لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المَوْلى جلّ وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المُهمة الجليلة، رجال تغلّغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم همّة ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا خدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المُسلمين المُضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضات الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام على متاع الحياة الدنيا، ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل : “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ….”
> سلسلة من إعداد: معادي أسعد صوالحة
عقبة بن نافع.. ومعركة القيروان
المعركة التي سهلت فتح إفريقيا والجبهة الغربية للمغرب العربي
صور تخيلية لطارق بن زياد ومعركة وادي لكّة
هو عقبة بن نافع الفهري القرشي أحد أبرز قادة الفتح الإسلامي في بلاد المغرب العربي ونشأ في بيئة إسلامية خالصة (ولد في السنة الأولى للهجرة وتوفي سنة 63 بسيدي عقبة بالجزائر)، فبرز اسمه مُبكراً في ساحة القتال وأحداث حركة الفتح الإسلامي التي بدأت تتوسّع بقوة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فتوسم فيه خيراً وشأناً عظيما في حركة الفتح الإسلامي على الجبهة الغربية، وفي هذا يحكي لنا محمد علي قطب (أبطال الفتح الإسلامي) قصة عقبة وفتحه لبلاد المغرب العربي بالقول: “….بعد اشتراك عقبة بن نافع مع والده في الجيش الذي توجه لفتح مصر بقيادة عمرو بن العاص، أخذ عمرو بن الخطاب يتوسّم خيراً في هذا القائد الجديد الذي سيكون له دور كبير ومُؤثر في حركة الفتح الإسلامي على الجبهة الغربية للمغرب العربي، وحصل معها على التقدير والاحترام الشديد حتى كلفه عمرو بن الخطاب بقيادة دورية استطلاعية من الجند لدراسة إمكانية فتح الشمال الإفريقي، وهي مُهمة جليلة لا تُسند إلا للقادة الأكفّاء كوْن سلاح الاستطلاع يُعدّ من أخطر وأهم الأسلحة في الجيش، فعن طريقه تُحدّد طريقة وموعد الهجوم، ويرسم لنا الحدود الفاصلة بين الشجاعة والقوة والذكاء، والحنكة وحسن التصرّف في المواقف الصعبة، وجُلّها خصال توافرت في عقبة بن نافع وأدركها عمر بن الخطاب حتى ولّاه بُرقة بعد فتحها، ثم مصر على الرغم من وجود القادة والصحابة الكبار، وبشكل يَدلُّ على نجاعة هذا البطل الإسلامي الشاب..”.
حملة الفتح الإسلامي بالشمال الإفريقي
ويضيف الكاتب “….فعندما اشتدّت الفتن في بلاد النوبة أرسل عمر عقبة بن نافع لإخمادها وإرجاعها إلى حظيرة الدولة الإسلامية التي سرعان ما أمّن من خلالها عقبة بن نافع الحدود الغربية والجنوبية ضد هجمات الروم وحلفائهم البربر، فقاد عقبة من جديد كتيبة قتالية على أعلى مستوى للتصدي لأي هجوم مُباغت على المُسلمين ليضحى بذلك قائدا لحامية برقة نائياً نفسه عن أحداث الفتنة التي وقعت بين المُسلمين خلال عهدي عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، جاعلا شغله الشاغل الجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام بين قبائل البربر وأراضي الروم، ولمّا أصبح معاوية رضي الله عنه خليفة للمسلمين قام بإرسال عقبة بن نافع بحملة جهادية قوية لمواصلة الفتح الإسلامي في الشمال الإفريقي التي خلعت بلادها طاعة المُسلمين بعد اشتعال الفتنة بينهم خاصة قبائل (ودان) و(إفريقيا) و(جرمة) و(قصورخاوار)، فانطلق المُحارب الشاب على هذه القرى الغادر أهلها يَدبّهم دبّا، فقطع أذن ملك (ودان) وإصبع ملك (قصورخاوارا) حتى لا تسوّل لهم أنفسهم مُحاربة المُسلمين مرة أخرى، مُسيطراً على المنطقة المُمتدة من حدود مصر الغربية حتى بلاد إفريقيا تونس، مُتغلغلاً بالصحراء الجنوبية بقوات خفيفة لشن حرب عصابات خاطفة على أرضها الواسعة ضد القوات الرومية النظامية التي لا تستطيع مُجاراة المُسلمين في حروب الصاعقة الصحراوية، حتى أخضع لسيطرته العديد من الجيوب البربرية المتناثرة هنا وهناك..”.
بناء مدينة القيروان
بعد أن اشتدّت قبضتة على بلاد الشمال الإفريقي، قرّر عقبة بن نافع بناء مدينة القيروان في القرن الشمالي لإفريقيا في مكان تتوفر فيه شروط الأمن الدعوّي والحركي للمُسلمين لتكون دار عزّة ومنعة وقاعدة حربية أمامية في القتال ومَنارة دعوية علمية لنشر الإسلام، لتنطبق تلك الشروط على إحدى مناطق الأحراش المليئة بالوحوش والحيّات فقال له رجاله “…إنك أمرتنا بالبناء في شعاب وغياض لا تُرام، ونحن نخاف السباع والحيّات وغير ذلك من دواب الأرض”، فجمعهم وقال لهم “.. إني داع فأمّنوا، وبالفعل دعا عقبة بن نافع ربه طويلا والصحابة والناس يؤمنون ثم قال عقبة مُخاطبا سكان المكان والوادي “… أيتها الحيّات والسباع، نحن أصحاب الرسول (صلعم) فارتحلوا عنا فإنّا نازلون، ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه…”، فخرجت الأسباع من الأحراش تحمل أشبالها والحيّات تحمل أولادها والذئاب تحمل جراءها في مشهد لا يرى مثله في التاريخ، فنادى عقبة في الناس قائلا: كفّوا عنهم حتى يرحلوا عنا، لتبدأ عمليات تشييد مدينة القيروان قرابة الخمس سنوات حتى أصبحت درّة المَغرب العربي بعد تشييّد جامع كبير بها، حتى أصبحت منارة العلم وقبلة طلاب الشريعة من كل مكان وملتقى للدعاة والعلماء والمُجاهدين، وأصبح جامع القيروان أول جامعة إسلامية على مستوى العالم الإسلامي قبل الأزهر بعدّة قرون.
فتح مدينة طنجة
بعد أن انتهى عقبة بن نافع من تشييد مدينته الجديدة، امتثل للأمر الخليفي بالتنحّي عن ولايته للقيروان (لأبو المهاجر دينار)، ليعود إلى صفوف الجيش الإسلامي ويقود الحملة الجديدة لفتح بلاد المغرب العربي التي بدأت بفتح مدينة طنجة (آخر محطات الفتح أيام أبو المهاجر دينار)، ثم فتح مدينة (باغاية)، ثم نزل بتلمسان أكبر مدن المغرب الأوسط التي يتواجد بها جيش ضخم من الروم وكفار البربر وأجبر فيها الأعداء إلى التراجع حتى منطقة الزاب، فسأل عقبة أصحابه عن أعظم مدينة في (الزاب)، فقالوا له هي (أربة) دار ملكهم التي يوجد حولها ثلاثمائة وستون قرية عامرة، فشدّ عقبة الرحيل ففتحها واحدة تلو الأخرى حتى فرّت القبائل الرومانية بعد فشل نداءات الإغاثة لقبائل البربر الوثنية ليقوم في جيشه خطيبا بارعا بعبارت فائقة قائلا “…. أيها الناس، إن أشرفكم وأخيركم الذين رضي الله تعالى عنهم وأنزل فيهم كتابه وبايعوا رسول الله (صلعم) بيعة الرضوان على قتال من كفر بالله إلى يوم القيامة، وهم أشرفكم والسابقون منكم إلى البيعة وباعوا أنفسهم من رب العالمين بجنّته بيعة رابحة، وأنتم اليوم في دار غربة وإنما بايعتهم رب العالمين، وقد نظر إليكم في مكانكم هذا ولم تبلغوا هذه البلاد إلا طلباً لرضاه وإعزازا لدينه، فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله عز وجل قد جعل وجل بأسه على القوم المجرمين….”
أنا أغتنم الشهادة
بتلك الفتوحات الجديدة في الشمال الإفريقي حقق القائد عقبة بن نافع غايته من حركة الفتح الإسلامي وقرّر العودة إلى القيروان، فلمّا وصل إلى طنجة أذن لمن معه من الصحابة أن يتقدموا ويتفرّقوا ويدخلوا القيروان أفواجا منفصلة ثقة منه بما نال من عدوّه، ومال عقبة ومن تبقى من الجيش (ثلاثمائة جندي) إلى مدينة (تهوذه)، ولما رآه الروم في قلّته من أصحابه طمعوا به مُستغلين قلة جنوده واتفقوا على الغدر به جامعين جيشاً من قبائل البربر على رأسهم (كسيلة مكنون) الذي يعتمر صدره بالكفر والغدر والحسد ضد عقبة بن نافع، وعندما وقفت الجيوش متقابلة، قال عقبة (لكسيلة مكون): أنا أغتنم الشهادة..!!، وقال من ورائه أبو المهاجر دينار: وأنا أيضا أريد الشهادة، حتى تقاتل الطرفان ونال عقبة الشهادة بعد أن استبسل بقتاله على أرض (الزاب) بتهوذه سنة 63 للهجرة، وبقي بذلك مثالاً في العبادة والأخلاق والورع والشجاعة والحزم والعقلية العسكرية الفذّة، والقدرة الفائقة على القيادة بورع وإيمان وتقوى وتوكل تام على الله عز وجل فأحبّه رجاله وأحبّه أمراء المؤمنين، وكان مُستجاب الدعوة، مَيمون النقيبة، مُظفر الراية، فلم يهزم في معركة قط، وطبّق في حروبه أحدث الأساليب العسكرية الجديدة في تكتيكات القتال مثل مبدأ المباغتة وتحشيد القوات وإقامة الحاميات وتأمين خطوط المواصلات واستخدام سلاح الاستطلاع، ونستطيع أن نقول بمنتهى الحيادية أن البطل عقبة بن نافع قد حقق أعمالاً عسكرية باهرة بلغت حدّ الروعة والكمال، وأنجز في وقت قليل ما لا يصدقه عقل عند دراسته من الناحية العسكرية البحتة، وترك باستشهاده أثراً كبيراً في نفوس البربر وأصبح من يومها يلقّب بـ (سيدي عقبة).