ظل الجسد محذورا في الكثير من الثقافات، ومنها الثقافة المسلمة لأسباب عدة، تُرجع في غالب الأحيان دون سند ديني واضح للدين. فالحكاية المؤسسة للديانات الإبراهيمية الثلاثة تفيدنا بأن الإنسان لم يكتشف جسده إلا بعد الخطيئة الأولى: “زينت للمرأة أن تأكل من الشجرة المنهى عنها، فأكلت وأعطت آدم فأكل، فلما أكلا انفتحت أعينهما وبدت لهما سوآتهما واكتشفا أنهما عاريان، فبدءا يصنعان لأنفسهما ثوبا من ورق التين؛ ليسترا عوراتهما.” (الكتاب المقدس، سفر التكوين، الباب الثالث، الآية 6 ـ 7). ” (يَا بَنىِ ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنهْمَا لِبَاسَهُمَا لِيرُيَهُمَا سَوْءَاتهِمَا).( الأعراف،27). لا داعي للتذكير بأن هذه القصة توجد كذلك في ثقافات تقدمت بقرون طوال عن اليهودية، ومنها بالخصوص الأساطير السومرية والبابلية. فالأسطورة السومرية تقول بأن الآلهة صنعت “الرجل” من طين وتركته في شكله الأول عاريا يتجول برفقة الحيوانات في الجنة. ولم يهتد الإنسان إلى تغطية جسده إلا بعدما أصبح خادما يعتني بحدائق الآلهة، التي كانت تلبس ملابسا.
ومع ذلك بقي الجسد من المواضيع التي ألهمت وتلهم وستلهم المسلمين وغيرهم، سواء دراسة أو إبداعا أو شعرا إلخ.. مثل “طوق الحمامة”، “ألف ليلة وليلة” وغيرها كثير. ولم يحضر الجسد العالم التشكيلي العربي إلا في السنوات القليلة الفائتة، حتى وإن كنا نجد بعض الفنانين الغربيين ممن اهتموا بالجسد العربي (رجالا ونساء)، ابتداء من الحركات الكولونيالية الأولى كدو لاكروا وغيره. وفي إطار هذا الاهتمام تدخل لوحات التشكيلية المغربية المقتدرة سعاد بياض.
عندما يطلق المرء العنان لتأمله وهو يشاهد لوحات بياض، فإنه يشعر بمباغثة هذه اللوحات للمتفرج عليها، لأنها تزعزع ما وُرث من أفكار عن المرأة عموما وعن التشكيل العربي بصيغة المؤنث بالخصوص. والحال أن بياض نجحت إلى حد بعيد في لعب الدورين معا: المرأة المسلمة والتشكيلية في آن واحد. ليس من الضروري التنبيه إلى أن ولوج المرأة عالم التشكيل في العالم العربي، يُعاش من طرف الكثير من “الأبيسيين” كخدش عميق في رجولتهم (قد أقول “فحولتهم”)، وعندما تعتني التشكيلية بالجسد فإنها تكون بهذا قد خدشت مرتين “عورة” الرجل، على اعتبار أن الجسد العاري هو في التقليد المحافظ “عورة”، وبالخصوص بعد ظهور الحركات الراديكالية، وبالأخص الإرهابية منها التي “تكره” الفن جملة وتفصيلا.
قد تكون لوحات بياض رد فعل على “الردة” التي نعيشها في عالمنا المسلم فيما يخص بعض الخطوات التي قمنا بها إلى الأمام فيما يخص محاولات تحرير الفن التشكيلي من كل ما يعيق تطوره عندنا، ليرقى بالفعل إلى مستوى فن جاد. فأمام النقاشات البوليميكية الدائرة رحاها حول جسد المرأة، سواء في معايدة فرض الحجاب بطرق مباشرة وأخرى غير مباشرة أو “الحرب” ضد حق النساء في السباحة بِحُرية في فصل الصيف في الشواطئ، ها هي بياض تتفنن في إبداع لوحات تحتفل بالجسد والعري، وكأن حال لسان فرشاتها يقول: “الإرهاب لا يُرهبنا”. إن الجسد أنطلوجيا هو الشيء الوحيد الذي نمتلكه بالفعل، إنه يشكل أنانا، وبالتالي هويتنا؛ ودون التصرف بحرية فيه، لا يكون للأشخاص أي اعتبار. وبهذا تلتحق بياض بفيلق من المفكرين المغاربة الذين أفردوا دراسات جادة للجسد كعبد الكبير الخطيبي وفريد الزاهي وعبد الوهاب بوحديبة وفاطمة المرنيسي وإلى حد ما عبد الصمد الديالمي وعلي أفرفار.
لا يفوتنا أن نذكر في هذا المقام بأن اللوحات التي أثارت اهتمامنا للتشكيلية بياض قد تكون إجابة كذلك على النقاشات الفارغة من أي محتوى حول “التنورة”، وكأن المشكل الحقيقي للمسلمين حاليا هو ماذا وكيف تلبس المرأة. فإذا لم يكن من حق المرأة أن تلبس في حرية كل ما يحلو لها، فها هي بياض تنزع عن العقلية المتأخرة للمجتمع الذكوري حيث نعيش كل حجاب وتقدمه في الساحة العمومية في عريه الوجودي الحقيقي، في فقره المادي والمعنوي، بل في جهله العام لذاته وهويته. تقاوم الفنانة إذن من أجل إعادة جسد المرأة المسلمة من منفاه وضد كل مظاهر تعنيفه الفيزيقي والنفسي، بل وحتى اغتصابه سواء سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا. وهنا تلتقي وجها لوجه مع جمانة حداد، اللبنانية الثائرة، التي اختارت أصعب طريق مواجهة مع الرجل العربي والمسلم بالخصوص بإصدارها نهاية سنة 2008 أول عدد لمجلتها المتخصصة: “جسد”، ومع الفنانة المغربية لطيفة أحرار، أول من تجرأت على إظهار جسدها على خشبة مسرح، “كمناورة” منها لإيقاظ “سخط” قبيلة الذكورية وتحدي أعينها التي لا تنام، “مبدعة” كل وسائل قمع المرأة في أعز ما تملكه: جسدها.
تسبح لوحات بياض إذن في ثقافة الجسد، وبالضبط تلك التي تعري اللاوعي المجتمعي القامع لاحتفال البشر بأجسادهم بحرية وكما يحلو لهم، دون ضغط من أية جهة تُذكر وتحت أية ذريعة كانت. ليس هناك أي تمجيد للجسد في هذه اللوحات ولا أي احتقار له، بقدر ما نلمس بأنه خط الدفاع الأخير في ثقافتنا. والعري الفعلي هو عري ثقافتنا، بمعنى فقرها، أي عري معنوي لن نتخلص منه ما دمنا نحشر بعض مناطق الجسد في عالم المحرمات، ولا نرى لجسد المرأة إلا من باب الشهوة، على اعتبار أن كبتنا الجنسي هو المحرك الذي لا يتحرك لتأخرنا وتقهقرنا الوجودي والثقافي.
بقلم: د. حميد لشهب/ النمسا