حلت خلال هذا الأسبوع الذكرى الثالثة والثلاثون لرحيل الفنان المغربي محمد الحياني – ولد سنة 1954 وتوفي يوم 23 أكتوبر 1996 –
هذا الفنان الذي أطربت أغانيه ولا تزال تطرب أجيالا وأجيالا، بالنظر إلى أنها أنتجت وفق شروط الفن الأصيل، القح.
حينما تجتمع الكلمة المعبرة الدالة مع اللحن الأصيل والأداء الراقي، فإن هذا المزيج المتناغم لا يمكن إلا أن ينتج عنه عمل فني يبقى ويدوم، سيما وأنه يتأتى انطلاقا من مبدأ احترام المتلقي وتقديره.
الشاعر من زاويته يؤلف وليس في نيته أن يجني الربح السريع من وراء ذلك، بل من أجل إشباع رغبة ذاتية لها ارتباط بالتعبير عن حالة معينة صادقة بكل ما يحمله الصدق من عمق، والملحن من جهته لا يفكر في الاشتغال على نص شعري ما إلا بعد أن يكون قد اقتنع به تمام الاقتناع، والشيء نفسه بالنسبة للمطرب، حيث يحرص على انتقاء القصائد التي يرغب في أدائها غنائيا.
في صلب هذه المبادئ كان المطرب محمد الحياني يقدم إنتاجه الغنائي الذي يمكن القول كذلك إنه اتسم بنوع من الغزارة، سيما وأنه شمل مختلف المواضيع والقضايا، لقد تغنى بما هو عاطفي بالقدر نفسه الذي تغنى بأغراض أخرى: الاجتماعي ، الديني.. إلى غير ذلك من الأغراض.
لقد كان الراحل محمد الحياني، مطربا متكاملا، على اعتبار أنه لم يكن يعنى فقط بالأداء الغنائي، بل كان شديد الحرص على أن يظهر بمظهر يتناسب مع العرض الغنائي في حد ذاته بكل تلقائية وعفوية. كل ذلك ينم عن احترام المتلقي ومنحه الاعتبار، مما يساهم في خلق نوع من الجاذبية للإصغاء للأداء الغنائي والموسيقي.
كانت للراحل مشاركة في فيلم سينمائي، غير أن مشاركته السينمائية الوحيدة اقتصرت على الغناء اعتبارا لأن هذا الفيلم كان يدخل في خانة الأفلام الموسيقية، يتعلق الأمر بفيلم “دموع الندم” الذي قام بإخراجه الفنان حسن المفتي، وهو بالمناسبة شاعر الغنائي، وقد غنى له الراحل العديد من أشعاره، كما ضم شريط “دموع الندم” مجموعة من أغانيه ذائعة الصيت، من قبيل “وقتاش تغني يا قلبي”.
****
في فترة ازدهار الأغنية المغربية، كان هناك تقليد سائد هو أنه كل مطرب يشكل ثلاثيا، يداوم على العمل معه، وبالنسبة للمطرب محمد الحياني، فقد حقق تراكما غنائيا بالاشتراك مع ملحن بعينه هو حسن القدميري وشاعر بعينه كذلك هو علي الحداني.
ومن بين أبرز الإنتاجات التي خلفوها، نجد أغنية “بارد وسخون يا هوى”، التي أنتجت في بداية السبعينات من القرن الماضي ونالت في ذلك الإبان الجائزة الوطنية الكبرى للأغنية المغربية، وما أدراك ما التنافس على جوائز الغناء في هذه المرحلة بالذات، حيث عباقرة اللحن والغناء في أوج عطائهم.
جاء في مطلع أغنية “بارد سخون يا هوى”:
“بارد و سخون يا هوى
تحاميتو فيا بزوج
انت و اسمر اللون
هوى يا هوى هاذ النار
قوية مجهدة
لا تبطر بعدا بلاتي
نوالف بعدا
خللي اشواقي
مرة تحمى ومرة تهب علي نسمة
ويلا سهرتني بالليل
يجود نهاري بالرحمة”
في هذا المقطع الغنائي يترجم الحبيب ذلك الإحساس الصادق الذي يشعر به تجاه محبوبته، إن شدة شوقه إليها، كان كافيا لكي يجعل اللقاء باعثا على حيرته وخوفه من أن ينقطع الوصال، وبالتالي فقد اتسمت مشاعره بكل ما يحيل على لهيب الحب، لقد تمثلت له هذه العاطفة بمثابة نار لاهبة:
“هوى يا هوى هاذ النار
قوية مجهدة..”
كما جاء في الأغنية.
***
غنى محمد الحياني عن الفرح، للملحن نفسه، ومن أشعار عبد العاطي أمنا، أغنية “وقتاش تغني يا قلبي”، جاء في مطلعها:
وقتاش تغني يا قلبي
إلى ما غنيتي اليوم
أحلى ما عندك يا قلبي
قولوا بين حبابك اليوم
وصب الفرحة فالكيسان
سقي وفرق على الجيران
وكل من شرب يغني
ويقول بقى يا فرح ودوم”
المطرب هنا يخاطب قلبه باعتباره منبع المشاعر الفياضة، ويدعوه إلى أن يستمتع بالحياة وملذاتها، وقد اختار الملحن – وكان مصيبا في اختياره- إيقاعا خفيفا يبعث على الانطلاق ويحفز على الرقص كذلك، باعتباره شكلا من أشكال التعبير عن الفرح.
لقد حفلت الأغنية بتعابير رمزية، من قبيل توظيفه لتعبير من هذا القبيل: “صب الفرحة في الكيسان” تاركا للمتلقي تصور طبيعة هذا الفرح المسكوب في الكؤوس. إن هناك إحساسا لا شعوريا لدى المخاطب بأن هذه اللحظة عصية على القبض ولذلك ينبه إلى الحرص على الإمساك بها، بأي شكل من الأشكال، لا يكتفي بذلك بل يوجه الخطاب إلى هذه اللحظة الفرج ذاتها راجيا إياها إلى البقاء مزيد من الوقت، بل إلى الأبد.
***
غنى المطرب محمد الحياني من لحن فنانين آخرين، من قبيل عبد السلام عامر، في أغنية “راحلة” وهي من أشعار عبد الرفيع جواهري، جاء في هذه الأغنية:
“وأنت قريبة … قريبة أحن إليك
وأظمأ للعطر
للشمس في وجنتيك
وحين تغيبين
يغرق قلبي في دمعاتي ويرحل صبحي
تضيع حياتي ويشحب في أعيني الورد والدالية
وتبكي العصافير والساقية وهذا المساء
وحمرته من لظى وجنتيك
يحادثني الصمت في مقلتيك
ونظرتك الحلوة
الذابلة بأنك عن حينا راحلة”
هناك شكل من أشكال الفقدان يستولي على إحساس المطرب في هذه الأغنية، فقدان كائن يعزه ولا يحتمل رحيله عن محيطه. إنه يسكن في أعماق ذاته، وهو ما جعله يشبهه بالعطر الكامن في الوردة كما في هذا المقطع من الأغنية نفسها:
” فهل يرحل الطيب من ورده
وهل يهرب الغصن من ظله
أحقا كما ترحل شمس هذا المساء؟”
وعلى خلاف الأغنية السالفة، فقد كان إيقاع هذه الأغنية مطبوعا بالبطء المعبر عن حالة من الحزن واليأس، وهو أمر طبيعي على اعتبار أن الأغنية تتغنى بالفراق وما يتركه من أزمة نفسية عميقة.
***
لمحمد الحياني أغنية طريفة، بعنوان “وسادة سريري” وهي من كلمات الطاهر سباطة ولحن عبد العاطي أمنا، على اعتبار أن خطابها موجه بالكامل إلى “الوسادة”.
جاء في مطلعها:
“يا وسادة سريري
خسارة تبقي خالية
لعب بي ومصيري
خسارة لعيونه ظهرتي بالية
أهدى قلبه لغيري
وفضل وسادة ثانية
آش كان يقول لك أفهميني
أنت للي عـارفة أسـراره
باش ما كان خبريني
راني كنحس بناره
ما لك ساكتة قولي لي
يــا وسادة سريري
فين وقــع اختيـاره
أنا خايف يا وسادة”
المطرب لا يجد من يبث إليه شكواه غير هذه القطعة من الأثاث المرتبطة بنومنا وأحلامنا وأرقنا كذلك. وهذا النوع من الأغاني نادر، يحيلنا على أغنية من تراثنا الغنائي، وأقصد بذلك قصيدة الملحون التي تحمل عنوان “الشمعة”.
***
تلك نماذج من الأغاني التي أداها المطرب الراحل محمد الحياني، بإحساسه المرهف، وصوته العميق. لقد كان لديه أسلوبه الخاص في الأداء الغنائي رحمة الله عليه، أسلوب ينسجم مع محتوى الخطاب الذي تحمله الأغنية، أسلوب لا يملك المتلقي إلى أن يقدره ويحترمه.
> بقلم: عبد العالي بركات