الأثر بين الخفاء والتجلي في معرض “مديح الأثر” للفنان والباحث التشكيلي إبراهيم الحيسن

ارتبطت الصحراء بالأثر وظهرت علوم مصاحبة له كالقص والقيافة.. كما كان الشعر العربي خاصة الجاهلي يحتفي بهذا الأثر في مطلع القصائد في ما يعرف بالمقدمة الطللية.. الفنان إبراهيم الحيسن ابن هذه البيئة بَحَثَ جماليا في هذا الأثر ونَظَّم معرضا بمدينة الصويرة تحت عنوان “مديح الأثر” وأخرج هذا الأثر من طابعه الأدبي إلى الفني البصري، و من مخزونه الذاكراتي كمادة ملفوفة إلى الواقع. ولتعميق هذا الكشف عنه وظف ورق التلفيف “كرافت”Craft كمادة للاشتغال، من هنا يمكننا التوجه إلى تحديد نوعية السند الذي احتضن الأثر ونوع الأثر الذي شَغَلَ فضاء المادة.. فالفنان يقتفي الأثر ويدعو المتلقي إلى اقتفائه برؤية متفتحة ومنفتحة إلى الكشف عن الكثير من الدلالات الخفية والثاوية فيه. يُشَكِّل السند الذي تم اختياره بقصدية وعناية فائقة فضاء لاستحضار الذاكرة، فهذا الورق اللفيف يكشف عن الملفوف الثاوي في ذاكرة الفنان يبتغي منه أن يكون جزء من العمل الفني ويخدم بناءه الكلي، ليشكل مع باقي المواد والعناصر التشكيلية وحدة غير قابلة للتجزيء.. فهي ليست شيئا جامدا بل وحدة متحركة في المكان والزمان، تحيل على بيئة وليس مكانا محددا كما في الشعر. فالأثر رغم أنه ثابت مكانيا إلا أنه في أعماله يتميز بدينامية التحول من مكان إلى آخر حسب وجدان المتلقي حيث يخاطب الروح والحواس معا. فالألوان التي اختارها تطغى عليها الصباغة الأحادية اللاأبالية ومحايدة أو باردة كالأزرق توحي بالكثير من الصمت المستمد من سكون الصحراء في فضاءاتها الواسعة الممتدة ولكنها تبوح بالكثير عبر مفردات تشكيلية في حاجة إلى متلق حاذق يجيد فك رموز لغة الصمت. وما يميز هذه الأعمال التنوع حيث إنها لم تكن كلها على سند مستو، بل شكلها الفنان بأبعادها الثلاث كمجسمات تنتصب في الفضاء..
ويمكن أن نضيف إليها بعدا رابعا وهو بعد الزمن الذي تتحرك من خلاله الذاكرة لاستحضار هذا التحول في المادة التي تحولت إلى أثر. ومن خلال المعروضات الفنية. لا نجد نشازا بينها وبين العنوان الذي اختاره الفنان لمعرضه، فالأثر بمديحه واحتفاء الفنان به يتجلى للعيان وتم عرضه بالمكانة التي تليق به.. كما أن المادة التي اشتغل بها خدمت بشكل كبير أعماله الفنية، خاصة ورق كرافت المعروف بهشاشته وصلابته معا.. فهو مادة هشة يمكن له حفظ مواد صلبة كما هو الأثر تماما الذي حاول الفنان حفظه في ذاكرته وإخراجه إلى الوجود عبر هذا المعرض، والإنشاءات الفنية الثلاثية الأبعاد التي تم استيعادها جاهزة Ready made art أو تشكيلها دعمت بشكل كبير الخطاب الذي صاحب أعمال الفنان، فالحقيبة / المحفظة والكتاب أيضا مادتان للحفظConservation إضافة إلى إحالة الحقيبة / المحفظة للترحال والحفظ معا، مما يجعلها ترتبط بالصحراء في جانب حياة الرحل واستحضار فترة من الماضي للفنان. كل هذه العناصر التي اشتغل عليها الفنان من سند ومواد صباغية أو استيعادية وعلامات تختزلها كلمة واحدة وهي الأثر. إبراهيم الحيسن الفنان التشكيلي وأحد أعلام البحث التشكيلي لم تكن أعماله اعتباطا أو لصقا تعسفيا بل حاملة لخطاب وتصور عميق، استطاع بتجربته تجسيد هذا الخطاب والتصور بحذق في أعماله الفنية.. فمن الأثر خلق أثرا آخر، وجعل من طبيعة تصوره امتدادا لا محدودا قابلا للتأويل الذهني والإبهار البصري.

< بقلم: محمد سعود

فنان تشكيلي وباحث
عن المركز العالمي للفنون التشكيلية

Related posts

Top