تدين الصين في صعودها التكنولوجي الملفت الذي جعلها إحدى القوى العالمية المتقدمة في هذا المجال الحيوي، الى مدينة شنتشن التي تحتضن كبريات شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة كمجموعة “هواوي” و”تنسنت” وغيرها من مراكز البحث العلمي والتكنولوجي المرموقة، ما جعل منها أيقونة للنهضة التكنولوجية للتنين الآسيوي.
وأضحت شنتشن، التي تحولت من مجرد قرية صيد صغيرة على الساحل في جنوب البلاد، إلى مدينة تكنولوجية عالمية تضاهي من حيث الشهرة “وادي السليكون” في الولايات المتحدة، البلد الذي يخوض تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب مواجهات شرسة مع الصين على أكثر من واجهة، وضمنها المجال التكنولوجي.
وفي سياق هذه المنافسة المحتدمة بين القوتين التكنولوجيتين، فرضت واشنطن سلسلة من القيود على أنشطة مجموعة “هواوي” داخل التراب الأمريكي، كما شنت حملة دبلوماسية مكثفة لإقناع حلفائها في أوروبا ودول أخرى خارج القارة لاستبعاد عملاق التكنولوجيا الصينية من مشاريع صفقات إحداث شبكات الجيل الخامس التي تقودها “هواوي”.
وراهن القادة الشيوعيون للصين في استراتيجية انفتاحهم على العالم في مرحلة ما بعد الزعيم ماوتسي تونغ، على شنتشنن التي أصبحت أول منطقة اقتصادية خاصة في البلاد قبل 40 عاما، في إطار سياسة “الاصلاح والانفتاح” التي وضعها الرئيس السابق دنغ شياو بينغ (1904-1997)، الذي يعتبر مهندس الانفتاح والتحديث في الصين بعد سنوات الانغلاق التي عاشتها البلاد.
وعلى مدى العقود الأربعة الماضية، تحولت شنتشن من منطقة قاحلة لا يتجاوز عدد سكانها 20 ألف نسمة، إلى مدينة حديثة ذكية نابضة بالحياة والحيوية تقود جهود الصين في مجال الابتكارات والتكنولوجيا المتقدمة باحتضانها لكبريات الشركات الصينية والأجنبية والعديد من الشركات الناشئة، فيما وصل عدد سكانها إلى حوالي 13 مليون نسمة يعشيون في فضاء عصري وحياة رقمية بعد أن أصبحت شنشتن أول مدينة في العالم تشتغل بشبكة الجيل الخامس.
ويوجد في شنتشن ثماني شركات صينية ضمن قائمة “فورتشن” لأفضل 500 شركة على مستوى العالم، بما في ذلك “هواوي” و”تينسنت” عمالقة التكنولوجيا الصينية، و 436 شركة مسجلة في البورصة الصينية، كما أنشأ ما يقارب 300 شركة أجنبية ضمن قائمة “فورتشن 500” مقارها في هذه المدينة.
كما أن أكثر من سبعة آلاف شركة صينية انتقلت إلى العالمية في هذه المدينة، ومنها على سبيل المثال شركات “زي تي إي”، و”بي واي دي”، و”ميندراي”، و”تي سي أل”، و”دي جي”، وشركات أخرى.
وتعكس الأرقام الرسمية القفزة التنموية الملفتة التي حققتها المدينة، حيث ارتفع إجمالي الناتج المحلي بها من 196 مليون يوان (حوالي 29 مليون دولار) في عام 1979 إلى 2,69 تريليون يوان (حوالي 390 مليار دولار) في عام 2019، فيما يحتل الحجم الاقتصادي لشنتشن المرتبة الخامسة بين المدن الآسيوية.
وحسب عمدة مدينة شنتشن، تشن رو قوي، فإن المدينة شهدت نمو إجمالي الناتج المحلي بنسبة 20,7 في المائة في المتوسط سنويا على مدى السنوات الأربعين الماضية، فيما يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 30 ألف دولار أمريكي.
وأشار إلى أن حجم الواردات والصادرات في شنتشن تجاوز 430 مليار دولار، وهو ما يمثل حوالي 10 فى المائة من إجمالي التجارة الخارجية للصين، مقارنة بأقل من 20 مليون دولار قبل أربعة عقود.
وأضاف العمدة أن الشركات الصينية مثل “هواوي” و”تنسنت” و “زي تي إي” و “دي جي آي” تلعب دورا مهما في دفع الابتكار التكنولوجي وتعزيز التحول الصناعي وعملية التحديث في البلاد.
ومن جهته، أبرز ليونغ تشون-يينغ، الرئيس التنفيذي السابق لمنطقة هونغ كونغ، وأحد المشاركين في عام 1977 من موقعه كمهندس، في التخطيط الحضري لشنتشن، أن هذه المدينة قد سجلت تغيرات هائلة منذ أن أصبحت أول منطقة اقتصادية خاصة في البلاد قبل 40 عاما، حيث شهدت “تطورا تاريخيا غير مسبوق، وليس هناك أي مدينة أخرى في أي مكان في العالم لديها مثل هذه السرعة في التطور”.
واعتبر أن شنتشن أصبحت “وادي السيليكون الصيني”، وتعد “محركا” لتطوير منطقة خليج قوانغدونغ-هونغ كونغ-ماكاو الكبرى لتصبح مجموعة مدن نابضة بالحياة من الطراز العالمي، لافتا إلى أن هونغ كونغ لعبت دورا مهما في دعم سياسة الإصلاح والانفتاح للبلاد، ما عاد بفوائد على شنتشن بشكل كبير، لكونها مدينة مجاورة لهونغ كونغ.
وبمناسبة الذكرى الـ40 لتأسيس منطقة شنتشن الاقتصادية الخاصة، نظمت الصين تجمعا احتفاليا حاشدا الأسبوع الماضي، ترأسه شي جين بينغ الرئيس الصيني، والذي أكد خلاله أن شنتشن حققت “قفزات تاريخية” منذ إنشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة، معتبرا أنها تعد “مدينة جديدة تماما بناها الحزب الشيوعي الصيني والشعب الصيني بعد تنفيذ الإصلاح والانفتاح، كما أنها ممارسة ممتازة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية التي بدأت من الصفر”.
وأشار إلى أنه على مدى الـ40 سنة الماضية، سعت شنتشن جاهدة إلى تحرير القوى الإنتاجية وتطويرها، ودفعت بقوة الابتكار العلمي والتكنولوجي، وكانت رائدة في تنفيذ إصلاح النظام الاقتصادي الموجه نحو السوق، وابتكرت أكثر من ألف إجراء إصلاحي.
وتراهن الصين في الوقت الحالي على اضطلاع شنتشن الواقعة في مقاطعة قوانغدونغ، بدور مهم في استراتيجية بناء منطقة خليج قوانغدونغ-هونغ كونغ-ماكاو الكبرى لتعزيز الربط التنموي بين البر الرئيسي الصيني وجزيرتي هونغ كونغ وماكاو، وتسريع بناء السكك الحديدية بين المدن الواقعة في منطقة الخليج الكبرى، وتسهيل تدفق الأفراد والسلع، والنهوض بالإبتكار العلمي والتكنولوجي.
غير أن التداعيات السلبية الناجمة عن تفشي وباء كورونا على الاقتصاد العالمي وعلى تراجع حركة التجارة الإقليمية والدولية تمثل عائقا أمام تنفيذ هذه المخططات الطموحة للقيادة الصينية، وكذا أمام مواصلة مدينة شنتشن ازدهارها التكنولوجي بسبب أيضا القيود التي تفرضها الولايات المتحدة على كبريات شركاتها ك”هواوي”.
<خالد العيموني (و.م .ع )