“العيد هو الجماعة”
ولأنه بالنسبة إلى جل المغاربة، “الفرحة كتكمل مع الحباب”، فإنهم يعتبرون أيضا أن “عيد الأضحى هو الجماعة” وبدونها يصبح العيد بلا طعم.. لذلك فإن اللمة العائلية تعد فريضة من فرائض العيد لمن استطاع إليها سبيلا، حيث يشد الآلاف من المغاربة الرحال لمسافات بعيدة داخل الوطن وحتى من بلاد المهجر، ليستمتعوا بلحظة اللقاء مع الأحباب في حضرة أضحية مليحة.
في هذا الصدد، يقول محمد (42 سنة) الذي ينحدر من إقليم تارودانت ويقطن مع أسرته الصغيرة في مدينة الدار البيضاء حيث يعمل: “بالنسبة لي فإن عيد الأضحى مناسبة لزيارة والدي وأعمامي وأخوالي في قريتي النائية، ولذلك فأنا أحرص على برمجة عطلتي السنوية لتتزامن مع عطلة العيد، حتى يتسنى لي نيل ثواب صلة الرحم والاستمتاع باللمة العائلية لأطول وقت ممكن وفي أحسن الظروف، والجميل أن العيد يصادف حاليا فترة الصيف والعطلة المدرسية لذلك فإن الأمر يكون ملائما لي من جميع النواحي، على الرغم مما يمكن أن نتحمله من مشقة على الطريق جراء الازدحام في وسائل النقل العمومي وحتى عندما نسافر بالسيارة، لكنها مشقة تهون في سبيل اللقاء”.
وبنفس السعادة تتحدث مريم (37 سنة) التي تعيش منذ سنوات في الديار الفرنسية بينما عائلتها تقيم بمدينة القنيطرة، قائلة: “الحنين إلى بلادنا يعيش بدواخلنا طوال السنة، لكن مع اقتراب عيد الأضحى تزيد لوعة الحنين مقرونة بذكريات الطفولة حول أجواء العيد الرائعة التي لا تضاهيها أجواء في أي مكان آخر من العالم.. فلا يسعنا إلا أن نشد الرحال إلى (البليدة) لنسعد بلقاء الأحباب والأصحاب في هذه المناسبة العظيمة”.
تآزر وتضامن
اللمّة واللقاء يستجليان تجذر وقوة عدد من القيم الاجتماعية والإنسانية الجميلة التي تكاد تغيب في باقي أيام السنة.. كقيمة صلة الرحم وقيمة التلاحم والتعاون اللذان يصحبان مظاهر الاحتفاء بالعيد وإحياء شعائره بدءا من صلاة جماعية صبيحة العيد ومرورا بالتعاون في عملية ذبح الأضاحي وتحضيرها، فضلا عن تعاون النساء وتسابقهن في تحضير أشهى الأكلات المغربية. ولا ننسى قيمة التآزر والتضامن حيث يكون عيد الأضحى أيضا فرصة لذوي الأريحية من أجل الوقوف إلى جانب المحتاجين.
منال (24 سنة)، وهي طالبة ماستر في شعبة العلوم الاقتصادية، تشتغل منذ سنوات كمتطوعة في عدة جمعيات، وقد خبرت بفعل احتكاكها بالفئات الهشة مدى الفارق الذي تحدثه لمسة حانية في عيد الأضحى.
تقول منال “عيد الأضحى المبارك هو مناسبة استهلاكية بامتياز كما نعرف، ولذلك فإن الفوارق الاجتماعية تبدو بصفة أوضح في هذه الفترة، وبالتالي فإن أي مبادرة تخفف من حدة الإحساس بالحرمان بالنسبة إلى فئات عريضة تساهم في تبديد تلك الفوارق، وفي إشاعة مشاعر السعادة والرضا عند الجميع، كما تعمل على تعزيز أواصر التلاحم وأسس الاستقرار في مجتمعنا”.
ولأجل ذلك تعرف فترة العيد نشاطا دؤوبا للعديد من الجمعيات والأفراد الذين يعملون على جمع التبرعات لشراء الأضحية للأسر المحتاجة، ومرافقتها أحيانا بتبرعات أخرى تتمثل في مواد غذائية وألبسة للأطفال حتى تكتمل الفرحة.
عيد “الشوبينغ” العائلي السنوي
بالفعل، وكما قالت منال، فإن عيد الأضحى مناسبة سنوية مهمة أيضا للرواج الاقتصادي والتجاري، فبالإضافة إلى حركة أسواق بيع الأضحية، تنتعش العديد من صنوف التجارة الجانبية حيث يقبل المواطنون على شراء مستلزمات الأضحية واقتناء الملابس الجديدة والتجهيزات المنزلية وحتى الأثاث أحيانا، وعلى الرغم من الإرهاق المادي الذي يصيب الأسر جراء كثرة التكاليف وارتفاع الأسعار بمناسبة العيد، إلا أن العديد منها يتخذ عيد الأضحى مناسبة لنوع من “الشوبينغ” السنوي لشراء “كل ما يلزم”.
وتشرح لنا ربيعة (50 سنة) هذه الميول عند بعض الفئات قائلة: “هناك بعض الأسر التي لا تتاح لها الفرصة لاقتناء العديد من احتياجاتها في باقي شهور السنة، فتكون مناسبة العيد وجولة شراء مستلزماته فرصة أيضا للاطلاع على ما جد في الأسواق من بضائع والحصول على احتياجات الأسر منها، علما أن (اليد كتكون مطلوقة) بأريحية أكبر في هاته الأيام المباركة..” تختم ربيعة حديثها مبتسمة.
وتعقب صديقتها نجاة (52 سنة) بالقول إن “مسألة الإقبال على شراء الكثير من البضائع والمؤن قبل العيد تعود ربما لسبب آخر كذلك، فشخصيا أحب عندما تنتهي أسرتي من الذبيحة أن نتفرغ للاستمتاع بأجواء العيد بصحبة الأحباب، وهذا يتطلب أن يكون كل شيء متوفرا في البيت حتى يتسنى لنا تحضير الأكلات المغربية الأصيلة التي تميز هذا العيد، وخاصة أن الكثير من الأسواق والمحلات التجارية تكون مقفلة في تلك الأيام”.
امبارك (57 سنة- صاحب محل بقالة وعطارة بأحد أحياء الدار البيضاء) يؤكد هذا الكلام مشيرا أن “العيد الكبير هو أفضل فترة رواج تجاري بالنسبة إلينا، وشخصيا أعمد لتشغيل مستخدمين إضافيين لمساعدتي في خدمة الزبائن الذين يقبلون على شراء أنواع المواد الغذائية والتوابل وأشياء أخرى كثيرة، وكل ذلك في الأيام القليلة التي تسبق العيد.. ورغم أن الفرصة تكون مواتية لتحصيل المزيد من الأرباح إلا أنني أكون مضطرا لإقفال المحل بيومين قبل العيد لأني متابع بالسفر لقضاء عطلة العيد مع أسرتي في البادية، ولا أعود إلى البيضاء إلا بعد مرور أسبوعين على الأقل”.
قبل العيد بأيام، تعج الأحياء بمظاهر رواج تجاري من نوع آخر، حيث تنتشر “فنادق الخروف” و”جلسات” بيع الفحم وأدوات الذبح والشواء، وينشط الباعة المتجولون في ترويج بضائعهم المختلفة وخاصة الخضر والفواكه ليقتني منها المواطنون احتياجاتهم لما بعد العيد. ولكن الحركة تتوقف عشية العيد لتفسح المجال في يوم التضحية لشباب يمتهنون شوي رؤوس وقوائم الأضحية. ويلاحظ استمرار عمل بعض محلات الجزارة داخل الأحياء لمساعدة الأسر في تقطيع الأضحية وتقسيمها، حيث يتراوح ثمن هذه العملية بين 50 و70 درهما. لكن العديد من الأسر أضحت توكل هذه المهمة المتعبة للجزار فيما تفضل أسر أخرى أن تقوم بها بنفسها. وبعد اليوم الثاني للعيد تختفي جميع مظاهر الرواج التجاري ليسيطر الهدوء التام على الأحياء بعد أن تنصرف الأسر للراحة والمتعة.
تقاليد راسخة
العيد الكبير بالنسبة إلى عزيزة (38 سنة) ليس فترة للراحة كما تقول، هو عيد “الشقا”، سواء بالنسبة للرجال الذين ترهقهم عملية الذبح وتحضير الأضحية، أو بالنسبة للنساء اللواتي يشاركن أيضا في هذه العملية من خلال تحضير أحشاء الخروف وتجهيز حفل الشواء “بولفاف” (ملأ أسياخ بقطع كبد وقلب الخروف التي يتم لفها في قطع من الشحم الرقيق)، والذي يكون أول وجبة يتناولها أغلب المغاربة يوم العيد. لكن عمل النساء لا ينتهي عند ذلك حيث يستمر ليومين أو أكثر بعد يوم العيد، فالنساء هن من تقع على عاتقهن مهام تقسيم اللحوم وتجزيئها حسب برنامج الوجبات الأسرية، كما يتولين إعداد العديد من الأصناف التقليدية الخاصة بعيد الأضحى، مثل “القديد” (اللحم المتبل والمجفف) و”التقلية” (يخنة أحشاء الخروف) و”المروزية” (وجبة عظام ولحم الخروف مرافقة باللوز والزبيب).. وغيرها من الأكلات التي تتفنن المغربيات في طهوها ويشركن فيها أطفال الأسرة، ذكورا وإناثا، الذين تكون لهم إمكانية تجهيز وجبات بأنفسهم وتناولها فيما يعرف بوجبة “خيلوطة”، وفي ذلك فرصة لتربية الأبناء على المحافظة على التقاليد المغربية وكذا على الاعتماد على النفس ومزج المتعة بالعمل، وهي سمة تميز هذا العيد حيث تقول عزيزة إن “الشقا يهون في سبيل إسعاد كل فرد من أفراد الأسرة بما يحب من (شهيوات) العيد”.
ومن بين التقاليد التي تنتشر أيضا في عيد الأضحى أكثر من غيره إقبال النساء على التزين بالحناء ووضعها على الشعر، وإشراك الطفلات الصغيرات في ذلك. كما يقبل الجميع كبارا وصغار على ارتداء اللباس التقليدي الذي تعرف تجارته بدورها رواجا كبيرا بالمناسبة.
ترسيخ التقاليد وتربية الأطفال عليها يتجلى كذلك في حرص الآباء والأمهات على مرافقة الصغار لهم في الزيارات التي يتم تبادلها بين الأهل والأصدقاء، إما في شكل زيارات خاطفة بعد صلاة العيد لأقرب الأقرباء، أو في الزيارات التي تلي يوم الذبيحة حيث تلتف الأسر حول وجبات الشواء وكؤوس الشاي المنعنع والحلويات والفواكه المجففة. وفضلا عن المتعة التي تتيحها تلك اللحظات، فهي تجسد أيضا حرصا على تقوية الأواصر العائلية والعلاقات الاجتماعية التي تكتسي قيمة دينية ووطنية وإنسانية بالنسبة إلى المغاربة.
وحول هذا الموضوع، يقول عبد الله (64 سنة، متقاعد من سلك التدريس في التعليم الثانوي) “في هذا الزمن الذي تطغى فيه الروح الفردية والاعتبارات المادية على العلاقات الاجتماعية، وكما عملت على تربية أبنائي على تقديس العلاقات الأسرية والإنسانية، فإنني أحرص على ترسيخ هذه القيم أيضا لدى أحفادي كلما أتيحت لي إمكانية لذلك، وتكون عطلة العيد التي يقضونها في بيتي فرصة لاصطحابهم معي لدى أفراد العائلة الكبيرة حتى يظل حبل المودة والمعروف موصولا بين الأجيال”.
والملاحظ خلال السنوات الأخيرة أن بعض الأسر لم تعد تهتم لهذه الأشياء، فالعديد منها أضحى يفضل أن “يجهز” على كل هذه التقاليد والقيم، معتبرا أن شعيرة التضحية وما يرافقها من احتفال ليسا بفريضة شرعية، وبالتالي فإنهما “لا يستدعيان كل هذا التقديس”، كما يقول عبد الكريم (45 سنة – إطار بنكي) والذي يفضل أن يبتعد هو وأفراد أسرته عن كل هذه الأجواء، حيث يذهب لقضاء عطلته في أحد الفنادق في الأقاليم الشمالية أو في الديار الإسبانية، ولا يعود إلا بعد أن ترجع الحياة في مدينته إلى وتيرتها العادية.
لكن سناء (35 سنة، مهاجرة تقيم في الولايات المتحدة الأمريكية)، تخالف عبد الكريم الرأي مؤكدة: “شخصيا أعلم أن التضحية سنة مؤكدة وليست فريضة، لكنني مع ذلك أتشبث بها كجزء من شخصيتي وهويتي المغربية.. منذ سنوات، كنا أنا وزوجي وولدي نتكبد عناء التنقل مسافة بعيدة إلى إحدى الضيعات في ولاية فرجينيا حيث نقيم، من أجل الاستمتاع بأجواء صلاة العيد وذبح الأضحية والاحتفال بالمناسبة بشكل جماعي مع أسر أخرى من الجالية العربية والمسلمة.. لكن منذ سنتين انفصلت عن زوجي وافتقدت لهذه الأجواء، ومع ذلك أتحين الفرصة لاسترجاع هذه العادة حتى في وضعيتي الحالية خاصة أنني أرغب أن يتربى ولداي على نفس النهج”.
عود على بدء.. فعيد الأضحى بالنسبة إلى سناء، كما هو بالنسبة إلى جل المغاربة في كل مكان، أكثر من كونه إحياء لشعيرة دينية، هو إحياء لرمزية ثقافية متجذرة في كيانهم، تعزز القيم الإنسانية الجميلة في الأفراد والمجتمع، وترفع منسوبها الأهمية الاقتصادية والاجتماعية التي يكتسيها العيد الكبير.