“أشياء ضائعة بذاكرة أسفي الرائعة” للكاتبة المغربية ربيعة بوزناد

عديدة هي الكتابات عن المدن، وذلك من خلال الكتابة الروائية، أو من خلال أدب الرحلات، بحيث تجعلك هذه الكتابات تسبح في عوالم تلك المدن، وتجوب أحياءها وشوارعها وتتعرف على عمرانها وعادات وتقاليد أهلها وساكنيها، كون الكاتب هنا لا يتحدث من فراغ بل من معطيات عاشها، معطيات مازالت مختزلة في ذاكرته، ولو أنه أحيانا لا يتم تسمية المكان باسمه الحقيقي بل يفترض له اسما بديلا، مع أن خصوصية ذاك المكان تفضحه أحيانا. ولعل من أبرز من خاضوا في الكتابة عن المدن نجد الكاتبين الفرنسيين هنري بلزاك و إميل زولا من خلال “سيرة مدينة باريس” والايرلندي البريطاني لورانس داريل الذي كتب بإسهاب عن مدينة الاسكندرية بمصر، والأمريكي بول أوستر الذي أسهب في وصف مدينته نيويورك، وعن الكتاب العرب جبرا ابراهيم جبرا وعبد الغني محمود ومحمد شكري من خلال كتاباتهم الروائية التي رصدت بشكل كبير مدينة طنجة المغربية، وغسان كنفاني من خلال مدينة “حيفا “، يقول الروائي المغربي محمود عبد الغني إن الكتابة عن مدن بلاده يعتبر واجبا أخلاقيا بعد أن تناولها الأجانب بسطحية، في حين أن الكتابة عن المدينة تتطلب العيش فيها ومعرفة عادات ساكنتها ولهجاتهم وطباعهم. وهنا نستحضر الكاتبة الجزائرية لويزة ناظور التي كتبت كتابا حول مدينة فاس بكل دقة رغم أنها لم تزرها وإنما اعتمدت على كتب تاريخية، في حين نجد الكاتب العراقي فاضل الربيعي قد تناول في كتاباته الحديث عن مدينة القنيطرة بعد أن أقام فيها وزارها لعدة مرات، لكن أن تكون ابنة مدينة نشأت فيها وترعرعت بين دروبها وأزقتها وخالطت شيوخها قبل شبابها وأطفالها، فذاك أمر مخالف تماما عندما تكتب عن تلك المدينة، وهو ما سنتعرف عليه من خلال قراءتنا لكتاب تم إصداره سنة 2019 عن منشورات جامعة المبدعين المغاربة للكاتبة ربيعة بزناد، الموسوم بـ ” أشياء ضائعة بذاكرة أسفي الرائعة” و الذي يضم ستة وعشرين عنوانا، في حلة رائعة وبغلاف تتوسطه لوحة فوتوغرافية التقطتها عدسة الكاتبة نفسها، صورة تحمل في مستويات مساحاتها الخفية دلالات تحتاج من المتلقي أن يقف متأملا لها محاولا فك رموزها، التي تحيلنا إلى ما تخفيه وراءها من تداعيات إنسانية ودموع محبوسة، إنها صورة تجسد لموروث عمراني بالمدن القديمة بالمغرب ومنها مدينة آسفي، إنها ” الصابا ” وهي عبارة عن ممرات مغطاة تربط بين واجهتي الدرب أو الزنقة تقوم بوظيفة تلطيف الجو والتخفيف من درجات الحرارة كما أنها تتحول لفضاء حميمي للرجال مساء، ولإعداد خيوط النسيج أو لتنقية الحبوب للنساء، أو للعب الأطفال، وقد تكون أيضا فضاء للقاء العاشقين، فهي إذن دلالة ورمز على الحب و العشق و الخير و العطاء و التسامح و التضامن و التآزر.
“أشياء ضائعة بذاكرة أسفي الرائعة” عنوان حاولت من خلاله الكاتبة ربيعة بوزناد أن تعكس لنا ما يختلج نفسيتها من حسرة وأسى على حال مدينة نشأت بها وترعرعت بين أحضانها، عنوان يبرز مدى التعلق والانتماء للمكان، عنوان بمثابة مساحة دلالية و تجميع مكثف لدلالات العناوين الفرعية التي يضمها الكتاب، وبالتالي يمكن أن ندرجه ضمن العناوين المستفزة التي استطاعت المرأة أن تبوح و تعلن عن تمردها و صراعها الداخلي الذي يكتنز رؤية اللامبالاة و الحكرة و … اتجاه مدينتها ” آسفي ” و التي خصتها دون غيرها بإهداء هذا الكتاب، واصفة إياها بأم القيم والحالمين الطيبين. “أشياء ضائعة بذاكرة أسفي الرائعة ” هو عبارة عن مقالات اجتماعية كتبت على حد الكاتبة في أزمنة متفرقة تقتفي في نهجها أثر ما ضاع من ذاكرة مدينة آسفي والتي تعتبرها جزءا من تراثنا وثقافتنا وأصالتنا العريقة. مقالات مشحونة بمرارة وخيبات أمل، داعية في نفس الوقت إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه و العودة لعالم المجد والطمأنينة والفرح الذي كان سائدا في زمن – كان – ” أي تخطيط وتصور وإبداع عبقري وفرناه لهذه المدينة منذ سنوات إلى الآن ؟ .. ” ص: 27 “نطالب أن يرفع هذا الضرر عن المدينة الأسيرة لتحرر أجواؤها من هذا الغول المفزع الأسود .. ” ص: 56، وذلك وفق رؤيا متماسكة دون انفعال، معتمدة على أسلوب مبسط مفعم بالأدبية، إنه أسلوب المقالة الذي يمكن أن يندرج ضمن الكتابة الصحفية لا من حيث الشكل أو من حيث المضمون، إلى جانب العناوين اللافتة التي تسمو فيها الروح الأدبية، ” الحارة الشعبية- البحر- بهجة العيد – الحكاية الشعبية – العيطة الأسفية – بين الروض و الكتاب – اللعب بين الأمس و اليوم – عطلة الأحد … ” ليس فقط من زاوية اللغة فحسب بل من الزاوية الفنية والتقنية في كتابة المقال والذي جعلته يأخذ مكانته بين القصة والمقالة، وبلغة تزاوج بين الشاعرية والتقريرية، جاعلة من الحكي الكتابي و الشفهي لغة واحدة استطاعت من خلالها التقرب إلى القارئ و جعله مستمعا أحيانا، “إذا هطلت الأمطار بما فيه الكفاية وارتوت الأرض … وتبسم الموسم ضاحكا لأهلها .. واهتزت وأنبتت وتنفست بالرزق الوفير، تكون عبدة برمتها على موعد مع الأفراح … ” ص: 28 .
هي كتابة حاولت من خلالها الكاتبة ربيعة بوزناد رصد مراحل مرت منها مدينة ىسفي مبرزة في ذلك جدلية المكان والزمان التي أكسبت الأول – المكان – خصوصيته والثاني – الزمان – نسبته من خلال الفضاء وما يحتويه وتاريخه ومدى التطور أو التقهقر الذي شهده عبر سنوات وعقود، هو إذن سفر في ماض مدينة يقال أن الإنسان عمرها منذ خمسين ألف سنة، متوسلة بذاكرتها الفردية ومعايشتها له بكل أركانه مستعينة بما اختزلته أو وثقته شهادات المقربين ومن عايشوا تلك الفترات أو سمعوا عنها، كملء للبياضات التي لم تسعفها ذاكرتها استعادتها أو الوصول إليها، مخصصة جزءا كبيرا من عملها لرصد مدى تفاعل ساكنة آسفي فيما بينها في مضى من الزمن الجميل داخل “الحارة الشعبية – ايام العيد- الأحد كيوم عطلة – طريقة عيش العبديين قديما – التواصل و الترابط الأسري.. ”
لقد اعتمدت ربيعة بوزناد في أسلوبها على الذاتية التي تظهر من خلال إقحام رأي الكاتبة في كل مقالة وكذا النزعة العاطفية التي تتأجج بين الفينة والأخرى وفق المواقف المعبر عنها “إذ أن بفقدان الحايك تكون مدينة ىسفي فقدت شيئا ثمينا تعض عليه الأصابع، لما فيه من قيمة و منفعة … ” ص: 41 مقالات ذات لغة سليمة وبعبارات مستخدمة تعتمد على التصوير والاستشهاد بأقوال أو حكم أو قصص معبرة و ذلك بإيجاز دون تطويل أو تعمق كما هو الحال لدى الأديبين أحمد أمين و طه حسين ” الشباب يشبه الغصن الرطيب ن إذا تعوج في أوانه استعصت بعد ذلك استقامته ” ص: 18 ” ترميم لعقول أصعب من ترميم الأسوار ” ص: 21 .
وبقراءة متأنية لبعض عناوين الكتاب، نلاحظ إقحام الكاتبة في بعض مقالاتها أسئلة، يمكن أن ندرجها ضمن الأسئلة الاستنكارية قد يكون الغرض منها استفزازيا أو توجيهيا، من قبيل “ما هي المعلمة التي اختفت فجأة من حياتنا غير مأسوف عليها ؟ ” ص:9 ” من منا ليس له ذكرى واحدة مع البحر ؟ ” ص:12 ” ماذا كسبنا من الكتاتيب ؟… وماذا خسرنا في الروض ؟ ص:50 . كما استطاعت أن تجعل القارئ ينساب مع المقروء، محاولا استكشاف خبايا ما يختزله النص من خبايا يمكن أن تعيد له الذاكرة أو تجعله يتعاطف مع الكاتبة و يتضامن معها في مقترحاتها التي كانت تقدمها بين الفينة و الأخرى، ” كان علينا المحافظة على المقاهي التقليدية لقيمتها التاريخية و الأدبية و الفنية ” ص: 52، ” على آسفي أن يكون لها ورشة في المدارس الثانوية لتعليم الطبخ التقليدي … ” ص: 33 ، كان حريا بنا أن نرمم تلك الصالات ونصونها لكونها تعد من ذاكرة المدينة ” ص: 10 .
ومن بين المواضيع التي احتواها الكتاب نجد مقالة “معلمة ترفيهية تهاوت في صمت ” تتحدث فيها الكاتبة عن دور السينما التي أضحت في خبر كان بعد أن كانت فضاء للتثقيف وإدخال البهجة على قلوب مريديها، أما مقالة “البحر” فهي اعتراف واعتزاز بهذا الفضاء الذي منحته صفة حضن العروس المنيع، والمقصود طبعا بالعروس هي مدينة آسفي، كما تناولت موضوع العيطة الأسفية كموروث معتبرة إياها كملح للأفراح، مسلطة الضوء على أوجه زينتها وأوجه قبحها، دون تنسى دور اليهود وتعايش الساكنة معهم كطائفة فاعلة ونشيطة خاصة في المجال الاقتصادي من خلال مقالها ” اليهود في آسفي، وكذا حديثها عن “المطبخ الأسفي” وما يتميز به من أطباق تحمل البصمة الأندلسية وكذا اليهودية والبرتغالية، وعلى مستوى العادات والتقاليد فقد خصصت لها مقالات ” التواصل والترابط الأسري – الحكاية الشعبية – المقاهي الترفيهية … “، دون إهمالها لما تميزت به مدينة آسفي منذ حقب وهو ” الحايك ” الذي اعتبرته سترة ووقار ورمز حشمة للمرأة المسفيوية. وبذلك تكون ربيعة بوزناد قد سلطت الضوء على مجموعة من القضايا التي أضحت تقض مضجع المسفيويين خلال العقد الأخير، جاعلة ختام مقالاتها مجموعة أشعار مما جادت بها قريحتها اتجاه معشوقتها – آسفي – ومدى حبها وغرامها لها.
أما ما يمكننا أن نسجله في حق الكاتبة، والذي يمكن اعتباره سهوا أو نظرا لاعتمادها أسلوب التكثيف والإيجاز، هو عدم الاهتمام بأسماء شخصيات بصمت اسمها بقوة في العديد من المجالات الفنية والثقافية و الرياضية، وكذا بعض المعالم التي يقترن اسمها بآسفي كقصر البحر والكاتدرائية البرتغالية ودار السلطان وحي الخزافين و برج العبلات … إلى جانب أسماء الحارات المشهورة وقاعات السينما التي تهاوت، ونجوم العيطة وغيرها، إلى جانب بعض الصور الفتوغرافية التي تسجل اللحظة والمكان، سيما أن الكاتبة من هواة التصوير الفتوغرافي، مما كان سيضفي على هذا الكتاب طابعا توثيقيا بامتياز.
في الأخير لا يمكننا إلا أن نقول إن مؤلف “أشياء ضائعة بذاكرة أسفي الرائعة ” للكاتبة والشاعرة ربيعة بوزناد قد قدم لنا بشكل موجز يطغى عليه التعميم، بعض معالم مدينة آسفي التي تسترعي الانتباه، كتاب شكل صدوره قيمة إضافية لذاكرة مدينة لها دلالتها التاريخية، كتاب نفض الغبار عن مدينة طالها النسيان والإهمال وبات ملحا الاهتمام بها وبالمحافظة على معالمها وأصالتها المتجذرة، كما يمكن اعتباره مادة دسمة للباحثين وأجيال الغد للنهل منه وإغنائه بما يفيد، مع إنجاز جزء مكمل للمراحل القادمة.

> محمد الصفى

Related posts

Top