الأوبئة والتاريخ، القوة والامبريالية -الحلقة 13-

يفتح هذا الكتاب القيم عين القارئ على بعض من تاريخ الطب وعلم الأوبئة، وعلاقة الانتشار الوبائي بجشع الإمبريالية والحركة الاستعمارية. ويبين شلدون واتس مؤلف الكتاب، كيف استخدمت قوى الاستعمار مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” ليسهل أمامها اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركيتين. ولم تكن نشأة المؤسسات الطبية الغربية خارجة عن هذا السياق العام الذي يحكمه منطق القوة وسيطرة القوى الاستعمارية على شعوب العالم. يجد قارئ بيان اليوم في هذا الكتاب تفاصيل مذهلة تؤكد في مجملها ارتباط مفهوم “مقاومة الأوبئة” بغايات استعمارية.

المنهج التجريبي في البرهنة على وجود العدوى

وهي الحقيقة التي رددها المؤلف، حين يرى أنه: “من غير المؤكد أن المتعلمين في الجامعات من الأطباء على نمط طب جالينوس قبل روبرت كوخ- قد ساهموا بدرجة كبيرة في التحكم في الطاعون.
ويذكر ابن الخطيب في رسالته المنطقية عن العدوى : “لقد ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة وهي قواعد البرهان عنده. فالاعتماد على التجربة كان المنهج الذي اتبعه ابن الخطمية في البرهنة على وجود العدوى …… المنهج التجريبي أيضا هو ما اعتمد عليه الرازي في مستشفاه حيث قسم مرضاه إلى مجموعتين لتجنب انتشار المرض.
يتضح إذن، أن المنهج الجديد الذي انتقل إلى أوربا كان المنهج التجريبي الذي تبناه الأطباء الأوربيون، والذي أثار ضدهم الأطباء الذين يعملون حسب قواعد طب جالينوس القديم، التي ترى أن المرض يحدث إما نتيجة للهواء الفاسد أو الأبخرة العفنة (المياسما) أو نتيجة لحركة النجوم في السماء. إن السؤال عمن أنشأ الأسلوب التجريبي … لهو جزء من سوء الفهم الهائل من جانب مركزية أوربا لأصول الحضارة الأوربية، فقد كان أسلوب التجريب العربي في وقت روجر بيكون (1219 – 1299) منتشرا ومؤتيا ثماره في جميع أرجاء أوربا.. ولم يكن العلم العربي التجريبي بمثابة الشرارة الأولى لنمو أوربا وازدهارها، وإنما تجاوز ذلك في قوة تأثيره فيها والأخذ بيدها لقد كان هذا العلم بمثابة الوقود الفائق الأثر الذي قدمه العرب بعد عام 1100م، أي منذ منتصف القرن الثاني عشر، على شكل موجات متتالية من الرياح القادمة مع طلاب العلم العائدين من دراستهم بالجامعات العربية، أو من خلال الترجمات الوافدة من مدن طليطلة وسالرنو وباليرمو بصقلية، وعبرجيوش الحجيج وفرسان الحروب الصليبية العائدين من الأراضي المقدسة، الذين أحضروا معهم كل المدهشات التي أنجزتها تلك الحضارة الغالية والفائقة والمرتكزة على عناصر التحضر، وعلى مهارات بارعة وخلاقة ومعارف عميقة”.
يبدو من رسالة ابن الخطيب العلمية والمنطقية، ومن تأليف كل من ابن الخطمية والرازي أن الطب العربي كان هو المبتكر الرئيسى للنظرية العامة للعدوى، ولعلم الأوبئة بمعناه الحديث، فهم الذين وضعوا أصوله ومبادئه، ويتضح أيضا أن الطب العربي هوالذي وضع قواعد مقاومة الأمراض الوبائية واخترع الحجر الصحي، وهی المفاهيم التي انتقلت إلى مدن الشمال الإيطالي، وهي حقيقة جلية تذكرها المراجع وتؤكدها الكتابات المنصفة: ” ففي عام 1382م، وبعد انتشار وباء الطاعون للمرة الثانية في هذا القرن نشر شاليه دي فيناريو، وهو أستاذ بجامعة مونبيليه، الذي كان المثل اللاقط لكل معارف الأندلس – كتابا عن الطاعون قال فيه بانتشار الوباء عن طريق العدوى فقط، ونفى التأثير الذي زعموه للنجوم وغيرها …. انتقل مفهوم العدوى إذن، إلى الأطباء في الجامعات الأوربية، وهو ما شكل الأجيال الجديدة من الأطباء الأوربيين التي وثقت في منهج الطب العربي، وقد ذكر المؤلف جانبا من الفكر الجديد لهؤلاء التجريبيين واستخدامهم للملاحظة في تفسير انتشار الوباء، وبأن هناك علاقة محتملة بين ازدحام الناس في الاحتفالات الدينية وانتشار الطاعون . هؤلاء الأطباء الجدد من جيل التجريبيين- أي الذين استوعبوا وآمنوا بالمنهج التجريبي للعلم العربي- هم الذين شكلوا قوة الضغط الجديدة في الاستشارات الطبية للمجالس الصحية في مدن الشمال الإيطالي، والتي استعانت بهم هذه المجالس لوضع الإجراءات المقاومة الطاعون، وهم الذين أصبحوا يحظون بالتأييد من قبل الكاردينال جاستدالی الذي صب جام غضبه على الأطباء الجامعيين من أتباع طب جالینوس.
لم تكتف باستشارة هؤلاء التجريبيين الجدد، بل إن هذه المجالس الصحية استعانت مباشرة واستقدمت الخبراء والأطباء المسلمين لوضع إجراءات مقاومة الطاعون موضع التنفيذ. عندئذ اتخذت السلطات تدابير وقائية ضد العدوى (في طاعون عام 1382)، خاصة المدن الإيطالية وعلى رأسها البندقية التي جمعت خبرة عظيمة من جراء احتكاكها بالعرب، واستعان المسئولون فيها بأطباء عرب قاموا بالإشراف على أعمال الاعتناء بالصحة والنظافة”().
وعندما ينسب المؤلف، وهو أستاذ التاريخ، اختراع مقاومة الطاعون إلى المدن الإيطالية، دون أن يشير بكلمة واحدة إلى رسالة ابن الخطيب أو إلى أقوال الرازی، فهو يشكل علامة استفهام كبيرة، وعندما ينسب المؤلف ظهور مقاومة الطاعون في مدن الشمال الإيطالي إلى هجرة المدرسين من بيزنطة نتيجة لسقوط القسطنطينية، وإلى ظهور الإحيائية وظهور فكرة إيديولوجيا النظام، فهو ينكر أية علاقة بين تطبيق إجراءات مقاومة الطاعون والطب والعلم العربي، ويلغي فترة ثمانية قرون امتدت بين عام 711م عام فتح الأندلس وظهور إجراءات مقاومة الطاعون عام 1950م نهلت فيها أوربا من ينبوع العلم والطب العربي دون حساب، وفي هذا لم يكن المؤلف منصفا بأية حال من الأحوال، رغم القول بحيادية المؤرخين.

> إعداد: سعيد ايت اومزيد

Related posts

Top