)، وهي أمكنة تحيل في معظمها على الاختناق، وعلى اللاحرية (كما هي الحال في السجن خاصة).

لكن المكان في “طائر الحوم” يبدو مكانا مفتوحا على الكون برمته (من الأرض حتى السماء)، وهو ما يخول لطائر الحوم حرية استعادة التحليق السندبادي (المجازي). وحتى “القبر” يحقق انفتاحاته الرمزية، فيتم التواصل بين الميت والحي (عابر في المقبرة) ليؤسطر النص محكيه، داخل مجتمع عربي لازال يهيمن عليه الخطاب الأسطوري.

بقلم: د. عبد الرحيم العلام

Top