وفي استهلال مقتضب لرئيس الندوة، اعتبر الدكتور عبد المجيد شكير أن المسافة الزمنية التي نحن بصددها اليوم والممتدة على مسافة مائة سنة، ليست مجرد تراكم في الزمان والسنين بقدرما تشكل تراكما في التجارب التي أفرزت منجزا مسرحيا جديرا بالتأريخ وبالمقاربة التحليلية، ولعل الاحتفاء اليوم بهذه المئوية، يقول رئيس الندوة، يدعونا إلى التعاطي مع هذه المائة سنة بنفس جديد وبأسئلة جديدة من شأنها أن تسلط الضوء عن كل الحقب التي مر منها المسرح المغربي منذ النشأة إلى اليوم..
محمد مصطفى القباج: من التَّأْريخ للمسرح المغربي إلى التحليل الفلسفي التاريخي للمسار
رفعا لأي لبس يمكن أن يوحي به عنوان الورقة التي قدمها الباحث محمد مصطفى القباج، ارتأى هذا الأخير توضيح الفرق بين “التَّأريخ” و”التَّحليل الفلسفي التاريخي”. فالمقصود من التأريخ، يدقق المتدخل، هو ذلك “الرّصد الزمني الدقيق والإجمالي الذي عرفته صيرورة تطور ظاهرة أو فعالية مّا من خلال أحداث تعاقبت على مدى زمني”. في حين أن المقصود بالتحليل الفلسفي التاريخي هو “الجهد العقلي الذي يبذله الباحث في مجال تاريخ فكر مّا أو مؤسسة مّا بهدف التفسير أو التّأويل لفهم الأسباب التي وراء اتخاذ صيرورة مّا لمسار معيّن، واستخلاص ما إذا كان المسار تطوّرياً أو تراجعياً، مع ضبطٍ لفترة القوة أو الضعف التي تخللت المسار”.
بعد هذا الضبط المفاهيمي، شرع المتحدث في رصد أهم الأحداث التي عرفها تاريخ المسرح المغربي منذ نشأته التي يرى البعض أن منطلقها هو تشييد مسرح (سيرفانتيس) بطنجة سنة 1913 إلى اليوم، مع الإشارة إلى انعدام التوثيق المسرحي الدقيق بل ضياع العديد من الوثائق والأرشيف سواء تعلق الأمر بالنصوص المسرحية أو تعليمات المخرجين أو القصاصات الصحفية، إن وُجدت، بل حتى الوثائق الإدارية التي كان من المفروض أن تبقى محفوظة ضمن سجلات القطاعات الإدارية.
في بداية رصده للظاهرة المسرحية بالمغرب، انطلق الباحث من القرن السادس عشر حيث عرف المغرب “تراثاً فُرجوياً شفوياً لمجموعات تنشيطية شعبوية ذات حمولات دينية أو اجتماعية أو سياسية”. أهم هذه الأشكال التي اصطلح عليها بما قبل المسرحية ـ “الحلقة” و”لَبْساط” و”سيد الكُتفي” و”عبيدات الرمى” و”أهازيج المواسم العربية والأمازيغية”… إلخ. وبعد أن حدد ملامحها وخصوصياتها، أشار إلى أن المسرح المغربي في صيرورته التاريخية “استفاد منها واستعملها في محاولات التأصيل وصياغة تَميُّزٍ بإبداع صيغ في الكتابة والإخراج والأداء”..
كما أكد الباحث مصفى القباج أن بعض النُّخب المغربية كانت على علم بوجود وبمواصفات المسرح الغربي في معماره الإيطالي قبل بناء مسرح سيرفانتيس بالمغرب، وذلك من خلال مشاهداتها واطلاعها على عروض مسرحية إبان الرحلات التي كانت تقوم بها للديار الأوربية، وعرج أيضا على الزيارات التي قام بها للمغرب لفيف من المسرحيين العرب منذ سنة 1923 التي شهدت قدوم فرقة الممثل المصري الشيخ سلامة حجازي، ثم فرقة المغني محمد عز الدين المصري، تلميذ جورج أبيض الذي أشرف على تكوين فرقة مسرحية بتونس زارت المغرب سنة 1927 وكانت تحمل اسم “جوق النهضة العربية”. وفي سنة 1924 زارت المغرب قادمة من تونس فرقة مكونة من مشارقة وتونسيين، وفي سنة 1932 زارت المغرب فرقة فاطمة رشدي، في السنة الموالية (1933) وفدت على المغرب فرقة نجيب الريحاني، كما حلت بالمغرب سنة 1951 الفرقة القومية المصرية، وضمن أفرادها يوسف وهبي..
هكذا يسترسل الباحث في ذكر الأحداث المرتبطة ببوادر تأسيس المسرح المغربي، حيث بدأت تتأسس، في أوائل العشرينات، وفي أحضان الحركة الوطنية، أجواق وفرق وجمعيات مسرحية في معظم المدن المغربية. ففي سنة 1927 تأسست بالرباط جمعية “الجوق العربي للتمثيل العربي”، وفي سنة 1928 تأسست جمعية “الجوق السلاوي للتمثيل” بسلا، وفي طنجة تأسست في نفس السنة “جمعية الهلال الرياضية”، وفي سنة 1930 تأسست أول فرقة بتطوان تحت اسم “فرقة المغرب التطواني”، وفي سنة 1934 تأسست فرقة “فتيان حزب الإصلاح” بتطوان، وفي سنة 1935 شُيد المسرح البلدي بالجديدة. وفي سنة 1936 تأسست أول فرقة هاوية بمدينة الدار البيضاء. وفي أواسط الأربعينات من القرن الماضي تأسست فرقة “النجم المغربي للتمثيل العربي”. وفي سنة 1937 تأسست بتطوان جمعية “زهرة الآداب”. وفي سنة 1948 تأسست جمعية “إخوان الفن”.. وفي سنة 1949 أُنشِئت أول فرقة تمثيل تابعة “لراديو ماروك”، كما تأسست في نفس السنة “فرقة مسرح الشعب” وفرقة “شباب الفن” بفاس. وفي سنة 1950 تأسست فرقة “الكوكب المراكشي”، وفي سنة 1956 أسس عبد السلام الشرايبي فرقة “الوفاء المراكشي”…
ويواصل الباحث سرد أحداث وصيرورة التأسيس إلى أن يصل لمرحلة 1957 حيث سيشرع “مسرح الهواة” في مسيرته مدشناً مرحلة الازدهار في الإبداع والتجريب. ونظراً للعدد الهائل من الفرق الهاوية التي أصبحت تتعاطى للمسرح في مختلف مدن المغرب قررت إدارة الشبيبة والرياضة تنظيم مهرجان وطني لمسرح الهواة، في البداية كان ينظم مرة كل سنتين، ثم أصبح يلتئم كل سنة، وقد بلغ عدد المهرجانات من 1957 إلى 1993: 29 مهرجاناً تشترك فيه الفرق التي تجتاز التصفيات المحلية.
ويؤكد المتدخل ان معظم الباحثين يعتبرون أن مسرح الهوة يمثل الوجه المشرق للمسرح المغربي الحديث، بإبداعات واجتهادات ذات توجه تجريبي ذي نفس تجديدي ولمسة استيطيقية، تتبنى التيارات المسرحية الطلائعية في العالم، وإنتاج صيغ دينامية في الإخراج والتمثيل مع تبسيط لتقنيات الخشبة وتكسير الجدار الرابع للتفاعل الحي مع المتلقين. وقد استطاع هذا المسرح الهاوي التحرر من سلطة النموذج الكلاسيكي. بذلك تفتح مسرح الهواة على معظم المدارس والتيارات المسرحية الطليعية في الغرب..
كما تميزت حركة مسرح الهواة باحتضانها لكل التنظيرات التي اقترحها كتاب المسرح الذين أبدعوا اتجاهات مسرحية نظروا لها بعمق، وأضفوا على فسيفساء المسرح المغربي قيمة التنوع والاختلاف التي بوأت المسرح الهاوي لأن يندمج في الفضاء العالمي.
بالموازاة برزت معالم مسرح احترافي من خلال تدشين مسرح محمد الخامس بالرباط سنة 1962، وتعيين الفنان الطيب الصديقي في سنة 1965 مديراً للمسرح البلدي بالدار البيضاء، وإحداث فرقة المعمورة سنة 1966، واسترسل الباحث في سرد كرونولوجي لأهم الأحداث التي واكبت الممارسة المسرحية الاحترافية من مناظرات وإحداث فرق محترفة وتأسيس نقابة محترفي المسرح وإحداث قانون الفنان وغير ذلك من المحطات التي عززت المسرح كحرفة ومهنة في نسيج الثقافة المغربية..
وخلص الباحث في ختام مداخلته إلى أن المسرح ليس شأن المسرحيين وحدهم، ولكن هو أيضاً شأن السياسة، بمعنى أن عجز الدولة المغربية، سواء في الحقبة الاستعمارية أو فيما بعد الاستقلال، عن صياغة إستراتيجية ثقافية عامة واستراتيجيات قطاعية، ومن بينها قطاع المسرح لن تسعف المسرح ليحقق نضجه الكامل. معتبرا أن الدولة في الرّاهن المغربي تسيء فهم منطق التاريخ، تاريخ الأفكار والمؤسسات، فهي تعتقد أن إجراءات الدعم المادي كافية لأن تؤسس مسرحاً بالكم والكيف، وأنها إجراءات تكفل النضج الفكري والفني.
كما دعا الباحث ممارسي الفعل المسرحي عندنا والأكاديميين إلى تعميق الحوار لاستشراف الدروب المفتوحة والمتعددة لإذكاء ديناميكية خلاقة ترفع من المستوى الأدبي والفني والفلسفي للمسرح كإنتاج مُركَّب.
يونس لوليدي: عن ما بعد الحداثة في المسرح المغربي
استهل الباحث يونس لوليدي مداخلته بإثارة جملة من الملاحظات والأسئلة، من بينها أننا عندما نتحدث عن تجارب مسرحية جديدة “عادة ما نجمع بين ما بعد الحداثة وما بعد الدراما، غير أن ما بعد الحداثة تهم العروض عموما٬ وما بعد الدراما تهم النصوص على الخصوص.”، ليتساءل فيما إن كان المجتمع المغربي قد عرف نفس الشروط السياسية والفلسفية والاجتماعية والتكنولوجية التي أدت إلى ظهور ما بعد الحداثة في المجتمعات الغربية حتى نتحدث عن ما بعد الحداثة في مجتمعنا ومسرحنا؟ وهل استوعب مسرحيونا فلسفة ما بعد الحداثة حتى يستطيعوا نقلها إلى المسرح؟ هل أنتج مسرحنا المغربي حداثة حتى نمر إلى مرحلة ما بعد الحداثة؟ هل يعلم المسرحيون المغاربة الذين يتوجهون إلى ما بعد الحداثة أن هذا التوجه بدأ طريقه نحو الانقراض في المسرح الغربي؟ فلماذا نبدأ دائما من حيث انتهى الآخرون؟
ولم يتردد الباحث في الإعلان عن نواياه منذ البدء، حيث انتقد جملة وتفصيلا منطلقات أنصار ما بعد الحداثة التي تستند على “صيغ تقريرية” يتجلى أهمها في: موت المؤلف٬ وموت نص المؤلف٬ واندثار النص الدرامي وتشظيه٬ ونزيف المعنى الناتج عن النصوص٬ وغياب أغلب عناصر النص مثل الخطاب والتواصل والحكاية٬ وتدمير الموضوع… ليعتبر أن مثل هذه الصيغ التقريرية الصادرة عن ما بعد الحداثة والمتعلقة بموت المؤلف وموت نصه وموت معنى النص تدفع المرء إلى طرح تساؤلات تنتصر للنص المسرحي بما هو متن حكائي يؤثر في الوجدان.
وبعد أن حدد الباحث مداخل نظرية لبحثه، قدم نماذج لتجارب مسرحية مغربية معاصرة تظهر فيها ملامح ما بعد حداثية… كمسرحية الفنان المسرحي والسينمائي المغربي فوزي بن سعيدي الموسومة بـ “قصة حب في 12 أغنية و3 وجبات وقبلة واحدة”٬ وبعض التجارب المسرحية للمخرج الشاب بوسلهام الضعيف كمسرحية “رأس الحانوت” ومسرحية “حياة وحلم وشعب في تيه دائم”، ومسرحية “تغريبة ليون الافريقي”..
وفي ذات السياق أفرد الباحث يونس لوليدي حيزا مهما لنقد تجربة مسرحية ثالثة إلى جانب التجربتين السابقتين هي تجربة المخرج يوسف الريحاني٬ حيث يبدو له أن مجال حضور بعض ملامح ما بعد الحداثة في مسرح الريحاني هو مجال التنظير سواء أكان هذا التنظير دراسة أم ما ورد في مطويتي العرضين اللذين قدمهما في هذا السياق. وهكذا، يقول الباحث لوليدي، تحول هذا المخرج الشاب الذي قدم عددا من النصوص الاحتفالية ذات الطابع الكلاسيكي إلى مخرج أو منظر يستعمل أغلب المصطلحات الواردة في مجال الحديث عن المسرح ما بعد الحداثي عموما٬ واستشهد المتحدث بـ “مدخل نظري” منشور ليوسف الريحاني، مسجلا جملة من الملاحظات النقدية أهمها تغييب كلمة مسرح من التسمية التي اختارها لتجربته، والحديث عن فن الأداء وليس عن المسرح، وقيام تجربته على التنوع والهجنة وخلق اللغات. وتعويض الممثل بفنان الأداء. والهروب من المسرح إلى فنون أخرى، وعدم الاكتراث إن كان الآخرون يعتبرون ما يقدمه مسرحا أو لا يعتبرونه مسرحا على الإطلاق.. ويواصل الباحث نقده للتجربة من خلال وثائق العروض التي قدمهما الريحاني٬ مسجلا الملاحظات الآتية: تعويض المخرج بـ “فنان بصري”، تعويض الإخراج بـ “رؤية رقمية”، تعويض المسرحية بـ “الأداء”، تغيير كلي للمهن والمهام التي ترد في جينيريك العرض من قبيل: رؤية تصوير وإدراة، أداء، تجهيز ومونتاج، معالجة فيديو، تقنيات تفاعلية، التحريك…
ويبقى، يقول الباحث يونس لوليدي، أن نتساءل ماذا بقي في هذا التقديم من التسميات التي عرفها المسرح طيلة قرون مثل المؤلف الدرامي والمخرج المسرحي والممثل والدراماتورج والسينوغراف؟
هكذا سيسجل الباحث في نهاية عرضه ملاحظات عامة حول التجارب المغربية التي ساقها على سبيل النموذج، وهي:
1- هناك من تظهر لديه ملامح ما بعد الحداثة في التنظير أكثر مما تظهر لديه في الفرجات
2 – هناك من لا يعتمد في فرجاته إلا على اللغة السينمائية٬ وهذا العنصر وحده غير كاف لننعت التجربة بأنها ما بعد حداثية.
3 – هناك من يوظف المقاطع السينمائية ومقاطع الفيديو والصور والخرائط في فرجاته٬ غير أن هذه العناصر وظفت في المسرح قبل موجة ما بعد الحداثة.
وينتهي الباحث إلى خلاصة مفادها أن تجارب ما بعد الحداثة في المسرح “تنقصها الصرامة التنظيرية٬ ويغيب عنها المصطلح الدقيق٬ مما يصعب معه القول بأن ما بعد الحداثة هي مرحلة تاريخية محددة أو هي نوع جمالي محدد”. أنها بالأحرى أسلوب لعب٬ أو موقف إنتاج وتلقي٬ يجمع بين المتناقضات٬ ولا ينتمي إلى اتجاه محدد٬ ويعتمد الكولاج وتنوع التقنيات والأساليب من دون محور أساسي أو مركزي. فتبدو هذه الفرجات وكأنها تحاول التخلص من أي تقليد أو أي إرث مسرحي.
وتساءل المتحدث في النهاية: أليس ما بعد الحداثة في المسرح المغربي مجرد تجارب فردية قائمة على الفهم الشخصي لما بعد الحداثة٬ بعيدا عن استيعاب البعد الفلسفي لما بعد الحداثة الذي نظر له ليوتار ودريدا وفي غياب شروط نشأة ما بعد الحداثة في المجتمع المغربي؟ أليس ما بعد الحداثة في مسرحنا المغربي مجرد ترف تقني أكثر منها حاجة جمالية أو فكرية؟
عز الدين بونيت: من تأصيل الوعي بالمسرح إلى توطين الممارسة المسرحية تساؤلات حول آفاق المهننة..
تساءل الباحث عز الدين بونيت، في مدخل عرضه، عن السبيل لصياغة خلاصة دالة لحصيلة قرن من الحضور المسرحي في المغرب، وأي أفق للمائة الثانية من وجود هذا المسرح على أرض المغرب ونحن نقف اليوم على عتبتها، لذلك ارتأى الباحث أن يتمحور مبحثه على سؤال المهننة والتنظيم انطلاقا من التحولات التي أدت إلى “انتقال عميق في الوعي بإشكالية الممارسة المسرحية في نسقنا الثقافي، من التنظير والبحث في الأصول.. إلى التأريخ ومحاولة فهم المسرح كممارسة ووضع اليد على عوائقها الموضوعية..”
هكذا سافر بنا المتدخل عبر رحلة قطعها المسرح المغربي من الطليعة الثقافية إلى المهنية، عبر مسافات اتسمت بكثير من التفاعلات.. فإذا كان المسرح قد تعرض لمحاولات تأنيب وتحريض الناس ضده من خلال بعض الفقهاء التقليديين والمتزمتين مثل الفقيه أحمد بن الصديق صاحب الرسالة الشهيرة “إقامة الدليل على حرمة التمثيل” التي عبر فيها صراحة عن معاداته للمسرح، فإنه، بالمقابل، حظي بعطف ومساندة بعض رموز وشيوخ السلفية الوطنية المتنورة، من أمثال علال الفاسي، ومحمد المختار السوسي، وعبد الله كنون، وهم من زعماء الإصلاح الثقافي الذين احتضنوا التجربة المسرحية الناشئة في المغرب منوهين بمنافعها التربوية والتثقيفية والتعبوية.. من ثمة اضطلع المسرح المغربي، منذ انطلاقته، بدور الطليعة التحديثية للثقافة المغربية في مناخ اتسم على العموم بالانغلاق والتوجس من التأثيرات القادمة من الخارج، ومحاولات الإصلاح من داخل النسق العام القائم، وغلبة أشكال الترفيه والفرجات التقليدية القادمة عموما من الفضاء البدوي المحيط بالمدن، وكذا دهشة الاطلاع والمعرفة بالمسرح الغربي، والاستقبال الإيجابي للمسرح في مطلع القرن العشرين، وعلاقات الفن المسرحي بالنخب الصاعدة ومدى تأثير الفعل السياسي فيه، والتجادبات الإيديولوجية التي كانت تنسج خيوطه ومتونه.. والمعاناة التي عاشها المسرح جراء مضايقات السلطات على فنانيه وفرقه وعروضه حتى أن الدولة أحجمت لوقت طويل عن سن أي سياسة عمومية لدعم وتأهيل المسرح…
وفي الجزء الثاني من عرضه، ولج الباحث عز الدين بونيت كل المسالك التي قطعها المسرح المغربي في بحثه الشاق والدؤوب عن أفق مهني حداثي ومعقلن.. فمن الوعي الشقي الذي أبعد الممارسين عن سؤال المهنية، والعوائق المؤسساتية التي واجهتهم، إلى مرحلة التوصل لتأسيس تنظيم نقابي مستقل ينهض بمسؤوليات تنظيم وتأهيل قطاع المسرح الاحترافي والدفاع عن مهنييه.. ويرى الباحث أنه منذ تأسيس الهيئة التمثيلية للمسرحيين، تحولت أوليات الخطاب المسرحي المواكب للممارسة بشكل جدري، وبدأت القضايا المهنية تطرح شيئا فشيئا بوضوح أكبر”..
وبعد استعراض الباحث أهم المكتسبات التي حققتها النقابة المغربية لمحترفي المسرح منذ نشأتها، وخصوصا في الفترة التي تولى فيها الأستاذ محمد الأشعري مسؤولية وزارة الثقافة في عهد حكومة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي التي كانت آنذاك مشكلة في أغلبها من أحزاب المعارضة، من قبيل سن سياسة الدعم العمومي للمسرح، وإحداث قانون خاص بالفنان، توقف عند اقتراح الهيئة التمثيلية للمسرحيين المغاربة لمشروع “خطة وطنية لتأهيل القطاع المسرحي”، حيث شكلت هذه الخطة ملفا مطلبيا سياسيا شاملا وأفقا لعمل منهجي متكامل ولسياسة عمومية مندمجة.. بحيث أكد مشوع الخطة على “المطالبة بتدخل مهيكل وشامل للدولة بكل مستوياتها عبر إقرار سياسة قطاعية متكاملة تستهدف إرساء مقومات قطاع اقتصادي ثقافي حركي ومستقل وقادر على المبادرة”.
واستفاض الباحث في تعداد المبادئ التي تقوم عليها الخطة كمبدأ الحق في الثقافة، ومبدأ التمكين الذاتي، والحق في التعبير، ومبدأ كفالة الدولة للخدمة الثقافية باعتبارها خدمة عمومية…
وأبرز أيضا أهم المفاهيم المؤسسة للخطة من قبيل مفهوم التنمية الثقافية، ومفهوم الجاذبية الثقافية للمجال، ومفهوم تنمية الصناعات الثقافية.. وبعد أن حدد الباحث عددا من المؤشرات على مستوى الوعاء الزمني وكذا على مستوى الجانب الكمي والنوعي، دقق المجالات السبعة لتدخل الدولة وهي: الجانب المؤسساتي، البنيات التحتية، التشريع والتنظيم، التكوين العام والتكوين المهني، المواكبة الإدارية والمحاسبة، هياكل الإنتاج والتسويق، والجانب الاجتماعي للمهنيين.
وكما استهل عرضه بالتساؤل، ختم الباحث عز الدين بونيت مداخلته أيضا بهاجس السؤال المفتوح على المستقبل قائلا: “كيف يواكب التفكير في المسرح تحولات الوعي بالممارسة؟ كيف يستبطن انشغالات المهنيين ومقاربتهم العملية لمعضلات المسرح في ممارسته اليومية؟ في علاقته بالجمهور؟ في علاقته بالدولة وبالسياسة الثقافية العمومية؟ في علاقته بالقضايا المطروحة على ساحة النقاش العمومي؟ في علاقته بانفتاح الساحة الفنية المغربية على حساسيات وصيغ تعبير جديدة؟؟؟”.