اضطهاد العلماء والفقهاء.. شذرات من مظاهر الصراع الفكري في تاريخ المسلمين -الحلقة 12-

منذ أسابيع، اشتعلت نار السجال واشتد أوارها على مواقع التواصل الاجتماعي بين الأخصائي في التغذية المثير للجدل محمد الفايد وبين عدد من فقهاء الشريعة ببلادنا، بل تخطت هاته «الفتنة» الحدود عندما دخل عدد من علماء وأساتذة الفقه في عالمنا العربي والإسلامي ليدلوا بدلوهم في الموضوع، فالأمر جلل عندما يتعلق بالحديث عن مسائل ترتبط بالمعتقد الديني من قبيل رحلة الإسراء والمعراج ويوم الحساب الأكبر ومصير المسلمين والكفار بين الجنة والنار.. تلك هي المحاور التي تجرأ الفايد على الخوض فيها، خلال مونولاجات تحظى بمتابعة واسعة على قناته على موقع «يوتيوب»، قناة اكتسبت شعبيتها في زمن كورونا بفضل نصائح الفايد الوقائية والعلاجية من الوباء عن طريق نظام يمزج بين التغذية الصحية وأنواع من مغلي الأعشاب.
ولم يشفع للفايد الذي يقول عن نفسه إنه «دكتور دولة ودارس للشريعة وحافظ لكتاب الله ويتحدث سبع لغات»، تاريخه المدافع عن التراث الإسلامي خاصة في مجال الإعجاز العلمي في القرآن وفي الأحاديث النبوية فيما يرتبط بالتغذية الصحية، حيث وجد نفسه في قلب الإعصار جراء سيل من الانتقادات والهجومات وصل حد السب والشتم والوصم بالزندقة والتكفير.. وزاد من حدة السجال انبراء جيش متابعي ومعجبي الدكتور الفايد للدفاع عنه والرد بنفس أسلوب «المقابلة» على منتقديه. ولم تهدإ العاصفة على الرغم من إصدار الفايد لاحقا لبيان «توضيحي» يؤكد فيه عدم إنكاره للثابت من الدين بالضرورة واحترامه للعلوم الشرعية مع طموحه إلى أن يجمع علماء المسلمين بين العلوم الشرعية والعلوم الكونية.. استدراك الفايد لم يسلم بدوره من الانتقاد والتمحيص والتدقيق، في إطار فصل المقال فيما يتردد ويقال حول ماهية العلوم الكونية وموقع العلوم الشرعية، وعن أهلية المتحدثين والعلماء المُحدَثين للخوض في مسائل الدنيا والدين…
«الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها».. وفتنة الخلاف في الرأي والتشدد له ليست وليدة واقعة الفايد مع علماء الشريعة ببلادنا، بل تكاد تكون رديفة لتاريخ الإسلام والمسلمين منذ وفاة الرسول الأكرم عندما اندلع الخلاف حول من يخلفه في إمامة المصلين وقيادة الأمة الإسلامية آنذاك. ويشهد النص القرآني نفسه على عدد من الوقائع حتى في حياة الرسول حيث احتدم الخلاف بين أصحابه وكان الوحي وحده هو القادر على كبح جماح صراعهم والحافز لإعادتهم إلى وحدة الصف خلف قائدهم رغم ما يفرقهم من عدم اصطفاف في الرأي ووجهات النظر.
كما تعيد هذه الواقعة إلى الأذهان ما تحفل به صفحات التاريخ الإسلامي من حكايات عن الحروب بين «العلماء والفقهاء» المسلمين، كما يصنفهم البعض، على الرغم من أن أغلب علماء المسلمين في الرياضيات والفيزياء والطب يشهد لهم التاريخ أيضا بأنهم كانوا على جانب كبير من التفقه في الدين، وعلما أن عددا من فطاحلة الفقه في تراثنا الإسلامي بدورهم لم يسلموا من تهم التكفير والزندقة. ويسجل التاريخ كذلك أن السجالات التي كانت سببا في «الاضطهاد» والقتل الحقيقي والمعنوي اللذين تعرضت لهما تلك الشخصيات الإسلامية، كانت في نفس الوقت، وهي مفارقة أبدية، عنوانا لحرية التعبير والصراع بين الأفكار في ظل ثورة فكرية وإنسانية عجيبة عرفها المجتمع الإسلامي على امتداد قرون بعد وفاة الرسول، لم يتردد روادها في الخوض حتى في الإلاهيات وفي تحليل النص القرآني من منظور فلسفي.. ولازالت آثار تلك الجرأة الفكرية مستمرة إلى يومنا في تعدد المذاهب الناتج عن تعدد الفرق الكلامية والأقوال الفقهية للسلف..
في هذه السلسلة، نحاول أن نعيد تسليط الضوء على هذا الجانب المثير من التاريخ الفكري للمسلمين، نذكر فيها بشخصيات كانت مثار جدل وصراع اختلط وتأثر فيه التفكير الديني بالمؤثرات السياسية والإنسانية للمجتمع. ثم نعرج لاحقا على بعض ما أنتجه المفكرون المسلمون أيضا من أدبيات ترمي إلى تأطير الاختلاف والحد من أثاره المدمرة على الأشخاص وعلى المجتمع، وذلك في سياق ما أسموه بـ»فقه الاختلاف» الذي أفردوا له جانبا مهما من جهودهم في البحث والتأمل والتأصيل.

ابن باجة الأندلسي.. ومن العلم ما قتل

أبو بكر محمد بن يحيى الملقب بابن الصائغ والشهير بابن باجة، عرفه علماء الغرب في القرون الوسطى باسم “افمباس” (Avempace)، يعد من أشهر علماء العرب في الأندلس المنشغلين بالفلسفة والمنطق، اشتهر بعلمه بالفلسفة والطب والرياضيات والفلك، ويقال إنه لقب بالصائغ لأنه كان يعمل صائغا في بداية حياته وهي مهنة عائلته، وعندما أصبح شابا رحل إلى إشبيلية، هناك عكف على تأليف العديد من المؤلفات في المنطق، والطب، وشرح الأدوية والتداوي، وعمل بالطب.
ولد ابن باجه بمدينة سرقسطة، واختلف المؤرخون في سنة مولده وقد رجح أنه ولد في سنة 503هـ 1110م. تعلم العلوم الشرعية ودرس الطب والفلك والفلسفة واشتغل بها أمدا. وبعد أن أغار ألفونس الأول على مدينة سرقسطة هاجرها، وسافر إلى غرناطة وأقام بها حينا ثم رحل إلى المغرب. اشتهر أمره في ذلك الوقت بمعرفة الفلسفة والشعر والموسيقى. وكان وزيرا وجليسا لحاكم سرقسطة أبو بكر بن إبراهيم صهر الأمير المرابط، والذي أبقاه إلى جانبه مدة 20 عاما.
يذكر ابن أبي أصيبعة، عن حياة ابن باجة في كتابه “عيون الأنباء”، أنه “من أشهر علماء عرب الأندلس الذين اشتغلوا بالطب والفلسفة” وذكر أن “ابن الصائغ (ابن باجة) كان أول من انتفع بحكمة المشارقة من العرب فهو أول من أشاع العلوم الفلسفية في الأندلس بغير نزاع”.
وقد اعترف بفضله ابن طفيل الذي لم يعاصره، إنما خلفه بعد بضع سنين، وقال عنه “لم يخلق أثقب ذهنا ولا أصح نظرا ولا أصدق رؤية من أبي بكر الصائغ”، وذكر ابن طفيل ما كان عليه ابن باجة من توقد الذكاء وسعة الفكر، وأنه فاق أهل عصره وأسف عليه لأنه توفي وهو في ريعان شبابه ولم يستطع فتح كل كنوز علمه، وقال عنه ابن خلدون: “ابن باجة من أكبر فلاسفة الإسلام في الأندلس”.
تعتبر رسالته “في تدبير المتوحد” من أشهر مؤلفاته على الإطلاق، وقد تحدث في هذه الرسالة عن العوامل التي تؤثر في الإنسان وتدفع العقل على التفكير، وشرح غاية الوجود الإنساني وغاية العلم وهما التقرب إلى الله. وافترض ابن باجة وجود مدينة فاضلة أو “الحكومة الكاملة”، وأهلها ليسوا بحاجة إلى أطباء أو قضاة، لأن الأفراد والعلاقات بينهم تبلغ مراتب الكمال. وقد ألف العديد من الكتب ذكرها ابن أبي أصيبعة، فمنها كتب في الطب والرياضيات والحكمة وشروح لبعض كتب أرسطو في الطبيعيات وحوادث الجو وكتب في البداية والنهاية، أما الكتب التي لم ينجزها وذكرها ابن طفيل فكثيرة منها ما هو في المنطق وكتاب في النفس ورسالة الاتصال، ورسالة الوداع.
عمل ابن باجة على العودة بالفلسفة إلى أصولها الأرسطية خالصة كما هي في كتب أرسطو، مبتعدا عن أفكار العرفان والأفلاطونية المحدثة، فكان بذلك أحد أفراد تيار تجديدي أندلسي حاول فصل الأفكار العرفانية التي اختلطت كثيرا بالفكر الإسلامي والذي بدأ بمشروع ابن حزم في تأسيس منهج العودة إلى الأصول واستبعاد القياس في الفقه. واستأنف بعد ابن باجة بابن رشد الذي عمد إلى فصل نظام البيان الفقهي عن نظام البرهان الفلسفي، بمصطلح آخر فصل الدين عن الفلسفة كأنظمة استنتاجية وربطهما عن طريق الغايات والأهداف.
شرح ابن باجة أيضا كتاب “الأدوية المفردة” لابن وافد وهذه الشروح قد استفاد منها كثيرا ابن البيطار، وكذلك شرح كتب تاريخ الحيوان وتاريخ النبات.

اتهامه بالإلحاد ووفاته مسموما

مات ابن باجة شابا بعد حياة حافلة بالتأليف والدرس، وكان علمه الواسع وبراعته في الطب سببا في ارتفاع قدره وحظوته داخل البلاط المرابطي في المغرب، على الرغم مما عرف به المرابطون من تشدد في الدين. لكن ابن باجة واجه أيضا، خلال حياته القصيرة، الدسائس والمؤامرات والمكائد، واتهامه بالإلحاد والزندقة، من طرفه خصومه في عالم السياسة والطب. وتولى خصومته كل من الوزير والكاتب الفتح بن خاقان الذي ألف رسالة اختصها للذم في ابن باجة وتأليب السلطان وفقهاء المالكية والجماهير عليه. واتهم ابن خاقان ابن باجة بالكفر والإلحاد وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة، كما رماه بالزندقة بسبب حبه للموسيقى والزجل. وقد ذكر ابن الخطيب في كتابه “الإحاطة في أخبار غرناطة” سبب العداء الذي استحكم بين ابن الصائغ وابن خاقان، فقال إن الفتح افتخر يوما بمجلس بما ناله من رضا أمراء الأندلس فكذبه ابن الصائغ واحتقره.
من جهة أخرى، واجه ابن باجة أيضا غيرة وحقد الأطباء الذين كان ينافسهم عند السلطان، وعلى رأسهم الطبيب الشهير ابن زهر الذي تذكر كتب التاريخ أنه كان له دور حاسم في إنهاء حياة الفيلسوف والطبيب الأندلسي ابن باجة بطريقة مأساوية عندما دس له السم فلقي الأخير حتفه مغدورا، وذلك في مدينة فاس في شهر رمضان عام 533 هـ/ 1138 م.

< إعداد: سميرة الشناوي

Related posts

Top