الأغنية المغربية العاطفية بين الأمس واليوم

“النار الحمراء في الجوف كادية
أجيني يا المالكاني أجيني يا المعذباني
بديك العيون سالباني واجيني يا لالة
النار الحمراء في الجوف كادية..”

هذا مقطع من تراثنا الغنائي الشعبي، وهناك امتداد لهذا الغرض الشعري في نتاجنا الغنائي عبر مختلف المراحل الزمنية التي قطعها؛ فالأغنية المغربية ذات البعد العاطفي، أي تلك الأغنية التي تتطرق إلى العلاقة بين العاشق ومعشوقته، تتبوأ المرتبة الأولى في ما يخص الأغراض الشعرية التي يتناولها إنتاجنا الغنائي، منذ بداياته الأولى ما قبل الاستقلال، إلى يوم الناس هذا.
فحتى في ذروة الصراع مع المحتل، كان الشعراء الغنائيون المغاربة يملكون الصفاء الذهني الذي يجعلهم يكتبون أشعارا عن المرأة، ليس الأرض كما قد يبدو مقصودا في بعض النصوص، بل الإنسانة التي يعشقونها والتي ربما استعصى عليهم الوصول إليها أو أنها صدت وجهها عنهم. وحتى حينما كان بعض الملحنين لا يجدون ما هو معروض أمامهم من قصائد مغربية عاطفية كانوا يلجأون إلى الآخر، وتحقق بهذا الصدد تراكم لأغاني مغربية كتاب كلماتها أجانب، سواء من مصر أو سوريا أو لبنان أو غيرها من البلدان.
كما هو الحال بالنسبة لأغنية: “حبيبي تعالى” التي كتب كلماتها الشاعر اللبناني إلياس فرحات، وقام بتلحينها فناننا أحمد البيضاوي وأدتها مطربتنا بهيجة إدريس.
هذا الإصرار على الاشتغال على الشعر الغنائي العاطفي حتى في أحلك الظروف السياسية والاجتماعية، يبين أن وظيفة الشعر لا تنحصر فقط في بث الحماس لمقاومة العدو أو محاربة الفساد، بل كذلك التعبير عن مشاعر إنسانية لها علاقة بالرغبة في إشباع حاجة عاطفية ذاتية، بمعزل عن قضايا الوطن الكبرى، دون أن يعني ذلك أنه شكل من أشكال الخيانة وجمود الحس الوطني.
عبر مختلف المراحل التي قطعتها الأغنية المغربية، سواء الشعبية أو العصرية أو حتى الفولكلورية، كان هناك حضور للجانب الذي يمس العلاقة العاطفية بين العاشق والمعشوقة، لا بل كان له الحضور الطاغي؛ فكل مطرب مغربي لا تخلو ذخيرته الغنائية من وجود أغاني من هذا القبيل، حتى بالنسبة لأولئك الذي صنفوا أنفسهم في فترة من الفترات ولظروف خاصة، ضمن خانة المطربين الثوريين، تغنوا بالمرأة باعتبارها إنسانة معشوقة.
هناك تفاوت على مستوى درجة حضور الأغنية العاطفية من مطرب إلى آخر، هناك من تجده يوازن بين مختلف الأغراض الشعرية، تجد لديه قدرا من الأغاني العاطفية يوازي الأغاني التي تتطرق للمشاكل الاجتماعية، بالقدر نفسه الذي يوازي الأغاني الدينية، إلى غير ذلك، ومن هؤلاء المطربين من تجد أغلب إنتاجهم الغنائي يصب في الجانب العاطفي، إلى حد أنه يصح أن يحملوا لقب مطربين عاطفيين. ومن المطربين من أبدع في الغناء العاطفي بشكل أفضل من غيره من الأغراض الشعرية.
لكن هل حصل تحول على مستوى الإنتاج الغنائي المغربي العاطفي عبر مختلف المراحل التي قطعها، أم أنه حافظ على السمات نفسها التي تطبعه، إلى حد أنه لا مجال للحديث عن تجربة خاصة بالأمس وأخرى ذات ارتباط بالحاضر؟ مما لا شك فيه أن الإنتاج على هذا المستوى ظل حاضرا، ولم يحدث في أي مرحلة من مراحل الزمن المغربي، أن تم القطع مع هذا النوع من الغناء، وهذا أمر طبيعي اعتبارا لأنه مرتبط بما هو وجودي إنساني.
عند إعادة الاستماع وقراءة نماذج متعددة من الإنتاج الغنائي المغربي الذي يصب في الجانب العاطفي، على امتداد زمننا المعاصر، يمكن الوقوف عند مجموعة من الملاحظات، خاصة ما يتعلق منها بالمضمون، هناك غالبا تلك العلاقة المتوترة بين العاشق ومعشوقته.
الشاعر الغنائي – مع العلم أن جل كتاب الكلمات هم رجال إلى حد أن منهم من يلجأ إلى الحديث بلسان امرأة- يعبر عن صعوبته في الوصال، هناك الهجر والتمنع والابتعاد والغدر والغيرة والقلق… و(آش داني وعلاش مشيت..) كما في أغنية خفة الرجل لإسماعيل أحمد.. و(هـذي ثلث أيام يا الناس ما شـفت غـزالي.. جفاني لمنام يا الناس معرفتشي مالي..)، تقول أغنية لعبد العاطي أمنا..
وقد تصل هذه الأزمة العاطفية ذروتها، كما في أغنية “آخر آه” التي أداها المطرب عبد الوهاب الدكالي:
” لم يعد قلبي ولا فكري معك
لم تعد كل المنى أن أسمعك
خمد الحب … خمد الحب الذي أذكيته زمانا
حبي الذي ما أقنعك

لم تكوني أنت إلا طفلة في الهوى
فالهي وصوني أدمعك
واحفظيها اليوم حتى تكبري
فعساها في غد أن تنفعك..”.

الخطاب الموجه إلى المعشوقة في هذا المقطع الغنائي، يتم بلهجة حادة، وقد أفلح الملحن الذي هو المطرب نفسه، في نقل الشحنة العاطفية للأزمة، سواء من خلال نطق كلمات بعينها بنوع من التشديد الذي يترجم الحالة النفسية الضاغطة للعاشق، وهو يرسل آخر آهاته إلى معشوقته.
ولعل أبلغ تعبير عن سيادة أزمة العلاقة العاطفية في الإنتاج الغنائي المغربي، ما تعكسه أغنية “احكم يا قاضي” لفاطمة مقدادي (وهي مطربة تمثل الجيل الثاني وقد ابتعدت عن ساحة الغناء في المدة الأخيرة، لكن إنتاجها الغنائي يظل محتفظا بقيمته الفنية العالية)، ففي أغنيتها الآنفة الذكر، يتم نقل الشقاق إلى قضاء الأسرة، يقول مطلعها:

“الصفا أنا كنبغيه
الصفا أنا كنبغيه
ما بغى يتهلاّ فيَ
ما بغاني نتهلا فيه
ما رضى يعطيني نية
والصفا أنا كنبغيه
دعيت ورفعت القضية
احكم يا قاضي عليَّ وعليه
ما بغى يتهلا في
ولا بغاني نتهلا فيه”.

باختصار، هذه العلاقة في مختلف أغانينا العاطفية، ليست عادية، وبالتالي كان من الطبيعي جدا أن يعكس اللحن هذا الشعور السلبي، ولهذا فالأداء غالبا ما يكون مطبوعا بالحزن والشجن، وهناك مطربون ومطربات، صار يغلب على أدائهم هذا الطابع حتى وهم يتناولون قضايا أخرى تبعث على التفاؤل والفرح والأمل.
وهذا الوضع ليس مقتصرا فقط على الفنانين المغاربة، بل نلمسه كذلك في الإنتاجات الغنائية الأجنبية، سواء عربية أو أوروبية أو غير ذلك.
يمكن اعتبار هذا المعطى بمثابة قاسم مشترك بين مختلف إنتاجاتنا الغنائية، مع وجود استثناءات قليلة، تعبر عن ذلك الانسجام والتوافق والسكينة التي يفترض أن تطبع العلاقة بين العاشقين، كما في مجموعة من أغاني المطرب عبد الوهاب الدكالي، علما بأن هذا المطرب يعد في حدود اطلاعي، أكثر الفنانين أداء لهذا اللون الغنائي.
غير أن هذا لا يمنع من الوقوف عند تحولات وسمت هذه التجربة الغنائية، خاصة في ما يتعلق بالقاموس اللغوي وكذلك في ما يخص الصورة الشعرية وعمق هذه الصورة وكثافة حمولتها الدلالية؛ ففي وقتنا الحاضر، خاصة، مع الجيل الجديد من المطربين والمطربات: حاتم عمور، سعد المجرد، دنيا باطما، عبد الحميد الدوزي.. وغيرهم. صارت الأغنية المغربية العاطفية، مطبوعة بالكلمات الحادة المجردة من الشاعرية القريبة جدا من القاموس الذي يستعمله في العادة ممارسو المعاكسات في الشارع والحافلات:
“تلعبي عليه العشره
ما يعاودش الهضره
يكون راجل مرا
لا لا بزاف على درويش..” تقول أغنية “أنت باغية واحد” لسعد المجرد.
..
مطرب آخر من الجيل الجديد، هو حاتم عمور، له كذلك رصيد من الأغاني التي تترجم العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة، ومرة أخرى فإن توتر العلاقة وصداميتها هو الحاضر في هذا العمل الغنائي، يقول في أحدث أغانيه الموسومة بـ “آلو فينك؟”:
“أنت كذاب أنت كذاب
أنا مليت بركة عليا من العذاب
ألو فينك قول ليا ألو فينك
ألو فينك قول ليا ألو فينك
لا لا لا تكذب عليا لا لا
نموت ونعرف قول ليا ألو فينك..”.

يقترب هذان العملان الغنائيان من أغنية عبد الوهاب الدكالي من حيث العلاقة المتوترة مع الجنس الآخر، غير أنه شتان بينهما وبينه من حيث الصورة الشعرية والدلالات الرمزية المعبر عنها.
هذا التحول في الحمولة الدلالية للأغنية المغربية، جاء نتيجة لعدة عوامل، من بينها أنه لم يعد المطرب المعاصر يهتم بالتعامل مع شعراء حقيقيين، كرسوا حياتهم لكتابة الشعر الغنائي، وبهذه المناسبة نترحم على شعراء غنائيين مغاربة أغنوا خزانة الأغنية المغربية، في مختلف الأغراض الشعرية، أمثال: علي الحداني وأحمد الطيب العلج وحسن المفتي..
شتان بين ما كان ينتجه هؤلاء وما صرنا نقف عليه اليوم من شعر غنائي، في واقع الأمر لا يمت بصلة إلى الشعر، لقد صار المطربون الجدد يسعون إلى اللحن الذي يمكن أن يحقق أعلى نسبة من المشاهدة، بصرف النظر عن قيمة الكلمات، إلى حد أن أصحاب هذه الكلمات يبدون مجرد أشباح، وصار من الصعب الحديث عن جيل جديد من الشعراء الغنائيين.
التحول إذن الذي يطبع الأغنية المغربية المعاصرة، سواء ما تعلق منها بالعاطفي أو غير ذلك من الأغراض الشعرية، هو تحول سلبي، ولا يمكن تصحيح هذا الوضع، دون مراجعة حقيقية للكيفية التي يتم بها إنتاج الأغنية، كلمات ولحنا وأداء وتوزيعا.

> بقلم: عبد العالي بركات

Related posts

Top