سعيد بوخليط يغرد بلغتين، متخصص بغاستون باشلار، حيث نال الدكتوراه عن أطروحته الموسومة بـ (الخطاب النقدي والأدبي عند غاستون باشلار: شعرية العناصر الأربعة). صدرت له المؤلفات الآتية: غاستون باشلار (عقلانية حالمة)، و(غاستون باشلار: نحو أفق للحلم)، و(غاستون باشلار: بين ذكاء العلم وجمالية القصيدة)، و(العقلانية النقدية عند كارل بوبر)، – تقديم وترجمة، و(غاستون باشلار: نحو نظرية في الأدب)، و(المتخيل والعقلانية.. دراسات في فلسفة غاستون باشلار)، و(غاستون باشلار.. مفاهيم النظرية الجمالية)، و(نوابغ سير وحوارات)، ترجمة وتقديم، و(قضايا وحوارات بين المنظور الأيديولوجي والمعرفي)، و(بين الفلسفة والأدب:دراسات وسير)، و(يوميات حالم مغربي).
فضلا عن عشرات المقالات النقدية كتابة وترجمة في عشرات المواقع الالكترونية والصحف المغربية والعربية والعالمية.
كتب باشلار عن الأحلام أكثر من كتاب،غير أنه في عمله: ”شاعرية أحلام اليقظة” (1960)، يركز كثيرا على هذا المنحى، فلماذا منحت اهتماما لهذا النص دون غيره؟
< أولا، يجب الإقرارأنه عندما ننغمس بين ثنايا كتابات باشلار،على الأقل في جانبها الشعري، والذي كان مجال اهتمامي، فبكل تأكيد يصعب عمليا، تفضيل هذا العنوان دون غيره، أو تخصيص هذه الفقرات دون غيرها، بأولوية التقييم والتأويل والبحث دون الباقي، فكتابات باشلار فاتنة بل مسكرة، تحلق بك بعيدا عن عوالم وأراضي، لم تطأها أقدامنا من قبل. بالتالي، يصعب في واقع الأمر، أن نحصر حقيقة باشلار،على الأقل حسب ما فهمته من كتاباته، ضمن خانة معينة قائمة الذات، نظرا لأن الرأي الراجح يبتغي والحق كذلك، كمؤسس أولي للنقد الحديث، نتيجة النقلة النوعية المتمثلة في مقاربة باشلار للنص من الداخل، بدل التحديدات السوسيو- بيوغرافية التي دشنتها تشكلات المنهج الوضعي خلال القرن التاسع عشر .إذن، رغم أن كتابات باشلار حول العناصر الكونية الأربعة، قد وجهت أبرز الأسماء التي أرست لبنات تراكمات قراءة النص الأدبي: جورج بولي، رولان بارت، روسي، جون بيير ريشار، شارل مورون، ستاروبنسكي، لوسيان غولدمان، غريماس، جيرار جينيت.. فإنه وبالإحالة على نوعية تحليلاته وطبيعة منظوراته، يفضل باشلار أن يظل أساسا قارئا حالما، لاغير، وهو التقدير الذي ابتغاه لنفسه. كيف يمكننا الاتفاق موضوعيا على تصنيف حول حكيم كبير للإنسانية، يرفض حتى المناداة عليه بلقب أستاذ، مفضلا بالأحرى اسمه الشخصي غاستون، ثم جمع بين عشق يزاوج في ذات الآن، بين الرياضيات كما الشعر والآداب، لأنه يستحيل:(فهم ذرة الفيزياء المعاصرة، دون استحضار تاريخ مجموع صورها)، مثلما يستحيل تمثل استراتجيات عمل العلماء، بغير سابق معرفة، تحيط بجيولوجية مدائن وخرائط دروب الشعراء. هكذا،لفهم تضمينات نظريات أينشتاين العويصة جدا، تفترض أصلا أن نكون قارئين جيدين لأشعار نوفاليس وريلكه وشيلي و بودلير وإدغار ألان بو. يقول باشلار :(لقد وهبت نفسي جسدا وروحا- آه متأخرا- للرياضيات، لكن منذ أن لمستني القصيدة، أيضا بشكل متأخر- فحياتي كلها تحت تأثير التأخير- وقد أدركني العمر، فلا أريد حاليا غير قراءة الكتب الرائعة)، وحتى لا تستغرقني التفاصيل، لأن المقام لايسمح، يمكنني اختزال الجواب عن سؤالك في إشارة تفتح المجال بالتأكيد لأبحاث كثيرة. لقد أراد باشلار بكتابه شعرية حلم اليقظة، الذي يتميز عن الحلم، دراسة أحلام اليقظة حسب المنهج الظاهراتي، وعبره الإحاطة بكنه الصور الشعرية.
> يلجأ باشلار إلى اعتماد أسلوبه الفينومينولوجي بهدف تفسير سيرورات أحلام اليقظة، متجاوزا التحليل النفسي الذي أهمل الأحلام، حسب باشلار، ما إضافته في هذا المضمار؟
< أولا، بخصوص علاقة باشلار بالتحليل النفسي، تنبغي الإحالة على جملة جامعة مانعة، صاغها حوله روجي فايول: (متحمس للتحليل النفسي،عارف بفرويد، ومعجب بيونغ). أما باشلار الذي يعتبر أحد المؤسسين الكبار لمبدأ استلهام التحليل النفسي في قراءة الأدب، وفي تمثل مسارات العلم، نتذكر جيدا عنوان كتابه: “تشكل الفكر العلمي، مساهمة في التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية” (1938)، من أجل سبر أغوار العوائق والعقبات الابستمولوجية، وبالتالي رصد أخطائه. فقد أجاب عن الطرح، بكيفية موغلة في المجاز الإيحائي، مفادها أن التحليل النفسي يتطلب (ثقافة طبية وخاصة تجربة كبيرة عن العُصابيين. فيما يخصني، لا أملك من سبيل لمعرفة الفرد غير القراءة، تلك القراءة الرائعة التي تحكم على الإنسان انطلاقا مما يكتبه). إذن، هذا التفاعل الحي والخصب مع النص كقصدية باشلارية، سيشكل قطيعة مع التحليل النفسي الكلاسيكي الذي اختزل وقلص الصورة إلى مجرد راسب لإدراكات قديمة، تتجلى بطريقة ما عن طريق الذاكرة. أما الظاهراتية عند باشلار، فقد انطلقت من مبدأ حضور الوعي الذي ينمو ويتطور باستمرار نتيجة قراءة دائمة للشعر والشعراء، مما يحتم على القارئ إعادة إنتاج الحدث الإبداعي .تمثل مشروع باشلار، في ملاحقة الصورة الشعرية الفتية والأولانية،غير المقيدة بأي تحديد نظري. صورة يدركها الوعي الذاتي في آنيتها وحضورها المباشر، من خلال انبعاثها التلقائي، لذلك تبنى الظاهراتية، كما أوضح في كتابه شعرية أحلام اليقظة، كمنهجية تمكن من استعادة ذاتية الصور، وتناول قيمتها الجديدة. طبعا،إذا كانت أسماء عظيمة مثل هوسرل وهيدغر وميرلوبونتي وسارتر، قد طورت الظاهراتية على مستوى النظرية الفلسفية في محدداتها الأنطولوجية، فإنه بخصوص النقد الأدبي، يعتبر باشلار الرائد الأول، ثم تطور الدرس مع أعمال مارسيل ريمون وجان بيير ريشار وجورج بولي ورومان إغدن.
> منذ الفصل الأول من كتاب شاعرية حلم اليقظة، يشتغل باشلار على أنواع الكلمات ودلالاتها، لا سيما ما يتعلق بالتفريق الذي تقيمه اللغة بين ما يعتبره حلم اليقظة المؤنث، والحلم المذكر، كيف لك أن توضح المزيد للقارئ؟
< لقد استدعى باشلار أحلام اليقظة، بناء على مفهومين أساسيين للتحليل النفسي اليونغي وأقصد بهما الأنيما والأنيموس، يشير المعنى الأول إلى أحلام اليقظة الأنثوية، في حين يتضمن الثاني أحلام اليقظة الذكورية، يقول بهذا الخصوص: (كي لا يحصل غموض والتباس مع حقائق سيكولوجيا السطح، فقد جاء يونغ بفكرة صائبة تقوم على وضع ذكورية وأنثوية الأعماق، تحت التأثير المزدوج لاسمين لاتنيين: أنيموس وأنيما. اسمان لروح واحدة، ضروريان من أجل تبين حقيقة النفس الإنسانية، فالرجل الأكثر رجولة، والذي نصفه بصاحب أنيموس قوي، يتوفر كذلك على أنيما قد تكون لها تمظهرات متناقضة. أيضا، المرأة الأكثر أنوثة، تنطوي على خصائص نفسية تثبت وجود الأنيموس. إن الحياة الاجتماعية المعاصرة، بتنافسيتها التي تخلط الأجناس، تعلمنا كيف نكبح مظاهر الخنثوية).هذا التأسيس الجديد لمفهوم الذكورة والأنوثة، أتاح لباشلار إمكانية تفجير مفهوم الصورة الشعرية، جراء القطيعة الواضحة التي أقامها بين الحلم وحلم اليقظة، أو حلم الليل وشرود النهار.
> بالنسبة لباشلار، لا تشبه اللذة المتأتية من حلم اليقظة، تلك الناتجة عن الحلم، فالأولى واعية، راهنة وملموسة، أما حالم الليل فلا يمكنه أن يعلن فعل إيمان ما ينبع من حلمه، لأن حلم الليل حلم بدون حالم، ماذا يقصد بذلك؟
ـ فعلا، هو تحديد جوهري عند باشلار، وتمايز مفصلي، قلَب في إطاره مسار الفكر العربي، من الكوجيطو الديكارتي “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، إلى كوجيطو حالم على منوال “أنا أحلم أحلام يقظة، إذن أنا موجود”. هكذا، يصعب التكلم عن كوجيطو بالنسبة لحالم الليل، ما دام لا يمكن الانتقال من الحلم الليلي إلى الشعور بوجود الذات الحالمة. بالتالي، لا يمكن للظاهراتي الاشتغال معتمدا على وثائق الأحلام الليلية، ويتنازل عن أمر الحلم إلى المحلل النفسي وكذا الأنثروبولوجي قصد المقارنة بين الأحلام والأساطير. الذات، منفلتة منا، أثناء الحلم الليلي. لذا التجأ باشلار في المقابل، إلى حلم اليقظة، بهدف تمثل زخم القوى الشعرية في الحياة النفسية الإنسانية. حالم حلم اليقظة، حاضر مع تأمله، يبني نشاطه الحُلمي، بكيفية واعية، هكذا تتعلق أحلام اليقظة مباشرة بموضوعها.
> في الفصل الثاني، يطالب باشلار، بعلم نفس كامل لا يعطي أفضلية لأي عنصر من النفسية الإنسانية؟
ـ لقد التجأ باشلار بداية إلى بوصلة التحليل النفسي الكلاسيكي، مستعملا مفاهيم الإسقاط والكبت والعقدة والتسامي، سواء في دراسته عن الشاعر لوتريامون، أو قراءته لأخطاء تاريخ العلم، ثم تحليله للمنظومة المعرفية المتمحورة حول النار، ونجد بين طيات كتاباته إحالة دائمة على المشتغلين بالتحليل النفسي: فرويد، أبراهام، رانك، جونس، أليندي. لكن يبقى ملهمه بالأساس، هو يونغ، حيث استثمره خاصة في أعماله التالية لكتاب “النار”، مستندا على التوظيف المنهجي لمفاهيمه: اللاوعي الجمعي، الأنيموس، الأنيما والنموذج الأصلي. ثم توضحت أكثر في المحددات التأويلية لموضوعات كتابه “شعرية حلم اليقظة”، باستناد باشلار مبدئيا على فرضية يونغ القائلة، بأن الكائن الإنساني الواحد يقوم على ثنائية جنسية، والسيكولوجيا الفردية متعلقة بهذين الجنسين أي خنثية، موظفا أسطورة أندروجين الأفلاطونية.
> في الفصل الثالث والمعنون بالتأملات الشاردة نحو الطفولة، شدد باشلار على أن الأخيرة ليس مُؤرخة نفسانيا، ماذا قصد بذلك؟
< بمعنى إزالة الصبغة المجتمعية عن ماضي الطفولة من خلال حكايات الآخرين، والقيام بدل ذلك، بعملية تأريخ ذاتية تتأسس على الذاكرة والتخيل. بهذا الخصوص، أشار باشلار إلى نوع من التحليل الشاعري لطفولة، تنمذج مثالا لسعادة بسيطة وحقيقية. موقف يحتم علينا، أن نكون في الوقت نفسه: شعراء وعلماء نفس. تلمس الطفولة بقصائد شعرية، يفضي إلى نتائج أكثر أهمية من تحليلها بالذكريات، كما أن رؤية الطفولة بحلم اليقظة أو التأمل الشارد، أبقى وأسمى من استرجاعها بالوقائع. الشعراء، يحدسون أشياء أخرى في الإنسان، يعجز علماء النفس عن تحسسها. يعيش داخل كل حالم، طفل، تسامت به الأحلام الشاردة، التي هي قدر كل واحد منا.
> هل يقترب كوجيطو الحلم المقترح عند باشلار، من كوجيطو ديكارت. بمعنى ثان، هل يقول أنا أحلم إذن أنا موجود؟
< بل يتقاطع معه، الذات الحالمة مقابل الذات المفكرة. غير أنه، إذا وضعنا كوجيطو باشلار، ضمن إطار مشروعه الخاص وانتقلنا إلى السياق العام للفلسفة الغربية، على الأقل منذ العقلانية الديكارتية، فسيظهر جليا أن باشلار تكملة لديكارت، وقد اكتمل رافدا العلم والقصيدة، العقل والخيال، الفكر والحلم.
> يؤكد باشلار مرارا، أنه كتب عمله “شاعرية أحلام اليقظة” حسب قواعد الأنيما، ويطالب قراءه بتأويله حسب هذا التحديد. طبعا، يتوجه إلى قارئ ليس بالضرورة غربيا. هل أفلحت باعتقادك قاعدة الأنيما مع العقل الشرقي؟
ـ حتما لن يكون الأمر بديهيا، نظرا لنوعية المرجعيات الثقافية التي أسست العقل الشرقي أيضا، باشلار لم يُترجم كفاية وكما ينبغي، ولم يسلط الاهتمام على قسم كبير من كتاباته، بحيث وقفت شهرته في الفكر العربي على مفهومي العائق والقطيعة، نتيجة تفعيلهما الإجرائي المعرفي من طرف الأستاذ الجابري، لقراءة التراث العربي.
> قد نعرج بعيدا، وننحو قليلا بالتساؤل عن شغف العقل المغربي بالنقد وأولياته المتفرنسة قياسا إلى العقل المشرقي، ثنائية لطالما أثارت لغطا ما بين مؤيد لها ومعارض. أقول لماذا يزدهر هذا النسق عندكم؟
< وأضيف تفوق المغاربة في الفلسفة والنقد والترجمة، مقابل ريادة المشارقة في الشعر والرواية والفنون. أظنها، ليست على الدوام تصنيفات عادلة، وتبقى في منحاها العام نسبية. لكن إجمالا، ولأسباب تاريخية، ارتبطنا في المغرب بالفكر الفرنسي، الذي هو كما يقال مجرد ”ترجمة” لما صاغه الألمان. ولا أحد ينكر سمة التعقيد النظري المجرد المميز لاجتهادات الجرمان، مقارنة مع الطابع الوصفي المباشر المهيمن على الأنكلوساكسونيين.
> ماذا أضاف باشلار إليك، وماذا ستضيف إلى الخطاب النقدي والفينومينولوجي العربي؟ وما رهانات تلك الإضافة، لاسيما ونحن نعيش أكثر من أزمة، بدءا من وعي أنفسنا وانتهاء بفهم الآخر؟
< ما أنجزته حتى الآن منذ أول مقالتي بداية التسعينات، يبقى فقط تعبيرا عن رغبات وقراءات وتأملات مبهجة، وتجليات لما أحبه حقا وسط دوامة من الاكراهات المفروضة، ولا علاقة لها بتاتا بالسعي إلى صياغة نظرية من النظريات كما الحال مع المفكرين .طبعا، يسكنني هاجس أن أساهم بأشياء جميلة ومعبرة. أيضا، وازع إيتيقي تعلمته من باشلار.
> بماذا ترغب في أن نختتم حوارنا هذا الذي أنبت ثماره في حديقة الوعي لقارئك أينما كان؟
< دعوة مفتوحة وصادقة، لمن يجد في نفسه الرغبة والقدرة كي ننكب على ترجمة مؤلفات باشلارية في غاية الأهمية، إلى العربية، ما زالت عالقة بين الرفوف.
حاوره: حسين محمد شريف