“أن تؤلف كتابا، أن يقتنيه غريب، في مدينة غريبة، أن يقرأه ليلا، أن يختلج قلبه لسطر يشبه حياته، ذلك هو مجد الكتابة”.
كانت هذه الكلمات ولادة فخر يوسف إدريس عندما استشعر تحقيقه للمجد في كتاباته آنذاك؛ واليوم بعد 32 سنة أستشعر بل نستشعر جميعا هذا المجد الناطق بالحروف في هذه التحفة الصغيرة البهية الماثلة أمامنا، المجد هنا لم يتحقق لهاجر فحسب- باعتبارها كاتبة المؤلف- بل تحقق لنا أيضا كحشد قراءٍ أتيحت لهم فرصة الغوص في عمق هذا المحيط الهادئ والشرس في نفس الآن.
بدايةً في السياق الهرمي لتقديم مُؤَلَّفٍ ما فإنه طبعا لا يجوز لا لغة ولا اصطلاحا تقديم الكِتابِ قبل كاَتِبه؛ وقبل حديثنا الذي سيطول طبعا عن الكتاب، سأتشرف بأن أتكلم عن مبدعتِه أولاً؛ صديقتنا وأديبتنا الجميلة هاجر أوحسين؛ التي أخذت الكتاب بقوة في مجالين مختلفين؛ مجالها العلمي والأدبي. هاجر قبل كل شيء هي من مواليد مدينة مكناس والتي شرَّفتهاَ أحسن تشريف، هي مهندسة طبوغرافية خريجة معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة. فاعلة وناشطة جمعوية لها تأثيرها الخاص. ثم في مَتمِّ الحرفِ هي قلم حيّ يصدح بصوت عذب عال بين السطور؛ فقد تميزت هاجر بمساهماتها الغنية في عدة مجلات وجرائد إلكترونية وورقية أبرزها كان “بيان اليوم”. صدر للكاتبة بداية “أضغاث أحلام” سنة 2021 والذي كان عبارة عن نقطة انطلاق مسيرتها الأدبية؛ كتاب ضم 50 قصة تتراوح بين القصة القصيرة والقصيرة جدا حاولت من خلالِه الكاتبة أن تؤرخ تجربة اجتماعية مُعاشة ومَلحوظة أيضا. لتليه المجموعة المُحتفى بها اليوم “كواليا” كعملٍ ثانٍ.
لعلّ أول ما يشدُّ أي قارئ كيفما كانت ذائقته لأي جنس أدبي هو العنوان، وعنواننا المميز هنا كما سبق الذِّكر كواليا أو ما يفسر بالكيفيات المحسوسة وهي في الأصل الطرق التي تَتَبدى لنا بها الأشياء والكيفية التي يُنظَرُ بها في حالة الوعي إلى صفات الأشياء المحاطة بنا من منظور ذاتي متفرد طبعا: كالإحساس باللون، الشعور بالألم أو المتعة، أو حتى تذوق طعم ما.
كواليا؛ 23 نصا تتخللهم رسومات بهية الطلعة والطبعة من إبداع الفنان محمد الناطقي، تفاوتوا في الكم دون الكيف، في الاسم دون الأسلوب.
23 نصا كُرِّسوا منذ البداية لروح فقيدةٍ عُرِفَت بنضالها الثقافي المُجاهد والتي تركت من الأَثرِ عَميقَه في نفس كاتبتنا هاجر وفي نفس كل كاتبة كذلك؛ لتأسيسها رابطة كاتبات المغرب ككل.
نصوص أقل ما يمكن أن يُقال عن شاعريتها الجياشة أنها قصائد كُتِبت على بحور الخليل كلها بطريقة عصرية أكثرَ إبداعا ونثرا وتحررا، كلماتٌ وحروفٌ رُصّت لتصف بكل ذاتيةٍ واستثنائيةٍ شعورنا بأن الحياة رغم التعقيد الذي نُحدِثُه في حبلها السلس إلا أنها بكل بساطة بالمَعنَيين السطحي والعميق بسيطة.
هذا العمل هو ملخصٌ لثُلة من الأحاسيس المسطرة، والتي أزالت اللثام عن مزيج خاص بين مكونات لم يكن من السهل التنبؤ بتجانسها، لكنها بفعل الأدب والإبداع تلاقحت واتسقت في قالب متلاحم وأعطت من الأُكلِ ضِعفَه، لتشبع قارئا وقارئة طَلَبا من الورق كِسرةً يسدان بها رمق النهم الذي طال بهما من وراء هذه المفردات كلِها دون جوابٍ شهي واحد متقن!!
في تقديم الكتاب جاءت كلمة الكاتب والزجال المغربي ذ.أحمد لمسيح كالتالي: “ما يجمع نصوص كواليا هي أنها تتطاول بهدوء ورزانة على الحياة المعاندة لجموح الفرد بأحلامه وسدود وأسوار الواقع أمامه… هي إلحاح على القفز على الحواجز بعقل لا بجنون، بل بكواليا”. وبالفعل فنصوص الكتاب لاتغدو كونها محطات متتابعة ومتتالية لقطار يعرف مسار سككه جيدا؛ قطار أهلكته مقطورات الماضي، ففي متاهات الذاكرة الخاصة به يسود صمت شاعري غريب، يسبِقه تيه وفراغ خفيان يغزوان النفس والوجدان قبل الجسد، يَعقُبه خوف مبدد ووحدة فاشلة ربما مُختارة بكل أريحية وحرية، أو ربما هي طلبٌ من مجهولٍ أعطى الأمر كراهيةً دون أي نية سِلم أو سلام. لتعمّ بعدها الفوضى؛ فوضى الذات، فوضى العقل، ثم فوضى القلب، الفوضى التي مهما اختلف شكلها لا تختلف مغادرتها دون أن تَشُلَّ أعصاب الأحاسيس.
– ما دور هذه الذاكرة إذن إن كان عملها الوحيد والأوحد أن تعيق الذات وتمنعها من الرقص على أنغام الحياة المخملية؟
– ما دورها إن لم تهلوس أوهاماً وتنومنا إلهاما ً لتوقظنا بعد ذلك على وقع كلماتٍ لم نعهد لكتابتها وقتا.. كلماتٌ كتبت بمشاعر أوَّلية… كتبت بكواليا…
ختاما بعد أن طال بنا الحديث، قيل في ذات سياقٍ ما أعذب الرشفة الأولى من أي شيء وياا الله كم كانت الرشفة الأولى ـرغم طولهاـ من كواليا أكثر عذوبة.
بقلم: فاطمة الزهراء نعوم
كاتبة وقاصة مغربية