أوراق من الذاكرة السياسية للمناضل المحجوب الكواري -الحلقة 13-

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، قهروا القمع والمعتقلات منذ ستينيات القرن الماضي، واستماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل. ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة. في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها. لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على المحجوب الكواري، عضو مجلس رئاسة حزب التقدم والاشتراكية، كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى أكثر من عقدين من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازال قائدا سياسيا تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات. يفتح لنا صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها…. المحجوب الكواري شخصية بارزة في حزب عريق. حزب ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد، قبل أن يحمل، أخيرا، اسم حزب التقدم والاشتراكية. المحجوب الكواري، المراكشي، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون. من معين هذا المناضل، ومن تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

حفل الذكرى العاشرة للبيان كان رائعا لم تعكر صفوه سوى إدارة الضرائب

استجابة واسعة من نجوم الغناء المغاربة والمسرحي الطيب الصديقي يدير الحفل بصرامة

أوكلت لي ومجموعة من الرفاق،  يقول المحجوب الكواري، مهمة المساهمة الميدانية في إنجاح حفل أقامه الحزب احتفاء بالذكرى العاشرة لصدور صحيفة البيان. قررنا أن يكون الحفل كبيرا ولافتا يضم جل نجوم الأغنية المغربية آنذاك، أي في مطلع الثنمانينات. ولتغطية مصاريف هامشية لهذا الحفل قررنا وضع تذاكر للدخول حدد ثمنها في 10 دراهم للتذكرة الواحدة. كان حزبنا يحضى بحب وتقدير فعاليات واسعة في مجالات الغناء والمسرح والتمثيل والرياضة، كنا قريبين من هموم الكادحين والطلبة والمثقفين.

ولضمان نجاح الحفل، يضيف الكواري، تجند رفاق مكتب الناحية ورفاق مؤطرين أذكر منهم الرفيق مصطفى العلوي، وعقدنا اجتماعا لتوزيع المهام بيننا، حيث تكلفت بلقاء الفنان الكبير محمد الحياني رحمة الله عليه. توجهت رأسا إلى زنقة أكادير حيث كان يقيم بإحدى العمارات السكنية، فلم أجده، فدلفت نحو متجر لبيع السيارات كان في ملك صديقه. وهناك اتفقت معه على لقاء قريب بمكتب الناحية من أجل بعض الجزئيات منها المكافأة الرمزية التي ستكون عبارة عن سجاد. استقبل الحياني كلامي بابتسامة عريضة، وأكد لي الحضور لكنه رفض أي مقابل، بل أكثر من ذلك عبر لي عن مدى احترامه لنضالات حزب التقدم والاشتراكية.

وعلى نفس المنوال ، يقول المحجوب الكواري، سار باقي الرفاق. كل تمكن من ضمان حضور هذا الفنان النجم أو ذاك. لكن اعترضتنا مشكلة التنسيق بين فقرات الحفل، وهي مهمة ليست بالسهلة، بل تتطلب شخصية لها حضور في الساحة، ولا تقل شأنا عن الفنانين الذي سيأدون روائعهم الغنائية. ولهذه الغاية، التجأنا إلى المسرحي الكبير الطيب الصديقي الذي لم يأل جهدا في التحضير، وفي مواجهة الدخلاء بصرامته وعبقريته. وقد حدث، وهو في غمرة الإعداد للحفل، أن تقدم إليه شاب يبدو حديث العهد بالتمثيل، وقال له بالحرف: “أنا أيضا أريد أن ألعب معكم”. فرد عليه الطيب الصديقي: “سير تلعب مع قرانك”.

سارت الأمور بالشكل الذي كنا نتوقعه، وتكلف أحد الرفاق ببيع التذاكر، بمساعدة آخرين، لأن الجماهير التي حضرت الحفل، يقول المحجوب، فاق عددها  ماتوقعناه. فقاعة المعرض ضاقت بجمهور أدى واجب الدخول. وقد ساعدنا تدخل السلطات كثيرا في ضبط الأمور. وهو ما استغربه له الرفاق، خاصة وأننا كنا حينها حزبا مغضوبا عليه، تعرض لكل أنواع التضييق في الانتخابات لا لشيء سوى لأنه صوت بـ”لا” خلال الاستفتاء على تعديل في الدستور يهم سن ولي العهد.

 

وبينما كان الحفل يتواصل بشكل أكثر من رائع، أخبرني أحد الأصدقاء، يقول الكواري، أن إدارة الضرائب في طريقها إلينا لأننا قمنا بتحويل حفل لا يستهدف الربح إلى نشاط  ربحي أضحت مداخيله خاضعة للضريبة بقوة القانون. وهو مشكل تمكنا من ايجاد حل له بطريقة لم تؤثر إطلاقا على مقاصد حزبنا في إحياء الذكرى العاشرة. للبيان. فنحن لم نحتفل فقط بلسان حال صحيفتين صادرتين عن حزب التقدم والاشتراكية، بل بلسان حال أمة بأكملها ولسان حال مرحلة بتعقيداتها وتداخل أحداثها.
طبعا، يوضح الكواري، حضر صحافيو الجريدتين الذين تميزوا بكونهم امتدادا لتلك الطينة من الصحافة المناضلة التي تأسست، في البدء، على هدي القيم الاشتراكية والشيوعية قبل أن يعاد ضبطها بحجم الانشغالات الخاصة وصوغ حلم مغرب ما بعد المرحلة الاستعمارية. كنت أسمع عن أقلام لامعة، واقرأ لها بانتظام. كانت “البيان” بالنسبة لي مصدرا أساسيا من مصادر تكويني في بدايات نشاطي السياسي. فقد كانت تعبر عن توجه يساري، أي عن قناعاتي، وكانت تنشر افتتاحيات ومقالات ومساهمات، كانت بالنسبة لي فرصة للاطلاع على وجهات نظر في مجالات متعددة، وفي تشكيل وعيي، بالنسبة للقضايا التي كانت مطروحة آنذاك في الساحة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
إلى جانب المحرر ثم الاتحاد الاشتراكي و لوبينيون كان يصعب على المرء، في تلك السنوات ألا يقرأ صحافة “البيان”، التي هي لسان حال حزب التقدم والاشتراكية، فقد كان الحزب يملأ الساحة السياسية، عبر الصحافة، بأقلام الزعيم سي علي يعتة  وصحافيين أذكر منهم محي الدين وأحمد الهناوي ورمز والبكري ومحمد فرحات وغيرهم. كانت الجريدة تعتبر أداة أساسية من أدوات التأثير، وهو ما يفسر الإشراف المباشر للقيادة على تسييرها.
ويمكن القول إن الاهتمام بصحافة “البيان”، يوضح المحجوب الكواري، كان ناتجًا عن دافعين إثنين، الأول معرفي، حيث كانت هذه الصحافة تنشر مساهمات فكرية ومقالات، غنية ومفيدة، خاصة وأن كتابها كانوا من الأطر السياسية والجامعية، الثاني، ينبع من ضرورة التعرف ومتابعة المواقف، من مختلف القضايا المطروحة في الساحة، وهو أمر كانت له أهمية بالغة، بالنسبة لكل المعنيين بالشأن السياسي، حيث كانت المواقف تسجل بدقة.

< مصطفى السالكي

Related posts

Top