أوراق من الذاكرة السياسية للمناضل المحجوب الكواري -الحلقة 4-

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، قهروا القمع والمعتقلات منذ ستينيات القرن الماضي، واستماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل. ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة. في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها. لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على المحجوب الكواري، عضو مجلس رئاسة حزب التقدم والاشتراكية، كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى أكثر من عقدين من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازال قائدا سياسيا تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات. يفتح لنا صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها…. المحجوب الكواري شخصية بارزة في حزب عريق. حزب ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد، قبل أن يحمل، أخيرا، اسم حزب التقدم والاشتراكية. المحجوب الكواري، المراكشي، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون. من معين هذا المناضل، ومن تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

مرحلة ما قبل التحاقي بالحزب الشيوعي المغربي ولقائي بعبد المجيد الذويب

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، قهروا القمع والمعتقلات منذ ستينيات القرن الماضي، واستماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل. ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة. في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها. لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على المحجوب الكواري، عضو مجلس رئاسة حزب التقدم والاشتراكية، كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى أكثر من عقدين من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازال قائدا سياسيا تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات. يفتح لنا صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها…. المحجوب الكواري شخصية بارزة في حزب عريق. حزب ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد، قبل أن يحمل، أخيرا، اسم حزب التقدم والاشتراكية. المحجوب الكواري، المراكشي، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون. من معين هذا المناضل، ومن تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

مزهوا برفيقه الجديد عبدالله استوكي، وبرفاقه داخل ما سيعرف فيما بعد أنها خلية للحزب الشيوعي المغربي، ومنتشيا بنجاحه في السنة الأولى من الباكالوريا، كان المحجوب الكواري عازما على حصد أعلى النقط في امتحانات السنة الثانية التي ستفتح له باب الجامعة على مصراعيه. بيد أن هذه جدوة النضال ستنطفئ وسيخفت الحماس، في الأسابيع الأولى للموسم الدراسي فقد قرر الشاب المحجوب  هجر ثانويته وزملاءه.

يقول المحجوب الكواري:”لم يم يكن قرار المغادرة سهلا، ولا الرغبة في مواصلة الدراسة يسيرة. كنت أمام واقع مر. كانت جيوبي فارغة لا أملك ريالا واحدا يمكنني من شراء الدفاتر ومقررات السنة الثانية باكالوريا”.

اشتدت صعوبة الحياة لمفلس مثله، لكنه رفض مد اليد لغيره لأنه كان على اقتناع بأن  الذل كصفة بشرية ليست من الفطرة الإنسانية السليمة في شيء.

يقول المحجوب الكواري: “النفس هي التي تكتسب الذل بعد أن يصير عندها طبعا مألوفا. وبالتالي فنفورها من العزة وانجذابها للذل يصبح أمرا عاديا بعد التطبع معه”.

لكن ما الذي قلب حياة المحجوب الشاب رأسا على عقب.

يجيب المحجوب الكواري بالقول:”كان والدي يحيى حياة الأبطال الصامتين بعد رحيل والدتي لأنه كان يقوم بكل المهام سواء المنزلية أو الخارجية لأجلي. وبعد رحيله تكلف أخي الأكبر بصرف معاشه. لكنه، بعد فترة من الزمن، أضاع الأمانة وسط سيل من طلبات أبنائه وحاجياتهم. ففضلت التواري على الإحراج”.

عبد المجيد الذويب يشارك في إحدى مهرجانات فاتح ماي في نهاية ستينات القرن الماضي

كان المحجوب الشاب موقنا بأن الصبر شجرة جذورها مرة وثمارها شهية، وأن الفرج آت لامحالة. وبالفعل، وبعد وقت وجيز، اطلع صديقه عمر على حاله، فتوسط له عند عبد الكريم بن الحاج، أحد كبار المفتشين التربويين بمراكش آنذاك والذي عينه بمدرسة تبعد عن وارززات بثلاثين كيلومترا. هذه المدرسة  أنشأت  خصيصا لأبناء المهندسين والموظفين الفرنسيين الذي كانوا يستغلون مناجم المنغنيز في المنطقة.

كان المحجوب يعمل كمعلم مؤقت، يتقاضى 700 درهم كراتب شهري، وهي أجرة محترمة جدا في بداية ستينات القرن الماضي، علما أنها لا تمثل سوى أربعة أخماس ما يجب أن يتقاضاه. فبحكم سنه الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة، كان الفرنسيون يحتفظون له  بالخمس على أساس أن يتوصل به كاملا كمنحة.

وعند نهاية السنة، أي في العام 1964، غادر المحجوب الكواري هذه المدرسة في اتجاه مدينة الدار البيضاء للعمل بالمدرسة العليا للرياضيين. وقام بالتسجيل بكلية الدار البيضاء بهدف نيل شهادة الكفاءة ” CAPACITE” لأن مستواه لم يكن يتعدى الأولى باكالوريا.

كانت الإرادة هي ما يدفع المحجوب الكواري على طريق الكفاح في بيئة جديدة، وكانت العزيمة ما أبقته على هذا الطريق لسنوات طوال. كان يمتاز بالمعقول والتفاني في العمل وبالإخلاص والوفاء ما يسر له الانتقال السلس إلى العمل كموظف بالمصالح الاقتصادية لوزارة التربية الوطنية بعد أن كان يزاول وظيفة معلم.

كان يتخذ من المدرسة العليا لأساتذة الرياضة مسكنا له . وفي سنة 1965 تشاء الأقدار أن يتم تعيين عبد المجيد الدويب، أحد ألمع المناضلين في صفوف الحزب الشيوعي المغربي مديرا لهذه المدرسة لتبدأ مرحلة ماقبل التحاقي بالحزب الشيوعي المغربي.

المناضل شمعون ليفي

يقول المحجوب الكواري: ” كانت حياتي على نمط واحد. المثابرة في العمل والبحث عن كل تفاصيله وخباياه حتى يكون الإنجاز مثاليا. وبعد تعيين عبد المجيد الذويب بدأت أشعر أن عالما آخر بدأت معالمه تتبدى لي. كان عبد المجيد نقابيا كبيرا، وفي أحاديثي معه كصديق جديد وزميل كان يقول لي أن أساس وجود الحزب الشيوعي المغربي هو الدفاع عن كل القوى العاملة من فلاحين صغار ومثقفين متنورين، وأن منشورات الحزب هي وعاء لتبليغ وتصريف القناعات والمواقف. لم يعرض علي في المرحلة الأولى الانضمام لخلية الحزب، بل كان يجس نبضي من خلال فتح نقاشات حول مواضيع تهم  البرجوازية واليسار الراديكالي، والواقعية التي تقتضي التعامل مع واقع معقد من أجل تغييره.

صراحة أعحبني تواضع الرجل، وقد أزيحت عن عيني غشاوة الصورة القبلية التي كانت لدي عن عجرفة وصلابة المدراء، لقد وجدتني أمام شخص لطيف، يتمتع بمزايا إنسانية عالية، هو غير ذلك خطيب فصيح، لا يفرض عليك رأيه وفي الوقت ذاته يجعلك تقتنع بمراميه..”

يضيف المحجوب الكواري أنه، من خلال لقاءاته بالذويب، وطد معلوماته التي كان يستقيها من عبد الله الستوكي ومن قراءاته حول الفكر الاشتراكي، وتجددت قناعاته بأن الحزب من منظور الاشتراكية العلمية، هو الإطار المادي الذي يعمل على نشر ثقافة الوعي في صفوف الجماهير وعلى رأسها العمال  التي لا يملكون سوى قوة عملهم وأن نشر الوعي في صفوفهم يقتضي بالضرورة التنظيم تحت لواء قيادة تعلمهم كيفية النضال الديمقراطي لانتزاع المكاسب.

كان عبد المجيد الذويب يعد زميله في المدرسة العليا لأساتذة الرياضة لمهام عظيمة دون أن يجعله يشعر أنه يعمل ضمن خلية الحزب الشيوعي.

  يقول المحجوب الكواري:” علمت فيما بعد أن عبد المجيد الذويب كان يوكل لي مهام تتعلق بأنشطة الحزب دون أن يجعلني أقترب من هويته ورجالاته. كما علمت أن هذا الحزب يتوفر على شخص صارم ونزيه يسمى شمعون ليفي يشرف على وحدات للتكوين الإيديولوجي والسياسي، ويجعل السامع إليه يمتلك بسرعة رؤية وأدوات التحليل للتعاطي مع الظواهر الاجتماعية في بعدها التاريخي وما يحكمها من قوانين الجدلية”.

مصطفى السالكي

Related posts

Top