لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المَوْلى جلّ وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المُهمة الجليلة، رجال تغلّغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم همّة ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا خدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المُسلمين المُضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضات الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام على متاع الحياة الدنيا، ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل : “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ….”
الحلقة 19
سلسلة من إعداد: معادي أسعد صوالحة
عبد الرحمن الغافقي.. ومعركة بلاط الشهداء
المعركة الأخيرة التي خاضها المسلمون لفتح فرنسا
صور تخيلية لطارق بن زياد
ومعركة وادي لكّةبعد أن استولى المُسلمون على إسبانيا ووَطدّوا حكمهم فيها، عبروا جبال البرانس وبدؤوا في غزو الأراضي الإفرنجية (فرنسا في الوقت الحاضر) على يد السمح إبن مالك الخولاني الذي تم على يده غزو مدن منطقة (سبتمانيا اربونة، وبيزارس، وأجده، ولوديفه، وماغيولون، ونييمس)، وعندما عاد إلى الأندلس أخذ يَحشر جيشاً جديدا ليحاصر به مدينة تولوز (يقال إنه جمع أكثر من 100 ألف جندي من الفرسان والمُشاة) التي سرعان ما قام بحصارها طويلا حتى كاد أهلها أن يَستسلموا لولا أن الدوق (اودو) دوق اقطانيا باغته بإرسال جيش جرار لتدور معركة عرفت في التاريخ باسم (معركة تولوز) قاوم فيها المسلمين حتى قتل قائدهم السمح بن مالك واضطرت بعدها الجيوش للانسحاب لقاعدتهم في بلاد الإفرنج وتحديدا بمدينة اربونة في التاسع من يونيو من العام 721 للميلاد، وفي ذلك الوقت كان السمح إبن مالك هو والي الأمويين في بلاد الأندلس، وبعد وفاته قام الأندلسيون بتعيين (عنبسه بن سحيم الكلبي) كوالي للأندلس الذي قام باستكمال ما بدأ به السمع إبن مالك، فتوغل كثيرا في الأراضي الفرنسية حتى بلغ مدينة (اوتون) في شرق فرنسا، ولدى عودته إلى الأندلس فاجأته قوات الفرنجة فأصيب إصابة بليغة لم يلبث أن مات على أثرها في ديسمبر725 ميلادية، ليجيء من بعده أربعة ولاة للأندلس (لم يحكم أغلبهم أكثر من ثلاثة سنوات)، حتى عيّن عبد الرحمن الغافقي والياً عليها في العام 730 ميلادية.
إخماد الثورات
بدأ عبد الرحمن الغافقي (عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر الغافقي الذي ينتمي إلى قبيلة “عك” اليمنية، وأمير الأندلس بعد فتحها في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك) ولايته بإخماد الثورات فيها وتحسين وضع البلاد الأمني والثقافي، وفي تلك الأثناء كانت بوادر الفتنة قد بدأت تظهر من جديد بعد ورود أنباء بتحالف حاكم إقليم (كاتالونيا) المُسلم عثمان بن نيساء مع (الدوق اودو) نتيجة لعقد صلح بينهما يلتزم فيه عثمان بوقف الزحف الإسلامي على بلاد الإفرنج، في مقابل أن يلتزم (اودو) بتأمين حدوده الجنوبية أمام (تشارلز مارتل) الذي يريد القضاء على الوجود الإسلامي في تلك المنطقة، فتحمّس عبد الرحمن الغافقي لتلك الفكرة (في بداية الأمر فقط بغية تنظيم جيش المُسلمين من جديد) التي قام بها عثمان بن نيساء رغم تخوفه وتوجسه من ذلك الصلح، لكنه سرعان ما أعلن الحرب عليه بصفته خائنا بعد أن أعلن استقلال إقليم كاتالونيا عن الدولة الأموية، فسارع بتجهيز الجيش وطار به إلى مدينة البردال (بوردو في الوقت الحاضر) فغزاها المُسلمون وقتلوا من الجيش ما قتلوا، حتى قال المؤرخ (اسيدورس باسينيز) في تلك الواقعة “….إن الله وحده يعرف عدد القتلى !!.”.
بلاط الشهداء
بعد هزيمة (اودو) وجد تشارلز مارتيل بأن الوضع في البلاد قد أضحى مُناسباً لإخضاع الأقاليم الجنوبية (التي كان يسيطر عليها اودو) وطالما استعّصت عليه لحكمه، لكن العقبة الوحيدة الآن هو جيش المُسلمين المُرابط هناك بقيادة عبد الرحمن الغافقي الذي انتهى جيشه للتو من زحفه إلى السهل المُمتد بين مدينتي (بواتييه) و(تور) بعد أن استولى على المدينتين، أما جيش (تشارلز مارتل) فقد انتهى إلى نهر (اللوار)ُ دون أن ينتبه المسلمون بقدوم طلائعه، وحين أراد الغافقي أن يقتحم نهر اللوار لمُلاقاة خصمه تشارلز على ضفة النهر اليُمنى فاجئه مارتل بقواته الجرارة التي تفوق جيش المسلمين، فاضطر معها عبد الرحمن الغافقي إلى الرجوع والارتداد إلى السهل الواقع بين بواتييه وتور(بلاط الشهداء كما أطلق عليها) وهو ما كان يريده تشارلز وجيشه، وفي هذا يروي لنا الكاتب حسين مؤنس (فتح الأندلس) واصفا لنا تلك المعركة بالقول “….بدأت المناوشات بين الجيشين وكأنها حرب للاستنزاف، أي أن من يَصمد أكثر من الطرفين ينتصر حتى استمر هذا الحال من ستة إلى تسعة أيام (هناك اختلاف بين المؤرخين في تحديد مدة المعركة)، وفي اليوم الأخير قامت معركة قوية بين الطرفين ولاح النصر للمُسلمين سميت حينئذ ببلاط الشهداء (معركة بواتييه أو معركة تورز كما يسميها الفرنسيون)، لكن مارتل رأى شدّة حرص المسلمين على جمع الغنائم فأمر بعض أفراد جيشه بالتوجه لمُخيم المُسلمين والإغارة عليه وسلب الغنائم، فارتدت فرقة كبيرة من قلب المعركة لردّ الهجوم المُباغت وحماية الغنائم، فاضطربت صفوف المُسلمين واستطاع الإفرنج النفاذ لقلب الجيش الإسلامي، فثبت عبد الرحمن الغافقي مع قلة من جيشه وحاولا الهجوم بلا جدوى، ليتقلى الشهادة (114 هجرية/732 ميلادية) ويزداد اضطراب المُسلمين في انتظار نزول الليل حتى انسحبوا إلى قاعدتهم (اربونة) قرب جبال الأندلس، وتوقفت مع هذه المعركة آخر الفتوحات الإسلامية في أوروبا الغربية..”.
الحقيقة والتاريخ
ويضيف الكاتب وهو يسرد لنا حالة اللُبسْ الكبيرة في تحديد يوم المعركة وعدد الجند فيها وأسباب الهزيمة بالقول “….لم تُجمع الكتب والمراجع العربية الإسلامية على تحديد عدد القوات المُشاركة من الطرفين، لكن ما هو مُؤكد فيها هو انتصار قوات الفرنجة التي أوقفت المدّ الإسلامي في أوروبا بعد أن كاد قاب قوسين أو أدني من احتلال فرنسا كاملة ويُخضعها للحكم الإسلامي، بل أن هذه المَعركة أسهمت بشكل كبير في هيمنة الفرنجة على أوروبا في القرن التالي وما شكّله ذلك من تحديدها لمصير القارة، ويبقى بالتالي لمعركة بلاط الشهداء ظرف خاص لسنا نجده في الكثير من المواقع، ذلك أن المصادر الإسلامية تَصْمُت تمامًا عن ذكر تفاصيل هذه المَعركة، وهذا في حقيقة الأمر من العَجائب التي لا نعرف لها تفسيرًا بعدُ، فإمَّا أن ما كُتب عن المَعركة ما زال مفقودًا في بطون المَخطوطات غير المنشورة، ينتظر لحظة النور وهنا تنسجم الأمور، فالمُسلمون لم يتوقَّفُوا في التأريخ لهزيمة مهما كانت قاسية لا في الأندلس ولا في غير الأندلس، لا في القديم ولا في الحديث منذ غزو أُحُد وغزوة حُنّين وحتى سقوط غَرْنَاطة أو الهزائم الكبرى التي قبلها كالعِقَاب مثلاً، ولعلّ كثير من الروْاة يُرجعون سبب الهزيمة التي تلقاها المُسلمون رغم استبسالهم في هذه المَعركة هو انزواؤهم إلى الغنائم واهمالهم للقتال والدفاع، فقد جمعت هذه المعركة من الغنائم الكثير الذي زاد وثَقُلَ في أيدي المجاهدين، وهنا بدأ المُحاربون ينظرون إلى هذه الغنائم، ويُفتَنُون بهذه الأموال الضخمة التي حصَّلوها، إضافة إلى تجدّد العَصَبْيّاتْ التي كانت قد اندحرت في بلاد الأندلس بين العرب والأمازيغ (البربر) من جديد بسبب كثرة الغنائم واختلافهم في طرق توزيعها رغم أنه أمر معروف ومُتَّفق عليه، وأخذ كلٌّ ينظر إلى ما بيد الآخر؛ فيقول العرب: إنهم أحقُّ لأفضليتهم، ويقول الأمازيغ البربر: نحن الذين فتحنا البلاد، حتى نسى الجميع أن الفاتحين الأوائل ما فرَّقوا قطُّ بين عربٍ وأمازيغ بربر، بل ما فرَّقوا بينهم وبين مَنْ دخل الإسلام من الأندلسيين بعد ذلك، كل ذلك يضاف إليه (حسب ما يرويه الكاتب) حالة الزهو والاغترار بالكثرة والعدد الضخم لدى المُسلمين، فخمسون ألفًا من المُجاهدين عدد لم يُسبَقْ في تاريخ الأندلس، فأخذتهم العزَّة، وظنُّوا أنهم لن يُغلَبوا بسبب كثرتهم هذه، لا سيما وأنهم اكتسحوا الجنوب والوسط الفرنسي ولم تقف لهم قوَّة ذات بال أبدا، وإن لم يكن ما كُتب عن المَعركة مفقودًا، وكان الُمسلمون قد توقَّفُوا في الحديث عنه لسبب ما، فإننا لا نجد في هذه اللحظة إلاَّ أن نسير مع من اجتهدوا في معرفة السبب، وبالتالي لن أجد ما أقول سوى أن الواقع يشير إلى كون المسألة لا تُعَلَّل إلاَّ بشيء واحد: هو أن هزيمة المُسلمين كانت من الشدَّة بحيث كان أوائل الرواة ينفرون حتى من مجرَّد ذكرها من فرط الألم والتشاؤم، فاندرجت في مدارج النسيان، وتعاقبت عليها الأعصر فلم يبقَ في ذاكرة الرواة منها شيء إلاَّ أن أهل الإسلام قد هزموا في هذه الناحية هزيمة مروعة بين سنتي 114هجرية/ 732 ميلادية.