يفتح هذا الكتاب القيم عين القارئ على بعض من تاريخ الطب وعلم الأوبئة، وعلاقة الانتشار الوبائي بجشع الإمبريالية والحركة الاستعمارية. ويبين شلدون واتس مؤلف الكتاب، كيف استخدمت قوى الاستعمار مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” ليسهل أمامها اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركيتين. ولم تكن نشأة المؤسسات الطبية الغربية خارجة عن هذا السياق العام الذي يحكمه منطق القوة وسيطرة القوى الاستعمارية على شعوب العالم. يجد قارئ بيان اليوم في هذا الكتاب تفاصيل مذهلة تؤكد في مجملها ارتباط مفهوم “مقاومة الأوبئة” بغايات استعمارية.
تحركات البشر عامل مهم بالنسبة إلى انتشار الأوبئة
بالنسبة إلى المجموعات العمرية، فإن الأطفال تنقصهم المناعة ضد الأمراض المعدية، فهم معرضون أكثر من غيرهم للإصابة بالحصبة وشلل الأطفال، ولصغر حجمهم فهم معرضون أكثر لمشاكل سوء التغذية، كما أنهم معرضون للجفاف نتيجة للإسهال الذي يصاحب النزلات المعوية. وفي المقابل فإن كبار السن معرضون للمشاكل الناتجة عن الفقر أو الوحدة أو نقص الغذاء. وترتبط العدوى كذلك بالمجموعات الجنسية، فالنساء معرضات أكثر من الرجال لأمراض الحمل والولادة، بينما الرجال معرضون أكثر الأمراض القلب والشرايين وارتفاع ضغط الدم.
وتلعب الجماعات العرقية والإثنية دورا كبيرا بالنسبة إلى توزيع الأمراض المعدية. وتعرف المجموعات الإثنية بأنها مجموعات من الأشخاص تملك درجة كبيرة من التماثل أكثر من مجموعات السكان الآخرين بالنظر إلى نمط العادات أو الخصائص البيولوجية والوراثية. فقد لوحظ على سبيل المثال أن مرض “الخلايا المنجلية Sickel disease ينتشر في الغالب بين الشعوب الإفريقية جنوب الصحراء. وتفيد الإصابة ببعض الأمراض الحالة الزواجية، فالمصابون بالجذام ومرضى الصرع ( epi leptics) يكونون في الغالب غير متزوجين، كذلك فإذا أصيبوا أثناء الزواج يمكن أن ينتقلوا إلى وضع الانفصال. كذلك فإن العزاب وغير المتزوجين معرضون أكثر للإصابة بالأمراض التناسلية مثل الزهري. ويلعب التركيب العائلی دورا كبيرا في نمط انتشار الأمراض المعدية. فالجذام والسل والتينيا( tinea ) والجرب يمكن أن يصيب أي فرد من أفراد العائلة في البلاد ذات تقاليد العائلة الممتدة التي يعيش فيها أجيال متعددة في المنزل الواحد في المجتمعات الزراعية، وذلك بالمقارنة بوضع العائلة قليلة العدد في المجتمعات الصناعية.
هناك علاقة بين المكان ونمط انتشار الأمراض المعدية. ففي إفريقيا المدارية ينتشر حزام الملاريا ومرض النوم ( Trypanosoniasis) لانتشار العائل الناقل وهو البعوض في حالة الملاريا وذبابة تسی – تسی (Tse – Tse) في حالة مرض النوم. ويندر وجود هذين المرضين في المناطق الشمالية من العالم لعدم وجود مسببات هذين المرضين أو العوائل الناقلة لهما وفي البلاد الإفريقية توجد نسبة إصابة مرتفعة من أورام سرطانية أولية primary carcinoma)) للمريء والعضو الذكري والكبد، ونسبة إصابة منخفضة من هذه الأورام للصدر والقولون مقارنة مع دول أوربا وأمريكا الشمالية وتتوزع الأمراض المعدية أيضا في المناطق المختلفة في الإقليم أو البلد الواحد نتيجة لانتشار عادات غذائية معينة. ففي منطقة السواحل الشمالية لمصر تنتشر الإصابة بالدودة المعوية من نوع ( Heterophyes heterophyes) نتيجة لانتشار تناول الأسماك المملحة وتوافر القواقع الناقلة لهذا الطفيل. وتلعب فصول السنة التي تندرج بين الحرارة الشديدة في فصل الصيف والبرودة أثناء فصل الشتاء دورا كبيرا في نمط انتشار الأمراض المعدية. ففيروس الإنفلونزا ينشط أثناء فصل الشتاء، كذلك الميكروبات المذكورة المسببة لالتهاب الحلق واللوزتين، بينما يزداد انتشار الملاريا والكوليرا والدوسنتاريا الأميبية أثناء فصل الصيف نتيجة لتكاثر البعوض والذباب الناقل لهذه الأمراض.
حركة البشر وانتقالهم
تعتبر تحركات البشر عاملا مهما بالنسبة إلى انتشار الأوبئة، فقد نشر التجار، والعمال، والمهاجرون، والحجاج، والجنود، والرعاة والعاهرات- الأوبئة على مساحة واسعة من العالم، فقد أخذوا معهم نماذجهم المرضية ونشروا أمراضهم إلى آخرين، كما اكتسبوا أمراضا جديدة. ففي عام 1398م أبحر التجار من ميناء كريميا على البحر الأسود الذي كان موبوءا بالطاعون إلى أحد المواني الإيطالية، وقد انتقل الطاعون إلى إيطاليا ومنه وإلى إنجلترا، حيث تكرر ظهور الطاعون في صورة أوبئة استمرت لمدة 40 سنة وهو ما دمر قطاعا كبيرا من السكان، وقد انتقل وباء الطاعون إلى جنوب البحر المتوسط ليهاجم مصر عدة مرات منذ ذلك التاريخ حتى فترة القرن التاسع عشر، وهو ما أدى إلى تناقص عدد السكان بدرجة كبيرة، وقد لعب الرعاة دورا مهما في نقل الأوبئة من مكان إلى آخر، خاصة في فترات الجفاف والقحط. وقد فرضت الشعوب الرعوية مشاكل خاصة في مقاومة الأمراض الوبائية والطب الوقائي كما في حالة استئصال الملاريا في الصومال على سبيل المثال، فقد أعيقت إجراءات مقاومة الملاريا بدرجة كبيرة نتيجة لانتقال قبائل الرعاة من الصومال، الذين انتشروا على مساحة واسعة من البلاد لرعي أبقارهم، إلى كينيا وأثيوبيا وأوغندا.
يتبع
> إعداد: سعيد ايت اومزيد