الأزمنة الهاربة وتناغم السرد في مجموعة “وداعا.. أحلام الغد” للقاصة المغربية سعيدة القراري

تفاجئنا المجموعة القصصية “وداعا.. أحلام الغد”، باعتمادها ثنائيات سيميائية، الاتصال والانفصال، التواصل والقطيعة، التحقق واللاتحقق، الاحتضان مقابل الضياع وهكذا. إن ميسم الأحلام انتظارها وتحققها يقينا، وإلا فلن تكون الأحلام أحلاما والواقع واقعا، تنصَهر جلّ شخصيات المحكي السردي في علاقتها بالذات والموضوع، ثم تتفاجأ بحدوث قاطعٍ يفصل الذات عن رغباتها. تكادُ تكون الأزمنة الناظمة للشخوص متقاربة حينا، ومتباينة تارة أخرى، بين أزمنة طفولية بأحلامها الهاربة، وبين أزمنة الكبار بأحلامها وتطلعاتها، وهذا ما سنسعى تبيانه في الدراسة، لكل شخصية زمنها ومكانه وموضوعها، لكنّها تلتقي في شيء واحد، انفلات الزمان قسرا منها إلى الأمام.

 تتفق الأُضمومة القصصية في توظيفها لعناوين ترمز في كليتها إلى مواضيع ذات صلةٍ بالزمان، نجمل بعضها: “رحيل، المرحوم، وداعا.. أحلام الغد، صدى البقايا، نحو الشاطئ، عبور، رنّة  نهاية، نشيد الآتي، الرقص مع الغائب، نبض متآكل، عودة”. يلاحظ القارئ للعمل مدى التناغم الحاصل بين العناوين، وهذا اشتغال موفق إلى حدِّ تناغم السرّد مع  تيمة لطالما أحرقت أكباد الشعراء من غيرهم من الأدباء، ألا وهي تيمة الزمان، وما يشيرُ إليه من دلالات عميقة وجدانية وفكرية ونفسية.

 محددات الزمان:

يقوم السرد على بنية الزمان، نظرا لخاصية توالي الأحداث والوقائع في المسرود، وتتأسس الأحداث في مجملها على توالي الأفعال الصادرة من الشخوص، أو ما يجري عليها جرَّاء قوَّة الزمان، وتحكمه في فيزيائية المكان والأجسام والأحوال، ذلك أن الإنسان يمرّ بمراحل مهمة تخصُّ وعيه وتفكيره في قضية الزمان(1). وليس يخفى على أحد، البعد الوجودي والإنساني لهذا المفهوم في الحياة والكون، وذلك لاعتبارين:

– الأول: أن في الزمان تُؤْسَر حياة الإنسان وتحدِّد بدايتها ونهايتها، داخل الزمان “يعلن الإنسان مجيئه إلى الحياة، وبه يسجل رحيله عنها” (2). ذلك أن الحوادث تحدث وقع الحركة التي يقصد بها ذلك “التغير المتصل الذي يطرأ على وضع الجسم في المكان من جهة ما هو تابع للزمان” (3).

وعليه، فإن كل إحساس بالزمان يمثّل رصدا للحركة التي تساهم في إنجاز تحليل يضع (4) الفضاء والزمان في إطار وظائف الحالة والعمل، وتأويل العبور من فضاء إلى آخر (5)؛ مما يعني أن الشعور بالحياة مرتبط بخبرة الإنسان اليومية، فالسّرد له فعالية خاصة في المحكي وفي بنية الحكاية، لارتباطه بأحوال الشخصيات وتقلباتها وما تتعرض له. يتجسد الزمان في المجموعة القصصية للكاتبة المغربية سعيد قراري باعتباره ظاهرة ثقافية اجتماعية،  فلقد نبّهت إليه في دقة تصويرٍ لأوضاعٍ وأحوالٍ اجتماعية، تستحق الرصد وتسليط الضوء، وإزالة حواجز الصمت عنها، خاصة ما يتعلق بظاهرة تشغيل الأطفال، والهدر المدرسي المبكر، والجوانب السيكولوجية وارتباطها بالواقع.

تبقى الأزمنة المنفلتة في العمل السردي المدروس من الأعمال التي تنفتح على أسئلة إنسانية عدة، لها علاقة مباشرة بالزمان الإنساني الشامل، بدءا من زمن الطفولة إلى أزمنة النضج، تقول الساردة في قصة “وداعا.. أحلام الغد” على لسان طفلة المحطة، في قصة: “منذ نعومة أظافري، اختار الحرمان صحبتي رغم أني لم أبادله الإعجاب، أنا طفلة لم تفتح عينها في هذه الدنيا إلا على أم مكسورة الجناح، عملت جاهدة في بيوت الأغنياء على إبعادي عن شبح الفقر والحاجة، أما أبي فلم أعرف عنه إلا الاسم..”(6).

وإذا كان عموم هؤلاء المهتمين يعتبرون الزمان إشكالا مفتوحا، فلأنهم يؤكدون أن وجوده وعلاقته بالأشياء والمحيط والأفكار وبنية المجتمعات، لا يعكس دوما نفس المنطلقات والمعطيات والنتائج(7)، غير أن اندراج موضوع الزمان ضمن أبواب شتى من المعارف أمر طبيعي، لكونه مبثوثا في كتب الأديان والعقائد والتاريخ وكتب الفلسفة والآداب وما إلى ذلك.

لذلك لا يجب إقصاء البعد التداولي للغة كما تفعل بعض الدراسات التي تهتم بالأدب، بجهلها للسياقات التداولية التي ينشأ فيها هذا الأدب، دون الرجوع إليها(8)، بحيث يتم في ذلك تفضيل المقاربات التنظيرية والفكرية التي برزت في سياقات ثقافية مغايرة للأدب العربي، وقد لا تسعف في تفسير وقائعه ومقتضياته.

نتيجة لذلك فدارس الأدب شعرا ونثرا تلزمه العناية التامة بمكونات هذا الخطاب والارتقاء به لغة وثقافة، لأن الأدب كما يقول بذلك كل من أوستن ووارين: “مؤسسة اجتماعية، أداته اللغة، وهي من خلق المجتمع” (9). ولأن الأدب كذلك يمثل هذه الحياة: “والحياة في أوسع مقاييسها حقيقة اجتماعية واقعية” (10).

الذات وتشظي زمن الحلم:

ترغب الذات دواما في إثبات شيء خصوصي وقريب منها جدا، وإلا فلا يمكن أن نسميها بالذات؛ فالذات تحلم، ترغب، والحُلْمُ هو: الرُّؤْيا، والجمع أَحْلام. يقال: حَلَمَ إذا رأى في نومه حلما أحلما..(11) وهناك أحلام الواقع واليقظة، وهي التي تسري على الشخوص، وتغلب تيمة الحلم في المجموعة باعتماد العنوان الرئيس لها: “وداعا.. أحلام الغد”، نجد في نص “رحيل” المتضمن لثلاثة مقاطع زمنية متنافرة في نصين، ومنسجمة في النص الثالث، يكاشفنا النص الأول المعنون ـ حضور، أنه مسكون بوجع حلم هارب_ حلم الكتابة_ لأنثى” رحيل” لها رغبات أخرى غير تلك التي تفعلها جميع النساء في المطبخ والبيت، فسلطة القدر أحينا تشكل هذا الحضور بزمان ومكان قد لا يكونان محببان، تقول الساردة: ” فضلت الكتابة بين الآواني ورائحة الطاجين، تمنت ممارسة طقوس جلستها في روضة غناء، لكن.. “الله غالب” خاطبت نفسها بصوت غير مسموع، تذكرت أنها تكن لـ “لو”و “لكن” شيئا من الكراهية”(12)؛ في النص الثاني، غياب، نراه يعج بمكونات الزمان (غروب شمس، موعدا، ليلها، قرص الشمس الباهت، أسدل اللّيل ظلمته، جعلت من ليلها نهارا، عتبة الطفولة، خصوبة البراءة، أثناء النوم واليقظة، لا يمر يوم من تلك الأيام البائدة)، يبدو للمتلقي مدى كثافة حجم توظيف مادة الزمان في شتى أبعاده، ففي نص غياب تستحضر الشخصية شمولية عوالمه الهاربة والممتدة بين لحظة طفولة وسمتها بالبراءة وبين لحظة نضج وانتظار على مشارف الشرفة، هكذا ترسم لنا الساردَة مفارقة لحلم مأسورا بحبال الزمان الهارب والمنفلت، تقول: “لم تجد بدا من تشريح حفريات الماضي، أين نحتت أخاديد متفاوتة العمق، فنشأت سراديب حياة أجهضت أحلامها في المهد…كانت عتبة الطفولة أبهى وأجمل محطة في دنياها، حيث اقتات من خصوبة البراءة، أثناء الجد واللعب”(13)، ويطالعنا النص الثالث بين غياب وحضور، بصرخة تشبه إلى حد كبير صرخة الشعراء في وجه الزمان الهارب والمرغوب فيه،”ياليت الصبا يعود يوما، لأتركه يضمني إلى صدره الدافئ، فيدعوني إلى إطلاق سراح دموعي المتجمدة، بهذه العبارة ختمت جلستها المطوقة بأشباح الوحدة”(14)، إجمالا النصوص الثلاث ينسجها خط ناظم للزمان الهارب، فتلك طموحات ورغبات، كان بالمكان للذات أن تتصل معها لكن بفعل سلطة الزمان وقوته بين ما يرتسم في ما بين الحضور والغياب، لشخصية رحيل التي تفقد عوالمها وأحلامها.

بنية الزمان والحلم:

مما هو معلوم أن الحلم ألا يكون إلا في النوم، ولكن  أمكن الكلام عن أحلام اليقظة، يطالعنا النص الأول، “رحيل” وهو اسم على مسمى: “فنشأت سراديب حياة أجهضت أحلامها في المهد”(15)، وفي نص “المرحوم” المسكون بوجع الذكرى والموت والفقد، وفي أبعاده الإنسانية والاجتماعية بين الرجل والمرأة ترتسم علامات الصراع، صراع القيم والمبادئ تقول الساردة: ” أيئست من ضعفك المخجل لتستنجد بالقاضي، بيتك من قش وترميني بالحمم، لا تقف بما ليس لك به علم، أحِفْظك لأمور من هنا وهناك جعلك تظن أنك المتفقه الحكيم.. ما أبشع هذه الدنيا حين يصر أمثالك بحد على أخذ ما له وما ليس له ليمتطي صهوات الدين والحكمة وأقوال “ناس زمان” لقضاء مآربه”.”(16)، وتتجلى بنية الزمان والحلم المنكسر، حينما يحدث الانفصال وتحدث القطيعة واللاَّتحقق للرغبات أكثر تقول الساردة:”” سوف أحتسي سكرات احتضار ما يجمعنا”، باحت لنفسها بالقرار ومرارة الاعتقاد بدنو نهاية تدوي بين أركان أماكن ظنتها ستلخص لذكراها، تجهض حنينا شقيا، تدرك بشاعة وسط الطريق ووهم نهايته.. لا الرجوع من حيث أقلعت مُجْدٍ، ولا الاستمرار في المسير ممكن ..لا.. لا تريد أن تعرف معنى ذلك.. فحبها لحلاوة وهمها أقوى من كل حقيقة قد تلاحقها بمرارتها، سترجئ حلول شؤمها على حلم تأبطها من زمن الطفولة، لترفرف أحلامها راضية مطمئنة، تنعم بعذوبة حسن إدراك لذة النهوض بعد السقوط”(17).

انكسار الأزمنة وتهشم الذات:

تتعرض شخصيات المحكي لنوع من الانكسار والهشم والذوبان، فالعنوان الرئيسي للمجموعة  يبرز بعضا من الأزمنة المنفلتة، بنوع من التناغم بين مكون النص الرئيس الذي يتناظر مع بقية النصوص الثلاث التي تترجم حقيقة الانكسار ، ونقف أولا عند نص “الـمَتْعَلّمْ”؛  أمام واقع كان يفترض فيه تواجد شخصية “لمتعلم دريس” في المدرسة بدل العمل مبكرا في محل النجارة، ينفصل عن طفولته المبكرة، وعن اللعب مع أقرانه، ففي حرمانه من اللعب تُصور الساردة مشهدا مؤثرا: “كان يشجع صديقه، يناديه بأعلى صوته لينتصر وفريقه على الخصم، فجأة خمد حماسه، دوى صوت عنيف زلزل البلاط الشاحب الملامح تحت جسمه النحيل، سقط من فوق الكرسي، رأى خلفه “لمعلم المختار” بحاجبيه المعقودتين ينظر إليه غاضبا مع سيل منهمر من الأوامر”(18)، فالنّص يترجم ظاهرة اجتماعية تخص الهدر المدرسي المبكر عند الأطفال، فالشخصية الصغيرة “لمتعلم دريس” يتذمر كونه ربّما السبب في وضعه الذي لا يعجبه، يقول:” أوف.. ما قمت به البارحة أعيده اليوم وسأقوم به غدا.. لي لماذا أتذمر الآن، أستحق كل هذا، واللي ضرباتو يدو ما يبكي، أنا سعيت إلى ما أنا عليه…”(19)؛ أما النص الثاني “طفلة المحطة” فيصور بعدا اجتماعيا استطاعت فيه المجموعة ككل أن تسلط الضوء فيه على ظاهرة السماح في الأطفال مقابل الاغتراب في البلدان العربية مقابل المال، جاء على لسان الصغيرة:”. منذ نعومة أظافري، اختار الحرمان صحبتي رغم أني لم أبادله الإعجاب، أنا طفلة لم تفتح عينيها في هذه الدنيا إلا على أم مكسورة الجناح، عملت جاهدة في بيوت الأغنياء على إبعادي عن شبح الفقر، أما أبي فلم أعرف عنه إلا الاسم..

..

قاطعتها “عائشة” متسائلة:

– لكن ماذا تفعلين في هذا المكان، وأنت تنعمين بحضن أمك الدافئ؟

تنهدت بعمق، ثم أجابت:

– اعلمي سيدتي أن ذلك الحضن الدافئ سرعان ما تحول إلى صقيع، فقد عرض على أمي فرصة عمل في بلد عربي غني، هذا ما سمعتها تردده فرحة لإحدى صديقاتها.

– أظن أنها قبلت العرض أليس كذلك..؟

– نعم، هو كذلك، سارعت أمي إلى تهيئ كل ما يلزمها للسفر في وقت وجيز، لتفاجئني صباح يوم ليس كباقي الأيام نقشت في ذاكرتي دقائقه وساعاته بإزميل من آلام، قالت لي أنها ستسافر لتحضر الكثير من المال…”(20)؛ هذا المشهد يرصد وضع التَّخلي عن طفلة المحطة، دون اسم يذكر لها وبدون هوية، حيث ستنتقل من حالة التخلي عنها من قبل الأم إلى حالة استغلال بشع من قبل صديقة الأم بلا رحمة ولا شفقة، ولقد عرض عليها الذهاب إلى مدينة الدار البيضاء حيث توجد جمعية تعنى بالأطفال، إلا أنه: “لم تجد الطفلة ما تجيب به، اكتفت بشرود صامت، دارت نصف دورة، وغابت في زحمة المحطة ومشاريع السفر الغامضة”(21).

نجد سفرا آخر غامضا تسافر فيه شخصية “نجمة”، تتعرض أولا للهذر المدرسي فيتغير مجرى حياتها، ثم تفارق إخوتها وقريتها وعائلتها اتجاه المدينة للاشتغال في بيت من بيوتها خادمة، كل شيء سيتغير، مظهر ثيابها عالمها الصغير:” في ركن تحت نافذة ضخمة وضع فراش بسيط، بجانبه نعل بلاستيكي ولباس عليها ارتداؤه عند مزاولتها العمل..، ستفعل ذلك في الصباح الباكر أما الآن فستخلد إلى نوم غريب عن مقلتيها المنهكتين، تلقي برأسها الصغير العاري من ضفيرتيها الجميلتين، والمملوءة بحسرة سوداء على وسادة كالصخر تذكرها أنها لن تستيقظ غدا ولا بعده”(22)؛ ستهرب أحلام نجمة جراء الاستغلال البشع الذي ستتعرض له مما يزيدها فقدا وحرمانا وفقرا، وهي الطفلة القروية التي تصور مشهدا من مشاهد الطبقية المستغلة بلا عدل، حيث ستتعرض في النهاية إلى اغتصابها طفولتها وحياتها المبكرة، تقول الساردة: “تحت جنح ظلام حالك تمتد يد على جسمها لتفترشه وتنهش براءته، تنتفض الصغيرة من شدة الهلع المغموس في الألم المبرح، تحاول الصراخ، لكن صوتها يُكتم.. ! (23)؛ يحدث أن تكون نهاية نجمة ضوءا  مسافرا بلا إشعار، في زمان هارب وشعاع صغير سيتعرض لخفوت ماكر :”اطفأت نجمة وصارت جثة خالية من الحياة”(24).

سيمائية الحلم اليقظ الهارب:

تعكس المجموعة القصصية للقاصة المغربية الضوء على مواضيع  اجتماعية وطبقية وأسرية، كما في نص “السقطة الأخيرة” والهذر المدرسي، كما في نص “المَتْعَلم” و”طفلة المحطة”، حيث استغلال وتشغيل الأطفال، واغتصاب البراءة، كما في نص “نجمة” التي اختفت دون أن تلمع في السماء  ودون امتداد لها في الزمان المكان.

ويتطرق نص “على باب الله” وضعا لشخصية “رحيمو” بمطعمها المتنقل، وهي تدبر قوتها اليومي، ولكن سيمائية كونية تجعل وضعها لا يستقر، فتتحول من حال إلى حال، فيتلاشى الحلم اليومي البسيط بالنسبة إليها، تقول الساردة ” زخات أمطار قوية تتساقط بسخاء، رذاذها تدفع به الرياح من خلال نافذة القسم، ينبهني أيوب إلى ذلك، أسارع إلى إغلاقها، تتثاقل أناملي في القيام بالأمر.. فنظري منشغل بتأمل بطلة قصتي “على باب الله” وهي تجمع عتادها لتضعه وسط العربة الصدئة ذات العجلتين، مستعجلة، هاربة من ذلك الاحتلال، تعود خالية الجيب إلا من هم تدبير قوت أطفالها في هذا اليوم الجاف! في غمرة الفضول تسترق عدستي البصر لتلتقط صورتين لها وهي خائبة بين البرك! ((25).

ويشير نص “السقطة الأخيرة” لوضع العاملات في حقل البطاطس وما يراودهن من أحلام، رغم قساوة ظروف العمل فشخصية “مريم” تكافح لأجل عائلتها الصغيرة إلا أن الزوج يقامر ويسكر ولا يبالي،” ينسحب الزوج من تحت قبة المسؤولية الأسرية، يطلق خطاه المخمورة لريح اللامبالاة والتجاهل”(26)، حيث ستتبخر حياتها على الرصيف وتتحول إلى جثة مدرجة في دمائها جراء الأخطاء التي تتعرض لها باقي العاملات في الحقول والمعامل، تقول الساردة: ” تصرخ العاملات منبهات السائق بأن يحذر وأن لا يتحرك، ينشغل السائق بتوديع صديقه، صوت المحرك أقوى من صراخهن، تتحرك العربة إلى الوراء قليلا، تمر العجلتان الخلفيتان على جسم مريم… يمسك برأسه ثانية يجلس القرفصاء، يصرخ مخبرا العاملات قائلا: “الله يرحمها”…(27).

ومما نجده مهيمنا في العمل، تيمة التذكر بكل تداعياته، ويعكس نص، “صدى البقايا” ما ينبعث من الماضي الذي  الموجع والمتحول إلى ملاحقات مؤلمة للشخصية، تقول الساردة:” لم ينس أيضا مجرى دراسته تَغيّرَ ليأخذ اتجاها أملته تلك اللحظة وظروف كان أقساها موت أبيه حدث عرّاه من الأمان، أصبح أعزل وحيدا في منفى يئن حيرة وألما بين أحضان أم مكلومة يباغثها الموت لصا يخطف منها “زْمانها” وترتدي سوادا حالكا يبدو للآخرين بياضا ناصعا… أمام ذلك المكان المطبق على حبال تفكيرها تحزم حقائبها تحت جنح الظلام، تمسك بيد طفلها ويلتحقان برُكاب سفينة نوح.. تطل على ذلك العراء وتسخر من قبضته غير المحكمة..”(28).

يتقابل العنوان باعتباره مدخلا عاما، ونصا موازيا مباشرا مع بقية النصوص المصغرة، وبما أن تيمة الحلم غالبة، فبقية النصوص تراودها الأحلام المرغوب فيها، لكن يحدث أن يتقاطع المرغوب فيه مع تعارضات الواقع واكراهات الحياة الاجتماعية للشخوص، وهذا ما سنرصد في بقية النصوص، ففي نص “نحو الشاطئ” تقول الساردة عن حلم طال انتظاره” اختر موطنا آخر تمارس تحت سمائه غربتك وتسكب على أرضه العاقر الراقد من الدموع، سوف أملأ الفارغ من كأس الزمن لأمسح تصدعات غطت واجهة حلم أَلَمَّ بيومياتي، غير لون أشيائي حتى أني صرت أتساءل:” من تلك التي أنظر إليها في المرآة..؟”(29).

وتتكاثف تيمة الحلم أكثر في النصوص الأخيرة، فيبدو للمتلقي أنه يشكل بؤرة العمل خاصة في نصي “عبور” و “رنة نهاية”، تقول الساردة في النص الأول: “لا تبخسني حلمي خاصة وأنه أسلوب حياة في مجرى عمر لن يتوقف عن التقدم بي ولن أتوقف عن محاولة السعي به إلى حيث أريد…، كما ترى لم يعد هناك فيه متسع لحمل وتحمل متلاشيات الظنون..، لك ظنك ولي ظني الذي سأثق بركضي من خلاله..”(30).

ونود أن نختم بمقطع سردي تنكشف فيه تداعيات الماضي وتطلعات المستقبل، وكأن بين الماضي والحاضر انفلات الأحلام وهروبها وعودتها، تقول الساردة:”كن من شئت خارج وطني، فقد كنت وإن لم أشأ، سوف أكنس حياتي من بقايا ذكرياتك، لن أتردد في ترتيب أجزائي وفق ما ترنو إليه خطواتي، الأيام تسير بالعمر نحو لحدِهِ، وأزداد يقينا أن حاضري هو الزمن الوحيد الذي أشيد فيه أو أهدم، حاضر يتسلل بعدها هاربا من “أجندتي” المهترئة، لحظاته أوراق خريف يابسة، تأخذ مكانها في درج الماضي ذكريات تتعقب خطاي، وظلال مستقبل تصير حاضرا ثم ماضيا أما البعض الآخر فيتلاشى عدم في طي النسيان..”(31).

تنكشف أخيرا تيمة الأحلام مع بنية خفية للأزمنة النفسية والوجدانية، إذ الأحلام تطلعات ورغبات تسعى إلى التحقق، لكن، أحيانا تتواجه مع صعوبات واقعية، أو تتقابل مع ذوات أخرى تسعى ضد تلك الرغبات والتّطلعات، وأحيانا يكون الزمان حاجزا لهروب الأحلام تلك، على أساس مغالبته للإنسان وسطوته على جميع الموجودات، غير أن المجموعة القصصية “وداعا أحلام الغد” رصدت انزلاقات اجتماعية وواقعية لفئات هشة، تحتاج إلى مزيد من الاهتمام، بدءا من الأطفال المنقطعين عن الدراسة إلى أطفال الشوارع، إلى الزوجات، والعاملات، والمطلقات… والواقع أن نبرة الزمان منغمسة جدا في السرد خاصة أزمنة الطفولة والتذكر وما ينبثق بينهما من أحلام وترقُّبات.

هوامش:

1- من خصائص هذه المجوعة القصصية، اهتمامها بالحالات والوضعيات الزمانية والمكانية لشخصيات اجتماعية متفاوتة الأعمار والتَّموضعات الاجتماعية، خاصة التي تعيش على الهامش.

2- الزمان الدلالي، دراسة لغوية لمفهوم الزمان وألفاظه في الثقافة العربية، زكي حسام الدين مكتبة الأنجلو المصرية، مصر،ط.1، ص. 9.

3- المعجم الفلسفي، جميل صليبا، دار صادر بيروت،(د.ط)، 1/459

4- استحسنا هنا كلمة “يضع” عوض الكلمة الأصلية “يموضع”.

5- معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، ترجمة سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني بيروت، سوشبريس الدار البيضاء، ص. 66

6- وداعا أحلام الغد،سعيدة لقراري، مطبعة مراكش، الطبعة الأولى 2015، ص 22

7- على هذا النحو سنسعى إلى توضيح صورة الزمان وأنثروبولوجيته ، فلقد شكل بأبعاده الثلاثة منظومة فكرية ترجمت فعالية سلوك اجتماعي استطاع بكيانه التأسيس لمعرفة إناسية عبر الأشكال الحركية المتصلة بالزمان.

 8- نشير هنا إلى أهمية البعد التداولي للخطاب، إذ “التداولية تعني بالشروط والقواعد اللازمة بين أفعال القول ومقتضيات المواقف الخاصة به، أي العلاقة بين النص والسياق”.

9- بلاغة الخطاب وعلم النص: صلاح فضل، مكتبة لبنان ناشرون، الشركة المصرية العالمية للنشر-لونجمان، الطبعة الأولى1996  ص. 24-25

نظرية الأدب: رينيه ويليك وأوستين وارين، ترجمة:      محيي الدين صبحي، مراجعة: حسام الخطيب، ص. 97

10- نفسه

11- لسان العرب، مادة حلم

12- وداعا.. أحلام الغد، م س، ص10

13- نفسة ص11

14- نفسه ص12

15- نفسه ص11

16- نفسه ص14

17- نفسه ص16 ص17

18- نفسه، ص19

19- نفسه، ص20

20- نفسه ص22 ص23

21- وداعا أحلام الغد ص 25

22- نفسه ص27

23- نفسه ص 29

24- نفسه ص 29

25- نفسه ص30

نفسه ص30 26-

27- نفسه ص32

28- نفسه ص34

29- نفسه ص36

30- نفسه ص40

31- نفسه ص 44

بقلم: جامع هرباط

Related posts

Top