ألف.. باء..

مبدعون يكتبون عن الطفولة والبدايات

ما أكثر المبدعين الذين نعرفهم.. نقرأ لهم، نقرأ عنهم.. أو نلتقي بهم في محافل ومنتديات ونستمع لأحاديثهم.. ونستمتع بالجلوس والإنصات إليهم.. لكن، غالبا ما نجهل حكاياتهم الأولى وظروف نشأتهم وملابسات ارتباطهم بالثقافة والأدب والإبداع… إلا من سجل أو دون ذلك صراحة أو ضمنيا في تصريحات صحفية أو من حاول النبش في “سوابقه” الشخصية فيما يشبه السيرة الذاتية..
في هذه السلسلة اليومية التي نقترحها على قرائنا الأعزاء خلال هذا الشهر الكريم، قمنا باستكتاب بعض مبدعينا وكتابنا لاختراق مساحات الصمت وملئها بمتون سردية تحتل أحياز مشوقة للبوح والحكي.. علنا نسلط بعض الأضواء على “عتمات” كانت مضيئة في زمنها وأفرزت شخصيات وتجارب وربما نماذج يقتدي بها القراء وعشاق الأدب والإبداع..
هذه زاوية، إذن، لتوثيق لحظات استثنائية من عالم الطفولة، تتعلق بالمرور من عالم الطبيعة إلى عالم الثقافة، عبر اللقاء الأول بعالم الكُتّاب أو المدرسة وبمختلف الحكايات المصاحبة: الدهشة الأولى في الفصل.. الانطباع الذي يخلفه المعلم أو “الفقيه” لدى التلميذ.. تهجي الحروف الأولى.. شغب الطفولة وأشكال العقاب المادية والمعنوية.. انتظار الأمهات أمام باب المدرسة.. زمن الريشة والدواة ولطخات الحبر في الأصابع وعلى الملابس والدفاتر.. مقررات الراحل بوكماخ الشهيرة، وغيرها من التفاصيل التي التقطتها تداعيات مبدعين مغاربة، والتي كانت البدايات الأولى التي قادتهم إلى ما هم عليه اليوم والتي بكل تأكيد، ستتحكم، قليلا أو كثيرا، في ما سيكونونه غدا.
إليكم بعضا مما اخترنا لكم من هذه الكتابات العاشقة..

< إعداد: زهير فخري

الحلقة 16

مع القاص والناقد السينمائي مبارك حسني

البرشمان صاحب الرأس المكلومة

للكاتب مع الذاكرة علاقة تناظر وجودي حقيقية، فمن محبرتها يستقي نصوصه السابقة والآتية. وحبر ذاكرة الكاتب وهو طفل هي الأشد أثرا وحضورا. وأنا كنت طفلا، وكلما عن لي أن ألتقي بذلك الطفل البعيد، كنت أراه وأمه تفتح له الباب الخارجي للمنزل، ثم وهو يعدو نحو المسجد والظلام ما يزال لم ينتف من الدنيا، كي يلتحق بصلاة الفجر، ويرتكن فيما بعدها زاوية رفقة لوحته الخشبية يحفظ الآيات القرآنية القصار، وحيدا منكمشا قبل أن يلتحق به باقي “المحاضرية” الصغار. لم يكن المسجد سوى كراج ضيق وصغير. كان والدي المتدين بعمق والتيجاني الطريقة والورد يريدني أن أكون قرآنيا مثل جدي. كان ذلك ذات منتصف ستينات من القرن الماضي.
والعجيب أنني أجد عنتا قويا في الارتماء في ذلك العقد الأسطوري (عرفت هذا بعد أن صرت قارئا من طينة أخرى ولنصوص أخرى مغايرة تماما). فقد كنت، أنا الطفل حينها، سريع الحفظ على ما أذكر، لكن عصا الفقيه الدكالي بجلابيبه الكثيرة ولحيته البيضاء تعودت على منافحة رأسي الصغير بالضرب، والنتيجة أن الصورة الأولى البريئة الخفيفة تنطبع عليها صورة أخرى لتحتل مكانها عنوة. صورتي وأنا أمنح رأسي لأمي وجدتي كي تعالج ما خطت عصا الفقيه في جمجمتي الطرية بما تيسر من دواء زمان. كل رؤوس أبناء الأحياء الشعبية في الستينات مرت من ماكينة الدق والطرق ومن عيادات القطران وزيت العود وسوائل أخرى. وقد حفظت طبعا الأحزاب الأخيرة من القرآن، واحتفلتُ رفقة أقراني بختمة كل حزب، بحفلة الشاي والإسفنج، في باحة الكراج/المسجد، وجلت وإياهم بلوحتي المزركشة برسومات هندسية تحيط بسورة الأعلى، مثلا، المكتوبة بخط مغربي بديع، على حوانيت الدرب، أتلقى التهاني وبعض الريالات، ونحن ننشد “ألطالب يايو…”.
لكن الأعجب أن صورة ثالثة تتسلل لتنطبق على الأولتين. صورتي وأنا خارج من المسجد، ويداي تمسكان بخيوط متشابكة من الحرير لاصقة بقوسين من الدوم، على ما أظن، وتخالفهما في حركة دقيقة متواترة. كنت الأنشط في الاستظهار، فكان يؤول إلي شرف أكون برشمانا، أساعد “عامس” الفقيه في نسج الجلابيب. ترى كم جلبابا ساهمت في نسجه؟ وكم جسدا لم يدر وهو يتدفأ بصوف جلباب أن يدين صغيرتين فرحتين رخوتين خاطتا فتحاته وحواشيه؟
تلك اللحظة كانت قدرا فالتا ممتعا، وأنا في رحابة الزقاق، خارجا، مرتاحا، ترتع عيناي في فضاء الحي بكل هناء ومكر بينما الصغار يصرخون أمام الألواح. وتعلمت أن عليّ أن “أقرأ” لكي أفوز بلحظة حرية وآونة سعادة، يا سلام اكتشفت هذه الحقيقة قبل أن أجدها لدى جان بول سارتر سنوات طويلة بعد ذلك. وتلك الآيات كانت البداية مع درب المعرفة الطويل، بقدسيتها وجديتها والجانب الخفي من السرداب الذي يقود إليها.
ثم كانت هناك “كراجات أخرى” لحفظ القرآن وأشياء أخرى، لمدة سنوات خمس تقريبا. وستظل “تبارك الذي بيده الملك، وسبح اسم ربك الأعلى، وعم يتساءلون عن النبأ العظيم، والرحمن علم القرآن” ما بقي راسخا كجمل وآيات صامدة، وليس كسور كاملة تنوسيت الآن، لكنها بمثابة الخطوة الأولى في تدبيج النص فيما بعد، لأنني كنت ممتلئا بجلال الحرف المقدس.
ويجدر القول هنا إن ما سبق ذكره ليس صورة مستقاة من نصوص كتاب مشارقة أو فاسيين يتحدثون عن المسيد كما سموه فيما قرأنا لهم، بل الصورة التي تأتيني كلما عدت بناظري إلى الوراء السحيق.

مدرستا المقبرة والشيفون رفقة سعاد..

وتتالت صور الماضي بالأبيض والأسود دائما. وكانت لي صورة حقيقية بذات اللونين. لكنها صورة يبدو فيها وجهي ورأسي عائمين في ما يشبه ضبابا خفيفا. ولا غرابة في الأمر، فقد أخذت لي عند “أستوديو مويها” كناية عن الماء، والذي كان ذلك الصندوق العجيب لمصور كان يقف عند جدار حيث كوميسارية ساحة السراغنة حاليا. الصورة تقبع الآن في سجل باسمي في مدرسة عين الشفاء بنين. لكن هذه الأخيرة لم تكن الأولى. سبقتها مدرسة كنا نسميها بالمقبرة التي تجاورها من الجهة العليا وهي بالقرب من محطة أولاد زيان الآن.
ويذكر الطفل الذي كنت أن يومه الأول بالمدرسة إياها كان يوما أكتوبريا كثير الشمس، وفيه غبار وخلاء وضجيج خرافي. لا أذكر بالتحديد من أوصلني إلى المدرسة. كنت وحيدا فجأة. وكنت في جمع من البشر في يوم قيامي ليس منه مفر، لكنني لم أكن جزعا ولا مرتاعا. وقيل لي أنت ستدرس في قسم “الكوب” أي الذي رسمت على بابه كأس بالطباشير الملون. لا أدري ما الذي حصل بعد ذلك سوى أننا خرجنا فيما بعد وتوجهنا نحو الباب الكبير، ووجدت نفسي وحيدا في الخارج. أطفال وجدوا مرافقين وقبلات في الانتظار، وأطفال آخرون لم يجدوا آباء أو أمهات يستقبلونهم، فاستندوا إلى جدار المدرسة وشرعوا يبكون. وأنا كنت في الوسط لا أدري ما الذي علي فعله! أمامي مسرحية بمشهدين مختلفين، وكنت وحيدا وعلي، ليس أن أختار فذلك أمر لم يكن في حسبان طفل ذي سبع سنوات، ولكن أن أفعل شيئا. وهكذا بحكم تواجدي منعزلا التحقت بجوقة الحائط، وحاولت أن أبكي بدوري. ربما ظننت أنها طقس من طقوس الدخول المدرسي. لكن شيئا فشيئا بدأ المنظر الذي كان حائط مدرسة مقابل خلاء هابط، يُفرغ من مالئيه، فكفكفت ما كان يشبه الدمع، والتحقت بالمنزل الذي كان يبعد بحوالي عشرين دقيقة أو أقل. كان واضحا أنني كنت أعرف السبيل بكل سهولة. فكأنما قيل لي دبر أمرك يا فتى!
وبالفعل ذاك ما حصل، ففي شهر أكتوبر الثاني في حياتي المدرسية (من سنة 1968)، وجدت نفسي ضمن طابور من التلاميذ نساق مثنى مثنى، ونهبط منحدرا ترابيا في اتجاه مدرسة جديدة اسمها عين الشفاء، وكان اسمها الشائع آنذاك هو مدرسة “الشيفون” لأن الأرض الذي شيدت عليه كانت عبارة عن مزبلة سابقة أو مقبرة حديد وأثواب وزجاج وخشب. وهكذا تكون طريق المعرفة بدأت، بالنسبة لي وحسب صدف، ما بين مؤسستين تعليميتين تحملان اسمين أبعد ما يكونان عن الرقة واللطف ورصانة العلم والأدب.
لكن ما هم الفتى إلا أن يرضي الأب. لكن هل كان علي أن أكون تلميذا نجيبا؟ لا أعرف. الذي أدريه أنني كنت أحصل على نقط فوق المتوسط، وأنني كنت أقرأ نصوص القراءة، وأفك طلاسم الحساب بسهولة ما، وأنني لم أكن أشارك إلا نادرا في تنشيط الدرس. قارئ يعرف حروفه وفقط. لكنه كان عاشقا بصمت لسعاد. يا لذلك النص المؤسس! إنه النص الأول الكامل الذي طالعناه بعد سلسلة الحروف والجمل في كتاب “اقرأ” للسنة الأولى. والصورة، حداثة وألق وروعة. الفتاة بتنورتها القصيرة وسديرتها وهي “تتشعبط” بحماس لكي تمسك بكتاب في رف، سعاد الصغيرة الجميلة التي ترتاد المكتبة، وتهوى القراءة، الفتاة التي هي المثال المقدم لمن يريد الدخول في عصر المعرفة. لم أكن أمل من النظر إليها وقراءة قصتها المقتضبة مع المكتبة. وكما كانت لصاحب البردة الرسولية سعاد كانت لنا سعاد، وكانت أميرتنا نحو السفر الآخر.
والفضل للرجل الذي اسمه أحمد بوكماخ صاحب الكتاب المدرسي الأساسي زمنها. والفضل تجلى بشكل أكثر أثرا في الجزء الخامس. لأنني اكتشفت فيه أول مرة أن هناك فصيلة من البشر يسمون بالكتاب والشعراء. كان مألوفا بعد النص أن يقدم الكتاب المدرسي، بعد أسئلة الفهم والشرح والتمارين الكتابية، نبذة تعريفية عن الرجل الذي كتب النص المقترح. وتعرفت على أسماء مثل الشاعر الإنجليزي ميلتون، والروائي الفرنسي أناتول فرانس، والعربي الجاحظ، وآخرين (وقد قرأت لهم فيما بعد تحت تأثير ذلك). كانوا في إطار صغير بصورة باهتة الشكل نوعا ما في الورق المصفر للكتاب وفي الجهة اليسرى المقابلة لنصوصهم، وكانوا يلوحون لي ككائنات خاصة متفردة علوية حتى، وإلا لماذا أفرد لهم ذلك الحيز الخاص وذلك التعريف. ومن يومها بدأت أخط ما يشبه نصوص كتاب “أقرأ” عبر مذكرات شخصية، وعبر نصوص قصصية وأدبية ومقالات، بعد عقود ثلاثة فيما بعد…

< مبارك حسني

الوسوم ,

Related posts

Top