يقتحم الشاعر خالد شوملي عالما شديد الخصوصية، هو عالم الكتابة للطفل، بديوانه الشعري “أرجوحة فرح”. وهو الشاعر الذي أبدع وأمتع في عالم الكبار بمجموع ستة دواوين شعرية1. وكيف لا يكتب خالد شوملي للأطفال وهو الشاعر المتمكن من أدواته والمعروف بحسه الإبداعي الموصول بالحب والمعرفة، ينجذب إلى ترسيخ القيم الجمالية والأخلاقية والمعرفية.
إن الكاتب للطفل عموما يدخل مغامرة خطيرة، يواجه فيها تحديات عديدة على رأسها مدى تفاعل المتلقين الصغار مع منجزه الإبداعي، فالطفل متلق غامض يصعب كشف ميولاته ورغباته وما يجول بخاطره. وتزداد هذه الصعوبة عندما يتعلق الأمر بالقراءة النقدية لإبداع الطفل، إذ تطرح أمام الناقد عدة إشكالات وأسئلة، كإشكالية المصطلح: “أدب الطفل” وعدم دقته، والمحتوى ومسألة التعليم والتوجيه، والخصائص الفنية، وإشكالية المناهج والأدوات الإجرائية التي نحلل بها أدب الطفل، هل هي مناهج وأدوات نقد الأدب عموما، أم أن خصوصية أدب الطفل تستدعي أدوات إجرائية خاصة؟ ولمن نتوجه بالقراءة النقدية، هل للمتلقين الكبار، بما أنهم هم الذين أبدعوا للصغار، أم للصغار على اعتبار أن المنجز الإبداعي موجه إليهم ويخصهم؟ هكذا تبدو قضية نقد أدب الطفل شائكة ومعقدة، ولا يتسع المجال هنا لمناقشتها، وسأسلك في قراءتي لديوان “أرجوحة فرح” مسلك استخلاص مقومات الكتابة للطفل عند الشاعر خالد شوملي على مستوى المضامين وعلى مستوى الخصائص الفنية، وأروم قراءة لا تفقد النصوص جمال وسحر عالمها الطفولي وتلقائيته.
يقدم الشاعر خالد شوملي ديوانه “أرجوحة فرح” لمتلقيه الصغار في طبعة أنيقة بغلاف جذاب، يحتوي علامات لغوية وأيقونية دالة: ألوان وأشكال وأرجوحة وبالونات ملونة وعنوان (أرجوحة فرح) محمل بدلالات الفرح والمتعة، يشد الطفل ويشوقه إلى ركوب أرجوحة الكلمات والانطلاق والسعادة. ومقطع شعري مأخوذ من قصيدة “قطتي الحمرا”، يجسد علاقة الطفل بالحيوانات واستمتاعه بالتقرب منها وصداقته لها. ولا تقتصر عناصر الجذب والتشويق على هذه العتبات الخارجية فحسب، بل نجدها حاضرة داخل الديوان أيضا، من خلال اختيار الشاعر لعناوين مثيرة لقصائده، تستجيب لميولات الأطفال ورغباتهم المختلفة، وتحفزهم على القراءة، كعالم الطبيعة والحيوانات: (بستاني ـ الديك المغرور ـ قطتي الحمرا ـ الحصان ـ الأرنب ـ النحل ـ الفراشة ـ القرد ـ الضفدع ـ السلحفاة ـ الأرنب المتهور والسلحفاة الذكية)، والعلاقات الاجتماعية (عائلتي ـ المدرس ـ الأصدقاء)، والمرح والهوايات (مباراة كرة اليد ـ الرسام الصغير ـ الموسيقى ـ هل تعرف من أنا)، ومجال العلم والفضول المعرفي وطرح الأسئلة والانتماء: (الكتب ـ لغتي ـ نشيد العلم ـ نشيد الوطن- قواعد لغتي الجميلة ـ الغيم ـ الخسوف والكسوف). وعناصر الجذب والإمتاع حاضرة كذلك عبر موسيقى الشعر العربي المتمثلة في اعتماد البحور الخليلية المتعددة: (الرجز والكامل والمتقارب والوافر والمتدارك والبسيط والمديد والرمل والهزج والخفيف) تامة ومجزوءة، والتي تنسجم مع انفعالات وإيقاع الأطفال في اللعب وتسهل استيعابهم للمضامين والأفكار، إضافة إلى رسومات ملونة مرفقة للقصائد2 تنسجم مع مواضيعها، وتضفي عليها الحيوية والحركية، وتثير المتلقي الصغير وتسرح بخياله إلى فضاء الحياة والطبيعة. ولتسهيل القراءة وبدون أخطاء، عمل الشاعر على شكل الأبيات شكلا تاما. إن هذه المؤشرات الخارجية والداخلية السابقة دالة على أن العمل موجه إلى الطفل خصيصا، ومثيرة لرغبته في ولوج عالم الديوان.
يضم الديوان بين دفتي الغلاف ستا وعشرين قصيدة متنوعة المواضيع والمحاور، تجمع بين المتعة والترفيه والمعرفة والخيال والتربية والتعليم والقيم والتثقيف. والجدير بالذكر في بداية التحليل هو أن حضور البعد التعليمي والتوجيهي في الديوان، كغاية من غايات الكتابة للأطفال، يتميز بكونه يأتي في قالب أدبي جمالي وبأساليب غير مباشرة، فالشاعر يستحضر طاقات الطفل في القراءة والتفاعل والاستنتاج، فلا يتعامل معه على أساس أنه صفحة بيضاء يجب ملؤها بما يلزم من الإرشادات والنصائح والقيم، بل يخاطب فيه عقله، ويثير انفعالاته وأحاسيسه ويدعوه إلى استخلاص المقاصد والأبعاد الدلالية والجمالية بنفسه ويترك له القرار في النهاية. في القصيدة الأولى من الديوان: “عائلتي” ومنذ البيت الأول يفتح الشاعر ذهن المتلقي الصغير على صورة شعرية قائمة على التشبيه.عائِلَتي كَالشَّجَرة
أَنْمو بِها كَالثَّمَرة(ص: 8) صور له عائلته كالشجرة، وبوأه مكانة المركز فيها إذ شبهه بالثمرة ينشأ بها وينمو.
وتتشكل هذه الصورة الكبرى من صور جزئية، يتداخل فيها ما هو مادي بما هو معنوي وما هو طبيعي بما هو إنساني: (الماء من حنان، والضوء حب وأمان..)، يفككها الشاعر إلى مجموعة من الخدمات الجليلة التي يقوم بها كل فرد من العائلة (الجدة والأم والأب…) في سبيل رعاية الطفل/ الثمرة. إن الشاعر يوجه الطفل لكي يدرك أنه بالرغم من كونه أصغر فرد في العائلة إلا أنه هو المحور فيها، ويراهن عليه في استخلاص المقاصد المبطنة وراء الصورة: واجباته ومسؤولياته والقيم التي عليه أن يتحلى بها تجاه عائلته ونفسه ومجتمعه.
ويختار خالد شوملي بعناية فائقة متى يمرر للأطفال قيمة أو توجيها، فنجده في قصيدة “المدرّس” لا يغرقهم في النصائح المباشرة عن العمل والجد والاجتهاد والاحترام، وإنما يبين لهم أهمية المدرسة في التحصيل المعرفي وتضحيات الأستاذ في سبيل تعليمهم، ويدعوهم بالموازاة مع ذلك إلى الفرح واللعب والاستمتاع، وهنا يمرر لهم توجيها سديدا في بناء علاقاتهم ببعضهم، يتمثل في الحوار كقيمة إنسانية راقية وحضارية، لتفادي كل التشنجات والعنف، يقول:عِنْدي لَدَيْكُمْ مَطْلَبُ أَنْ تَقْفِزوا أَنْ تَلْعَبواوَحاوِروا إِنْ تَغْضَبوا
مِنْ غَيْرِ ما أَنْ تَضْرِبوا (ص: 11)ويشد انتباه متلقيه الصغار إلى الدور الأساسي للمدرسة في بناء شخصياتهم، فيحثهم على الجد والدراسة ويزرع فيهم الطموح من أجل مستقبل زاهر، ويبين لهم أهميتهم في الحياة وقدرتهم على التحدي، بطريقة غير مباشرة وذلك حين يتراجع صوت الشاعر وأناه إلى الخلف ويفسحان المجال لصوت الأطفال باعتماد ضمير المتكلم (نحن)، يتكلمون بألسنتهم وعقولهم عن واجباتهم وأفكارهم وحماسهم، يقول في قصيدة “المدرّس” على لسان الأطفال:
وَفي الصَّباحِ الْباكِرِ
وَرُغْمَ جَوٍّ ماطِرِنَعودُ نَحْوَ صَفِّنا
شَوْقًا لِدَرْسٍ آخَرِ نَحْنُ الصِّغارَ لا نَهابْ
مِنَ التَّحَدي وَالصِّعابْ في الْأَرْضِ غاصَ جَذْرُنا
وَغُصْنُنا فَوْقَ السَّحابْنَحْنُ لَنا الْمُسْتَقْبَلُ
وَكُلُّ شَيْءٍ أَجْمَلُمُعَطَّراً وَمُزْهِراً
رَبيعُهُ سَيُقْبِلُ(ص:11) ولا يظهر صوت الشاعر إلا حين يستشعر حاجة الأطفال إلى ما يساعدهم على تقوية عضدهم لمواجهة الحياة وما تخبئه لهم من مفاجآت. فيقدم لهم من خبرته وخبرة الكبار في مجالات الحياة، التوجيهات السديدة والحكم اللازمة في الوقت المناسب وباللهجة الجادة، يسعفه في ذلك اعتماد الأسلوب الإنشائي الطلبي (الأمر والنداء والنهي…)، يقول في قصيدة “نشيد العلم”:أَنْشِدْ مَعي يا أَيُّها الْوَلَدُ
مَنْ جَدَّ يَوْمًا إنَّهُ يَجِدُإِنَّ الْحَياةَ مَليئَةٌ دُررًا
سَتَنالُها لَوْ أَنْتَ تجْتَهِدُ
….
(ص: 21)ويقول في قصيدة “الأصدقاء”:تَدومُ الصَّداقَةُ في صِدْقِها
تَزيدُ الصَّراحَةُ مِنْ عُمْقِها (ص: 13) بهذه الأساليب في التعبير عن أفكاره الموجهة للصغار والبعيدة عن التوجيه والتلقين المباشرين المتعاليين، يتطرق الشاعر إلى الكثير من المواضيع والقيم الأخلاقية والجمالية، من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر:تنمية القيم الجمالية في نفوس الأطفال ولفت إحساسهم إلى الاستمتاع بالطبيعة، كما في قصيدة “بستاني” يقول في مطلعها:ما أَحْلى الراحَةَ والمَجْلِسْ
ما بَيْنَ اللَّيْلَكِ وَالنَّرْجِسْفي بُسْتاني الْوَرْدُ الْأَجْمَلْ
ما أَطْرَبَ تَغْريدَ الْبُلْبُلْ(ص: 12)
وترسيخ القيم الأخلاقية لديهم وبناء علاقاتهم الاجتماعية على أسس سليمة، ففي قصيدة “الأصدقاء” (ص: 13) نجد الشاعر يبرز للصغار أهمية الأصدقاء في حياة الفرد، فمعهم وبهم تحلو الحياة ويحلو اللعب والقراءة… وبعد ذلك، ودون التعالي عليهم وبإدخال أناه بينهم (استعمال ضمير المتكلم: نحن)، يمرر لهم مجموعة من القيم في التعامل مع الأصدقاء على رأسها الحب والوفاء والتسامح والحوار وعدم التسرع في إصدار الأحكام عليهم تجنبا لظلمهم وتحقيقا لدوام الصداقة. ويدعوهم إلى تجنب بعض الخصال السلبية كالأنانية والغرور، نجد ذلك في قصيدة “الديك المغرور” بطريقة ماتعة عبر حوار مباشر وطريف بين الديك المغرور والبلبل:
الدّيكُ يَشْعُرُ بِالْكَمالْ
وَجَمالُهُ فَوْقَ الْخَيالْوَيَصيحُ: إِنّي الْأَكْمَلُ
في الْكَوْنِ إِنّي الْأَجْمَلُوَلَدَيَّ ريش كَالْقُزَحْ
آتي إِلَيْكُمْ بِالْفَرَحْ….
(ص 24)
ولم يغفل الشاعر خالد شوملي وهو يتوجه بإبداعه إلى الأطفال، مجالات عشقهم وعالمهم الساحر: الترفيه والاستمتاع باللعب والركض والقفز.. وقد خصص لذلك عددا من القصائد، منها: “مباراة في كرة اليد” (ص: 14)، حيث اللعب داخل فريق والالتزام بقانون اللعبة والتنافس والفرح بالفوز.. وقصائد تجسد ارتباط الأطفال بالحيوانات الأليفة كقصيدة “قطتي الحمراء” (ص: 15)، التي تجسد استمتاع الصغار بمشاغبة القطة واصطيادها للفراشات والفئران.. وقصيدة “الحصان” (ص: 17) التي يصور الشاعر فيها تعلق الطفل بحيوان الحصان، والفرح العارم الذي يملأ قلبه عندما يركبه. وقصيدة “الأرنب” (ص: 28) وقصيدة “القرد” (ص: 32) من القصائد الترفيهية التي تلامس وجدان الطفل بما تتضمنه من عناصر وأفعال يعشقها: الحركات والقفز والركض والعدو والتسلق والحرية والفرح:الْقِرْدُ يَفْعَلُ ما يُريدْ
يوحي لَنا: إِنّي سَعيدْبرَشاقةٍ يَتَسَلَّقُ
بِمُرونَةٍ يَتَعَلَّقُوَالْقَفْزُ أَكْثَرُ ما يُجيدْ(ص: 32) وقد استثمر الشاعر علاقة صداقة الأطفال بالحيوانات، في أن عرض عليهم من خلالها الكثير من القيم والمعلومات العلمية والقصص الطريفة.وفي هذا الإطار، يضع الشاعر بين يدي الأطفال قصيدة “النحل” نموذجا للتفاني في العمل، (يصحو النحل باكرا قصد العمل ـ العمل الجاد المتواصل ـ لا يعرف التعب ـ لا يعرف الكسل ـ لا يشتكي من قهر الحياة ـ يزرع الأمل..) لهذا يجب أن يُحتذى، يقول في آخر القصيدة:هذا مِثالٌ في الْفَناءْ
ما أَعْظَمَ الْمَثَلا
(ص: 29)
ويقدم لهم الشاعر دروسا علمية في مراحل تكون وحياة بعض الحيوانات التي تستهويهم، كالفراشة التي خصص لها قصيدة قائمة، بين لهم فيها مراحل نموها من الشرنقة إلى الاكتمال وإلى أن تخرج إلى الطبيعة بألوانها التي تسحر الكل.
والضفدع، وقد جعله الشاعر يتكلم بلسانه، فخلق بذلك تفاعلا حيا مباشرا بينه وبين الصغار، فتصورهم متحلقين حوله وعيونهم مشدودة إليه وهو يحدثهم عن مراحل حياته، من البداية (البيضة) مرورا بالمرحلة التي يكون فيها شرغوفا بخيشوم وذيل، إلى أن يكبر ويصير له رئتان ولسان طويل يساعده في جلب الأكل، وساقان قويان للقفز إلى الأعلى بشكل أسرع، وصوت يُسمَع، ويخبرهم كذلك أنه يحب الدفء ويكره البرد، فهو يخمل في البرد ويخمد في الصقيع. وخصص الشاعر قصيدة للسلحفاة، التي يحبها الصغار كثيرا وينسجون حولها قصصا طريفة، وصفها بإعجاب ما يشد الأطفال إليها: شكلها وتصميمها البديع وتحملها وسيرها الحثيث الثابت وإصرارها على المضي إلى هدفها، وحدثهم عن رحلة حياتها من مرحلة البيض المدفون في الرمال إلى سفر طويل في البحار، تعود إلى مكانها الأصل بهبة من حنين وإحساس بالأمان فيه، تضع بيضها وتدفنه بعناية في الرمال، وتبتعد من جديد وهي على يقين باليوم الذي يخرج فيه الصغار ويصلون إلى المحيطات. يقول الشاعر في نهاية القصيدة مبديا تعجبه وتساؤله عن رمز حياتها:أَيُّ رَمْزٍ لِلْحَياةِ
في مَسيرِ السُّلْحُفاةِ ؟
(ص: 37)
يزداد الأطفال تعلقا بالحيوانات حين تكون لهم مصدر فرح واستمتاع بقصص طريفة، في هذا الإطار تأتي قصيدة “الديك”، يروي لهم فيها الديك بلسانه حكاية إعجابه بنفسه وتباهيه بها، والتي انتهت مأساويا بذبحه عندما حل الضيوف، يقول:أَنا الدّيكُ أَنا الْأَحْلى
وَبِالتّاجِ أَنا الْأَوْلى….
(ص:31)
وقصيدة “هل تعرف من أنا؟” المشوقة بطريقتها المختلفة في تقديم الحيوان للأطفال، فقد دعاهم الشاعر إلى التعرف عليه بأنفسهم من خلال المواصفات التي قدمها لهم، فتركهم بذلك يستمتعون بتنافسهم وتسابقهم في فك اللغز.
وبعيدا عن عالم الحيوانات، تطرق الشاعر في ديوانه لموضوع المواهب لدى الأطفال، حرصا منه على تعزيز وتحرير الطاقات الكامنة
في دواخلهم، وحثهم على الخلق والإبداع وصقل مواهبهم، فالأطفال يبينون عن هوايات عديدة في سن مبكرة سرعان ما تتراجع إلى أن تختفي مع الكبر، إذ غالبا ما لا تجد اهتماما وتشجيعا من طرف الكبار. وفي هذا الإطار نجد قصيدة: “الرسّام الصّغير” فضاء من جمال حيث الرسم والألوان والإلهام والخيال والفكرة والتشجيع والتقدير من الأم والأخت والأب والزائرين (ما يجب أن يكون)، يقول الشاعر:الْيَومَ سَوْفَ أَرْسُمُ
فَالْوَحْيُ عِنْدي مُلْهِمُالْبَحْرُ يَبْدو مائِجا
وَالْمَوْجُ يَبْدو هائِجاعِشرونَ لَوْنًا في يَدي
تَسيلُ فَوْقَ الْأَسْوَدِوَلَوْحَةٌ تَشَكَّلَتْ
بِصُدْفَةٍ تَجَمَّلَتْ
(ص: 17)
ومن المواضيع التي استأثرت باهتمام الشاعر في ديوانه “أرجوحة فرح”: القراءة، فلا سبيل إلى المعرفة التي يحتاجها الأطفال إلا بالقراءة. لذلك نجد الشاعر يمرر لهم توجيهاته لهذه الغاية في العديد من القصائد، كما أنه خصص لها قصائد قائمة بذاتها كقصيدة: “الكتب” و”نشيد العلم”، يقول:وَاقْرأْ كِتابَ الْعِلْمِ في شَغَفٍ
إِنَّ النَّجاحَ أَساسُهُ الْجَلَدُ
(نشيد العلم ـ ص:21)
وفي قصيدة “الكتب” يبرز الشاعر لمتلقيه الصغار أهمية الكتب وما يمكن أن يستمدوه منها من معارف وعلوم ومتعة بحسب تنوع ما تعرضه عليهم: (الحكايا والصور والقصائد الغنية بالحكم والقيم والمثل..)، يقول:كُتُبي حَكايا مَعْ صُوَرْ
فيها قَصائِدُ مِنْ دُرَرْمِنْها الْغَنِيَّةُ بِالْحِكَمْ
مِنْها الثريّةُ بِالْقِيَمْفيها الْكَثيرُ مِنَ المُثُلْ
مِنْها عَلى ضَرْبِ الْمَثَلْإِنْ كُنْتَ تَرْغَبُ بِالنَّجاحْ
فَعَلَيْكَ دَوْمًا بِالْكِفاحْ(ص: 15) ويصور لهم القراءة ثمرا شهيا يُقطف، ومتعة لا توصف، يحفزهم عليها ويدعوهم إلى اتخاذ الكتاب صديقا، يقول:هَيّا لِنَجْتازَ الصِّعابْ
عَمَلٌ وَعِلْمٌ في الْكِتابْإِذْ أَنَّهُ مِثْلُ الرَّفيقْ
فيهِ أَرى أَوْفى صَديقْ(ص: 16)
ويوجه الشاعر المتلقي الطفل إلى الوعي بأهمية وجوده وانتمائه الخاصين، وتعتبر اللغة إحدى المقومات الأساسية التي تتحقق بها الهوية والخصوصية. وفي هذا الإطار تأتي قصيدة “لغتي” (ص: 19) دعوة ضمنية إلى أن يقوي الطفل علاقته بلغته الأصلية وتكون له منبعا للفكر ومصدرا للاعتزاز والفخر، يدعوه أن ينشأ رافعا رأسه بلغته العربية، واعيا بقيمتها وسحرها ونثرها وشعرها، وهي بمثابة الموطن يسكنها الفرد، تزين الأناشيد، جميلة في حروفها وكتابتها، تسعف في التعبير والتصوير، عميقة وشاسعة، وغنية تحقق طموح الطامحين. كما يسعى الشاعر إلى بث الروح الوطنية في نفوس الأطفال، نجد ذلك في قصيدة “نشيد الوطن” (ص: 23) وهو نشيد خاص ووطن خاص، يتعلق بفلسطين ويقين العودة والارتباط الأبدي بالوطن. هكذا ومن خلال الوقوف على المواضيع الشعرية
في ديوان “أرجوحة فرح”، نخلص إلى أن القصائد تخاطب وجدان الطفل وتلامس ذائقته وذوقه وعالمه الساحر وتستجيب لرغباته وأهوائه واحتياجاته بمضامين ترفيهية ومعرفية مختلفة هادفة وقيم إنسانية راقية مشوقة (المحبة والصدق والتسامح والتعاون والعلم وإنماء حسه بالجمال…)، تساهم في بناء شخصيته على أسس متينة، وتؤهله لمواجهة تحديات الحياة.
وعلى مستوى الخصائص الفنية، تحفل القصائد في ديوان “أرجوحة فرح” بالكثير من المقومات الإبداعية الفنية والجمالية التي اعتمدها الشاعر في التعبير عن أفكاره ومضامينه الشعرية، خاصيتها العامة أنها تستوحي مقوماتها من عالم الأطفال وسحره لغة وتصويرا وإيقاعا.
وتأتي اللغة على رأسها، فالشاعر خالد شوملي واع بخصوصية متلقيه ومدرك لوظائف اللغة في شعر الأطفال، فكان حريصا على أن تحقق لغته الوظيفة التعبيرية والتعليمية والتأثيرية والإقناعية، بحيث تنقل لهم الفكر والمعرفة والأحاسيس، وتغني رصيدهم بالجديد من المفردات والتراكيب، فتتقوى علاقتهم بلغتهم، ويتمكنون منها قراءة وإنتاجا وكشفا لسحرها وجمالها وشساعتها وعمقها. فكانت اللغة الشعرية في ديوان “أرجوحة فرح” لغة خاصة، عمل الشاعر على انتقاء معجم سلس خفيف مرح نافذ إلى عقل ووجدان المتلقي الصغير، غير بعيدة عن فهمه، وغير مستعص على تأويله. ومن خصوصيات لغة الديوان ظاهرة الانزياح التركيبي، وهي ظاهرة أسلوبية تقوم على التقديم والتأخير وإحداث تحولات إسنادية غير مألوفة على المستوى النحوي، كتقديم الفاعل على الفعل أو المفعول به على الفعل والفاعل أو الخبر على المبتدأ أو جواب الشرط على فعل الشرط وغيرها.. ومن وظائفه إغناء اللغة الشعرية وتعميق الدلالات وتوسيع الإمكانات التعبيرية. ومن أمثلة هذه الظاهرة في الديوان: (حياته يكرس ـ نحو البيوت نذهب ـ ربيعه سيقبلُ ـ وحاوروا إن تغضبوا ـ في بستاني الوردُ الأجْمل ـ بحماس نرمي للمرمى…). وهكذا يشد الشاعر انتباه المتلقي الصغير إلى العناصر التي يستهدفها، ويدعوه إلى إعمال العقل بهدف الوصول إلى الدلالات والغايات الكامنة وراء خرق قواعد اللغة المتعارف عليها، ويفتح ذهنه على تقنيات تركيبية جديدة وإمكانات إبداعية في تشكيل اللغة الشعرية للتعبير عن معاني عميقة وخاصة.
لغة الشعر في الديوان أنيقة أناقة فكر صاحبها وصافية صفاء ما تحمله من حب وتعليم وقيم وحكم ومتعة وتسلية وفي الوقت نفسه، هي لغة أدبية ترتقي بذوق المتلقي الطفل وتغني رصيده اللغوي والمعرفي والإبداعي.
وتشكل الصور الشعرية في ديوان “أرجوحة فرح” مكونا أساسيا في التعبير عن الأفكار والمضامين الشعرية. وقد وظفها لغاية تعبيرية أكثر من كونها هدفا في حد ذاته، فأسعفته عناصر البلاغة العربية من مجاز وتشبيه واستعارة، في إيصال أفكاره وتصوراته إلى ذهن متلقيه الصغار والتأثير فيهم وإقناعهم بالمضامين التي تحملها، فكانت الصور مشحونة بالحيوية والحركة والجمال تأخذ عناصرها من عالم الطبيعة والواقع المحيط بالطفل. فقد شبه العائلة في تماسكها بالشجرة ينمو الطفل فيها كالثمرة، الماء من حنان، والضوء حب وأمان ـ والكتاب مثل الرفيق، وهو أوفى صديق ـ وألوان الفرح تنساب ـ والمستقبل ربيعه سيقبل ـ ويميل الغصن من الطرب ـ والتينة في البستان تتنافس مع شجر الرمان ـ والأطفال يلعبون كالفراشات ـ وفريق كرة اليد كالإخوة .. وغيرها من الصور الشعرية التي يحفل بها الديوان والقريبة من وجدان وعالم القارئ الطفل، تحرك خياله وتأخذه إلى فضاء أرحب من اللغة، كقصيدة “مباراة في كرة اليد” لا يمكن أن يتلقى الطفل هذه القصيدة دون الخروج بخياله منها إلى فضاء ملعب كرة اليد حيث الفريقين واللعب والركض والروح الرياضية والتنافس الشريف واللحمة بين الفريق الواحد والتسامح والفوز والفرح.. بهذا يتضح أن الشاعر أولى تشكيل صوره الشعرية عناية كبيرة، بحيث تخلق الدهشة في نفسية الطفل وتستجيب لذائقته الجمالية وتحمله إلى الخيال وإدراك الصور وترسيخها لديه، وتحفزه على إنتاج صور أخرى من خياله وفكره.
ويتعزز الجانب الفني في ديوان “أرجوحة فرح” بالإيقاع الموسيقي، فقد حرص الشاعر خالد شوملي على نظم قصائده على منوال الأوزان العربية القديمة، واختار منها ما ينسجم مع مشاعره وأفكاره ومشاعر الطفل وميولاته وحيويته وذوقه واندفاعه. فللإيقاع دور مهم في تحريك انفعال الطفل وإعداده لاستقبال ما شئنا من الأفكار والتوجيهات والقيم والمعارف… التي يصعب تمريرها له من دون تغليف مبهج ماتع. فقد اختار الشاعر من هذه الأوزان الخليلية الخفيفة منها (الرجز، الكامل، المتقارب الوافر، المتدارك، البسيط، المديد، الرمل، الهزج، الخفيف).
مع هامش من المرونة تمثل في خلق تشكيلات موسيقية جديدة عبر التنويع في القوافي والأرواء وخلق تجانسات صوتية عديدة، هذا على مستوى الإيقاع الخارجي، أما الإيقاع الداخلي فتميز بظاهرتي التكرار بمختلف أنواعه: تكرار الحروف وتكرار الكلمات تطابقيا وترادفيا وتجانسيا، وتكرار الصيغ الصرفية، والتوازي بأنواعه التركيبي والدلالي والصوتي.
أخلص من قراءتي لديوان “أرجوحة فرح”، والتي ليست إلا واحدة من بين قراءات متعددة ينفتح عليها الديوان، إلى أن الشاعر خالد شوملي احتفى بالأطفال احتفاء شعريا كبيرا، بأن جعلهم في صلب اهتمامه وأولاهم عناية خاصة بفهمه لهم أولا والإبداع لهم بعد ذلك بما يناسب سنهم وذكاءهم وأذواقهم… ونجح في كسب تحدي خوض تجربة الكتابة للأطفال، وساهم بديوانه “أرجوحة فرح” مساهمة نوعية وقيمة في أدب الطفل الذي يعرف نقصا كبيرا في الوطن العربي، فأبدع بطريقة تأخذ في اعتبارها خصوصية المتلقي الصغير وحاجاته المعرفية والتربوية والجمالية بأفكار ومواضيع تخاطب عقول الأطفال وتستجيب لميولاتهم واهتماماتهم وتفتح أذهانهم على معارف جديدة وعوالم من الجمال والخلق، وتستهدف الرقي بأذواقهم وتمدهم بالحكم اللازمة لمواجهات تحديات الحياة. ويتميز الديوان من الناحية الفنية بمكونات إبداعية هائلة على مستوى اللغة الشعرية والصورة والإيقاع. فقد عمل الشاعر على تشكيل لوحات فنية تتعالق فيها المعرفة واللغة والخيال والإيقاع مع تلقائية الأطفال وارتباطهم بعالم الطبيعة والحيوانات وانسجامهم معه، فخلق بذلك أجواء من الفرح والمتعة والفائدة.
هامش:
1ـ ديوان “لمن تزرع الورد” (2008) ـ و”معلقة في دخان الكلام” (2012) ـ و “سكر الكلمات” (2013) ـ و”القصيد الذي أسكنه” (2015) ـ و”ضيق منفاك” (2017) ـ و”أنا لا أريد قصائد منفى” (2016)
2ـ أغلب الرسومات بريشة الطفلات: داليا ولينا شوملي وألين.
> بقلم: زهور بن السيد