أنجيلا ميركل.. أقوى سياسية على ظهر الكوكب

اشتهرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالتأني في اتخاذ القرارات، وتفضيل الخطوات الصغيرة في معالجة القضايا السياسية بدلا من القفزات الواسعة، وتأجيل حسم الكثير من الملفات بشكل يثير انتقاد منافسيها. ويخالف نهجها نهج من سبقها مباشرة في قيادة ألمانيا، جيرهارد شرودر، الذي اشتهر بالحسم وسرعة اتخاذ القرار.
لكن ميركل فاجأت الجميع بطريقتها في التعامل مع أزمة تدفّق اللاجئين السوريين إلى أوروبا، فلم تكتف باتخاذ قرار حاسم بقبول اللاجئين، رغم المخاطر السياسية الواسعة لمثل هذا القرار، بل أعلنت تجميد اتفاقية «شينغن»، التي تلزم كل من يلجأ إلى أوروبا بتقديم طلب اللجوء في أول دولة آمنة، لفترة من الزمن مراعاة للأزمة الإنسانية القاسية التي يئنّ تحت وطأتها ملايين السوريين.
وسعت ميركل إلى فرض حصص من اللاجئين على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي رغم المعارضة الشديدة من جانب بعض الدول، خاصة في شرق أوروبا، مثل بولندا والمجر والتشيك.
باختصار قدّمت ميركل دعما حقيقيا لأعداد كبيرة من اللاجئين في الوقت الذي أحجم فيه الكثيرون عن تقديم مثل هذا الدعم، وقبلت ألمانيا وحدها نحو مليون لاجئ منذ بداية عام 2015.
جاء قرار ميركل تجاه اللاجئين ليعبّر عن موقف أخلاقي وإنساني يستحق الاحترام والتقدير من جانب المستشارة الألمانية. صحيح أن ألمانيا في حاجة إلى الأيدي العاملة، وأن الاقتصاد الألماني العملاق، وهو أكبر اقتصاد بين دول الاتحاد الأوروبي، قادر على استيعاب أعداد غير قليلة من الوافدين لسوق العمل.
لكن صحيح أيضا أن هناك بدائل كثيرة لتوفير الأيدي العاملة، وأن هناك رفضا حادا من جانب مجموعة من السياسيين الألمان لقيام ميركل بقبول اللاجئين بأعداد كبيرة.
ومن أبرز منتقدي ميركل شريكها في الائتلاف الحاكم، هورست زيهوفر، زعيم الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري ورئيس حكومة بافاريا، الذي هدّد برفع دعوى من حكومته على الحكومة الاتحادية بسبب سياسة ميركل تجاه اللاجئين، ووصف هذه السياسية بأنها «استسلام دولة القانون» تجاه تدفق اللاجئين.

ميركل الحاسمة

على مستوى أوروبا يبدو التناقض صارخا بين ما قامت به ميركل وبين مواقف قادة آخرين مثل رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، الذي لا ينظر إلى المهاجرين بوصفهم بشرا في حاجة إلى المساندة والدعم والرحمة، بل على أساس أنهم مسلمون يهددون بتقويض «الجذور المسيحية للقارة الأوروبية»، على حد وصفه، و«تجب حماية أوروبا منهم».
وتنفيذا لهذه الرؤية، قام أوربان ببناء جدار عازل في سعيه لحماية المجر من اللاجئين، هذا على الرغم أن اللاجئين يمرون فقط عبر المجر إلى ألمانيا دون أيّ رغبة منهم في البقاء في المجر.
وفي فرنسا هناك من طالب بقبول اللاجئين السوريين المسيحيين فقط، وليس المسلمين، بل ووصل الأمر إلى مطالبة المرشح الرئاسي الأميركي عن الحزب الجمهوري، دونالد ترامب، بمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة.
في هذا السياق تبدو الأهمية الكبيرة لمواقف ميركل، التي تتزعم حزبا يمينيا، هو حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي، إذ أن قيامها بفتح الباب أمام اللاجئين، وأغلبهم من المسلمين، يعني قبولها بمجتمع متعدد الثقافات يقوم على التسامح وقبول الآخر المختلف دينيا وعرقيا.
ملف آخر استطاعت ميركل أن تحقّق فيه نجاحا ملحوظا وهو ملف الأزمة الاقتصادية لليونان، والذي كان لألمانيا الرأي الأهم فيه باعتبار أن برلين هي أكبر الدائنين لأثينا.
واجهت ميركل فجوة هائلة بين موقف وزير المالية الألماني فولفغانغ شويبله، الذي كان يصرّ على فرض إجراءات تقشّف قاسية على اليونان لقبول تسوية للأزمة المالية، وبين موقف رئيس وزراء اليونان أليكسيس تسيبراس الذي كان يسعى إلى التخلّص من قيود التقشف، وقاد حزبه اليساري «سيريزا» للفوز في الانتخابات على هذا الأساس.
وفي النهاية نجحت ميركل في فرض تسوية جنّبت دول منطقة اليورو مخاطر إشهار إفلاس اليونان. وقبلها ظهرت مهارات ميركل في التعامل مع أزمة أوكرانيا، ونجحت في الاتفاق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الوصول لحل للأزمة ينهي الحرب.
لم تأت الإنجازات التي حققتها ميركل في عام 2015، من فراغ. فقد قضت المستشارة الألمانية عشر سنوات في زعامة ألمانيا منذ أن نجحت في قيادة حزبها للفوز على منافسها العتيد، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، في الانتخابات العامة عام 2005. وانتزعت الحكم من زعيمه جيرهارد شرودر.
وخلال هذه السنوات نجحت ميركل في تحقيق نجاح اقتصادي باهر، من أبرز ملامحه الفائض الكبير في الميزان التجاري، والفائض في الموازنة العامة للدولة، وانخفاض نسبة البطالة إلى نحو 6 بالمئة وهو أمر لم تشهده ألمانيا منذ توحيد شرقها وغربها عام 1990.
وفي ذات الوقت حافظت على شعبية واسعة بحيث أنها لازالت أكثر السياسيين شعبية في ألمانيا، وانعكس هذا في فوزها بثلاث دورات برلمانية متتالية.
ومن ثمة، لم يكن غريبا اختيار مجلة «تايم» الأميركية لها كشخصية العام 2015، ومن قبلها ترشيح أنجيلا ميركل لجائزة نوبل للسلام لكن فازت بها اللجنة الرباعية التونسية. وميركل أول إمرأة تحصل على لقب شخصية العام 2015، منفردة خلال 29 عاما رغم تكريم نساء أخريات ضمن مجموعات.
وقد كتبت جيبس، مديرة تحرير «تايم»، تقول، في توضيح مسوغات اختيار ميركل:»بسبب طلبها من بلدها أكثر مما جرأ عليه معظم الساسة وبسبب وقوفها بحزم ضد الاستبداد… وتقديمها نموذجا راسخا للقيادة الأخلاقية في عالم قلت فيه تلك القيم… اختارت مجلة تايم أنجيلا ميركل شخصية العام».
وأُطلق على أنجيلا ميركل، التي انتخبت لمنصبها في 2005، أقوى سياسية على ظهر الكوكب وهي أول امرأة تقود ألمانيا.
وعلى الرغم من عاصفة الانتقادات التي وجّهت إليها بسبب موقفها من اللاجئين، لا يوجد في ألمانيا حتى الآن منافس حقيقي لها سواء من بين صفوف حزبها، حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي، أو أبرز منافسيها، الحزب الاشتراكي الديمقراطي. وبالتالي يتوقع كثيرون استمرار ميركل في مقعد المستشارية بعد أن تنتهي دورتها الحالية عام 2017.
وبذلك تنضم إلى قائمة أبرز مستشاري ألمانيا، مثل كونراد أديناور الذي حكم من 1949 إلى 1963، وهيلموت كول الذي حكم من 1982 إلى 1998، ويعد الأب لروحي لميركل، وهو الذي اقتنع بقدراتها السياسية ورفعها لأعلى المناصب.

تجارب مؤثرة

تأثرت ميركل بدراسة الكيمياء، وعملها كأستاذة جامعية في أكاديمية العلوم في ألمانيا الشرقية، واكتسبت من عملها أسلوبا علميا في الإدارة. وتأثرت أيضا بالقيم العائلية والدينية لوالدها الذي كان رجل دين بروتستانتي، وأمها التي كانت ربة منزل تقليدية. وربما كانت تجربة الحياة في ألمانيا الشرقية خلف الستار الحديدي دافعا لانجيلا ميركل لتقدير قيمة الحرية.
وفي النهاية اجتمعت كل هذه العوامل لتخلق شخصية ميركل. شخصية امرأة تؤمن بدولة العدالة والقانون، وترفض التمييز على أساس العرق أو الدين، وتبحث عن مجتمع منفتح ومتسامح. شخصية تمثل القيادة الأخلاقية لأوروبا.وليس فقط القيادة السياسية.

Related posts

Top