يأتي كتاب “سردية التاريخ: كتابات في اللغة والصورة والحداثة” الصادر في الأردن في 356 صفحة، تضم في ثناياها فهرساً ومقدمة للكتاب و49 مقالة دراسة تُدرج ضمن دائرة النقد الفنّي، وهي متعددة في موضوعاتها ومختلفة في وجهات نظرها، كل ذلك عبر قراءات وتأمّلات في تجارب أدبية وفنية. فالناقد في عنونته لكتابه بـ “سردية التاريخ” يحيل القارئ من العتبة الأولى إلى الالتقاء مع النص إلى أنْ يتوقع القارئ أنْ يجد في هذا الكتاب الاشتغال على ثنائية السرد والتاريخ، باعتبار مادة التاريخ هي السرد. لكنّه كتاب يختوي على كتابات نوعية في اللغة والصورة والحداثة كعنوان فرعي جاء بعد عنوانه الرئيسي، يجعلنا ندرك ما فيه من تعدد لمسائل النقد الفني التي جاءت في سياق مقالات متنوعة، معتمداً على رؤية خاصة ودراسات متعددة ووجهات نظر مختلفة، لا تنفصل عن الحقل النقدي، فكانت المقدمة التي كتبها الناقد خير دليل على تلك الرؤية التي شكلها العنوان للقارئ، إذْ يؤكد من اللحظة الأولى أننا إزاء كتاب يناقش ويقارب جملة من التجارب التشكيلية والروائية والسينمائية التي اشتغلت على مفهوم التاريخ. وذلك من أجل تقييم مفهوم الحداثة والنظر في الثقافة العربية المعاصرة في كليتها وفي بعدها المركّب من خلال المزج بين الشفهي والبصري.
إن الناقد أشرف الحساني عالج موضوع ارتباط الفن بسائر جوانب النشاط الإنساني وبدا في بعض المواضع، ميالاً إلى النظرة الشاملة المتكاملة إلى الفنّ. ولكن الميل الغالب عليه هو تأكيد أهمية النظرة الخالصة للفن، أيْ تأمّل العمل الفني لأجله فحسب.
يرى أشرف الحساني أن الفنان أصبح في العصر الحديث واحداً ممن يؤدون حرفة يحددها المجتمع ويتحكم في شروطها، بل أصبح ينتج كلّما أحس بالرغبة في الإنتاج ويمارس نشاطه لإرضاء ذاته. وهذا لا يدل على الإطلاق أن الفنان أصبح منعزلاً عن المجتمع، بل إن هذه التلقائية التي أصبح الفنان يمارس بها عمله، هي ذاتها التي زادته ارتباطاً بالمجتمع في كثير من الأحيان. فمثلاً حينما كان الفنان أداة في يد السلطة لم يكن يستطيع أن يشارك في قضايا مجتمعه مشاركة واعية، أي اندماجه كان في هذه الحالة خارجياً أو آلياً فحسب، وهذا ما جاء به الناقد، فقد أدى اكتمال شخصيته إلى توثيق الروابط بينه وبين القضايا الإنسانية لمجتمعه لا فصم هذه الروابط. فعلى سبيل المثال نذكر المقال الذي جاء في القسم الأوّل حول محمود درويش والجرح الفلسطيني. فمحمود درويش استطاع أن يخط لنفسه مكانة متميزة مكسرا القواعد والرؤى والتصورات التي قام عليها الشعر العربي الكلاسيكي، فاتحاً له آفاقاً شعرية وجمالية متفردة تنطلق من خصوصيات عربية بل ولها ارتباط وثيق بالقضية الفلسطينية، محاولاً من خلال ذلك أن يخرجها من الطابع الإيديولوجي الذي ميّز بعض التجارب العربية. والاتجاه بنصه الشعري صوب البعد الجمالي، فأصبح الشرط الجمالي هو ما يؤسس النصّ الشعري وليس السياسي الإيديولوجي.
أما في القسم الذي خصصه لـ “السينما وتحرير الفكر” فيقارب من خلال مقالته حول جماليات القبح في السينما نوعاً من التفكير المغاير، حيث يخلق نوعاً من اللبس وذلك التداخل الحاصل في دلالات المفاهيم، خاصّة ما يتعلّق بالجمال، فكما يبدو نوع من التناقض كذلك حين نجد الجمال ضد القبح في اللغة، في حين أن الباحثين يتحدثون عن إمكانية وجود الجمال في القبح، وهذا ما حاول الناقد أن يرصده في هذا المقال في إطار البحث عن ما يسمى بجماليات القبح في السينما.
لقد قارب الناقد أشرف الحساني القبح من خلال أفلام المخرج الأمريكي جيمس كونت كنموذج لاستحضار مختلف أوجه القبح في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، بما عرفته هذه المرحلة الحرجة من ارتجاجات وشروخ داخل كيان النظام العالمي بين الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفياتي والكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وما شهدته هذه السنوات من اختلاف في حدة هذه المواجهة بين الطرفين خلال الحرب الباردة والتعايش السلمي الذي سيفضي في النهاية إلى انهيار المعسكر الشرقي وبزوغ بوادر نظام عالمي جديد يقوم بتدخل هيئة الأمم المتحدة لحل نزاعات العالم. فداخل هذا السياق التاريخي بالضبط المضرج بالدم والألم والخيانة داخل ألمانيا نجد أن القبح تحول إلى عنصر مثير يغري بمشاهدة العمل. أيضاً وقف الناقد عند القبح داخل صورة، باعتباره يشتغل داخل صورة فنية تهدف إلى تهديم صيغ وطرق توليف مفهوم الجمال داخل السينما.
إن منجز أشرف الحساني يقترح علينا ضرورة الدخول في نقاشات متعددة حول أعمال فنية وأدبية مختلفة من خلال تناوله في كل مقال، فيعرضها ويُناقشها وينتقدها ويقدم إمكاناتها الفنية والجمالية على شكل دراسة شاملة تجمع منحنيات متنوعة بين دفتي الكتاب، وتسمح للقارئ لتلك المقالات التي تشترك في منبعها فيقرأها ويتعرّف على ما ورد فيها ويُوسّع مداركه.
إنّ قراءة وتحليل الأعمال الفنية عند أشرف الحساني، ترتكز على خطاب نقدي صعب ومركّب ومعقّد، إذْ أصبح النقد الفني قراءة مركبة تعتمد على الفكر والخيال وعلى الثقافة والمعرفة، ثم على الموقف الخاص للكاتب. وليس سهلاً الاعتماد على واحد من هذه الآليات فقط لتسمية قراءة النصّ الفني قراءة نقدية. والنقد الفني لا يعتمد على دراسة الواقعة الجمالية على الذائقة والمشاعر واللذة فحسب، بل لا بد، في نظر أشرف الحساني، أن يعتمد على حكم موضوعي مؤسس على معرفة بتاريخ الفكر الإنساني من أجل تحديد قيمته الجمالية، كما يذهب إلى ذلك شارل لالو الذي يرى أن “تذوق عمل فني هو إدراك لقيمته في حياة الإنسان”.
< بقلم: سهيلة آيت لحسن